السحب والإحساس
قتام المساء كان يسدل على الأثير ستار الإبهام والغموض. وها هو الفضاء أخذت الحركة تظهر في أرجائه، بعد أن ظل طول يومه باهت اللون جامدًا.
وها هي الألوان الفاترة، والأشكال اللطيفة المستترة في طيات السماء، بدأت تظهر في لباس مختلف من الصور والأشكال، حتى ليخيل للناظر أن هنالك رسامًا خفيًّا يظهر بريشته الساحرة شخصية تلك السحب اللطيفة التي كانت لا تستقر على حال.
كان بعض هذه السحب لا يكاد يأخذ لنفسه شكلًا مخصوصًا حتى تنحل أجزاؤه وتتناثر أقسامه في أطراف الجو، والبعض الآخر كان ينمو ويكبر إلى أن يشف فيصعد محلقًا في طبقات الجو حتى يغيب عن الأبصار.
ما أشبه سطح هذه السحب بالأماني العذبة، والآمال الذهبية الواهية! وما أبهج شكل هذه اللوحة الحمراء؛ أعني صفحة السماء وقت الغروب!
إن جماع هذه المناظر المعنوية لتذكرنا على الدوام بدقائق العمر الفانية، تلك الدقائق اللذيذة المملوءة بالأشواق.
ما السحب إلا كتاب يحوي بين دفتيه صورًا شتى من المشاعر والإحساسات، فبعض السحب تمثل بسرعتها وخفتها الأنفاس المتقطعة، وبعضها جميلة الشكل وسيمة الصورة كالآمال الحلوة، والبعض الآخر خلابة المنظر كالرغبات العذبة!
إن هذه اللعب الخفيفة المزينة ذات الألوان المتعددة والمشرفة علينا من السماء، لتمر وتنقضي كأزمان السعادة والصفاء.
فها هي الآمال والرغبات والأنفاس، وهاكم الخواطر القديمة والذكريات الماضية، متجسدة في شخص هالة السحب الملتفة بأردية بيضاء ناصعة كالزنابق، وحمراء صافية كالعقيق. وكنت أرى نسيم المغرب يدفعها جميعًا إلى الأمام فتنساق ممتزجة ببعض، متدافعة تدافع الإحساسات الغارقة في أمواج خضم الحياة.
إن السحب لتمر وتغدو كالإحساسات، فيقف الإنسان أمامها مفتونًا بالماضي مأخوذ اللب بالحاضر، وما أشد سعادته المعنوية وهو يراقبها ويناجيها في تلك الحالة، حينما تتمثل له أيامه الماضية متجسدة داخل ألوانها الزاهية، فيتذكر ساعات السرور والأشواق، وأوجاع الماضي وتأملاته!
هذه الأجسام المتماوجة المبرقشة المطلة على الأكوان من شرفتها العالية، تحتك بها ألوان الفجر الملتهب، وأضواء الشفق المذهب، تلك الأنوار التي نراها على مد البصر، فتشتد بهجتها ويزداد بهاؤها، كأنما جمعت في نفسها كل ما في الشرق والغرب من لطافة وملاحة، إلا أنها قلما تظل على حالة واحدة، فإنها لا تكاد تتجلى في عدة أثواب مختلفة من الزينة والبهرجة حتى تغيب عن الأنظار.
وكنت كلما راقبت سير هذه السحب، وتأملت مليًّا في معانيها الخفية تمتلئ جوانحي بالغبطة والسرور، ويخيل لي أني عائدة من حفلة سمر معقودة في قبة السماء؛ لأن النظر إلى هذه السحب الشفافة المنعكس عليها خيالات النفس وآمالها وأمانيها، يأخذ بيدي إلى عرش العواطف العلوية، وقمة الخيالات السامية، حيث يكون المرء بعيدًا عن مشاغل وسفاسف هذا العالم المادي، وإن الاشتراك بالحس مع هذه السحب، والاتصال بها فكرًا لمما يبعث الراحة والطمأنينة إلى قرارة النفوس المتعبة.
إن لحظة واحدة يقضيها الإنسان مبتهجًا برؤية قوافل هذه السحب التي تمر في ثياب مختلفة من الأضواء والألوان، لتكفي لتنقية الأمزجة من شوائبها وتأخذ بيد المرء إلى الغوص في نعومة الأحلام السارة.
فلو أننا فكرنا في قيمة الأيام الزاهية — التي تأخذ بيدنا إلى موارد الخيال وفي الرأس مال المعنوي التي تهبه لنا الليالي المنيرة — كم كنا نشكر السحب التي هي الملقن الأصلي والدافع الأقوى لإنجاز أعمالنا الروحية، والتي هي السبب في ظهور آمالنا وأحلامنا بمظهر بهيج ودواء حسن!
ذلك لأن كل إحساسات العالم تتجسم في أعماق السحب حين تشكلها وزوالها.