خاتمة
الرسالة الأخيرة مهداة إلى أشهر أديبات الترك في عصرنا الحاضر، ولما كنت في ترجمة هذه المقالات وغيرها من الرسائل المكتوبة بقلم صاحبة السمو أميرتنا الجليلة أرمي إلى الوساطة في تمكين المعرفة بين الأدبين التركي والعربي قدر الإمكان، فإنني لا أجد مندوحة من ختم هذا الكتاب بترجمة حياة الأديبة «خالدة هانم» سالفة الذكر نقلًا عن مجلة الهلال الغراء التي طالما أفسحت صدرها للمواضيع الدالة على النهضة النسائية بمصر.
خالدة هانم أول امرأة تقلدت منصب الوزارة
لئن حق للشرقيين أن يفاخروا أهل الغرب بمن نبغ من رجالهم، فأحق بهم وأولى أن يفاخروهم بنبوغ نسائهم؛ ففي الشرق اليوم امرأة نابغة جمعت من السجايا والمواهب ما قلما يتفق للنوابغ رجالًا كانوا أو نساء، وهي «خالدة هانم» التركية التي نالت بين أبناء جلدتها بفضل جرأتها وصدق عزيمتها وتوقد وطنيتها مقامًا هو غاية ما يصبو إليه الإنسان بين قومه. وهي اليوم ركن من أركان الحركة الوطنية في تركيا، وقد أسندت إليها وزارة المعارف في الحكومة التركية التي أنشأها الوطنيون في الأناضول، ولم نسمع بإسناد منصب رفيع كهذا لامرأة قبلها.
ولا يزال السوريون عمومًا والبيروتيون خصوصًا يتحدثون بإعجاب عن تلك المرأة التركية الجريئة، التي قدمت إلى بلادهم أثناء الحرب الأخيرة بمهمة فتح المدارس وإنشاء الملاجئ للأيتام والفقراء، فقد كانت «خالدة هانم» تسير مع زميلاتها في شوارع بيروت سافرة الوجه وعلامات العمل والنشاط بادية عليها، ولم يكن للبيروتيين عهد بتك الجرأة والحرية في المرأة المسلمة، فأصبحت مدار حديث الأهالي وموضع إعجابهم وقدوة لكثيرات من أخواتها المسلمات.
وقد فتحت «خالدة هانم» أبواب المدارس الفرنسية المقفلة وجعلتها مدارس أهلية وطنية؛ شعارها الاتحاد والوئام ونبذ فكرة التعصب، وكذلك أنشأت الملاجئ للأيتام والفقراء.
ولدت «خالدة هانم» من والدين متوسطي الحال، وكان والدها سكرتيرًا في دائرة الخزنة السلطانية الخاصة، وقد بدت على «خالدة هانم» منذ أول حداثتها بوادر الذكاء والفطنة، وكانت تظهر رغبة في المطالعة وميلًا للتبحر في العلوم والآداب، ولم يكن يؤذن للبنات الوطنيات في ذلك العهد بدخول المدارس الأجنبية، ولم تكن المدارس الوطنية لتفي بالحاجة. فتوسل والدها إلى السلطان عبد الحميد أن يأذن لابنته بدخول الكلية الأمريكية في الأستانة، فأذن له فدخلتها، ولم يمض زمن على ذلك حتى برزت على أقرانها، وتخرجت سنة ١٩٠١ بكالوريوس علوم، وهي في الغالب أول امرأة مسلمة نالت هذا اللقب.
قلنا: إن «خالدة هانم» برعت في جميع العلوم، إلا أن الهندسة كانت حجر عثرة في سبيل تقدمها، فأحضر لها والدها أستاذًا خاصًّا من أساتذة الجامعة السلطانية ليلقنها في المنزل ما أشكل عليها فهمه من هذا العلم، فلم يلبث بعد زمن أن علق بها فخطبها من والدها، ثم اقترن بها عن رضاها وهي لا تعلم أن لزوجها امرأة وأولادًا في باريس، على أنها لم تكن لتجد لها خلاصًا من تلك الحالة، فاضطرت إلى ملازمة خدرها، فكانت تصرف الأيام والليالي في مطالعة ما حوته مكتبة زوجها من التآليف النفيسة، ولا سيما الفرنسية منها، فكان لما طالعته تأثير شديد في نفسها الكبيرة، فلم تزدها هذه المعيشة الهادئة إلا رغبة في العمل واتساعًا في المطامع، ولم تلبث أن سنحت لها الفرصة المنشودة؛ إذ طلقها زوجها وأصبحت حرة في تكريس حياتها للجد والعمل، وكان ذلك قبل إعلان الدستور في تركيا.
فلما أعلن الدستور وأطلقت الحرية للأفكار والمطبوعات نشرت «خالدة هانم» قصيدة حماسية تخاطب فيها رجال الفرقة الرابعة (وهي التي تم على يدها قلب الحكومة الاستبدادية) بلسان مؤسس الدولة العثمانية.
فكان لقصيدتها وقع عظيم في النفوس فعرفها الناس وانتشر اسمها بين الجميع، ثم جعلت تنشر في الصحف روايات اجتماعية، كانت قد ألفتها في زمن تقييد المطبوعات، فصار الناس يطالعون كتاباتها بلهفة وشوق، ولكنها لم تقتصر على ذلك، بل جعلت تنشر في «طنين» مقالات اجتماعية سياسية فاشتهرت بسداد الرأي واعتدال الهمة.
وكانت «خالدة هانم» تجتمع دائمًا برجال تركيا الفتاة، ولا سيما أنور وطلعت وجمال، فتبدي لهم رأيها في شئون الدولة، وهم لا يستنكفون من الإصغاء إليها والعمل بآرائها. ولما قلب عبد الحميد الحكومة الدستورية سنة ١٩٠٩ ورد اسمها في قائمة المحكوم عليهم بالإعدام، فاضطرت إلى الفرار حرصًا على حياتها، فشخصت إلى القطر المصري ومكثت فيه إلى أن استعاد الوطنيون سلطتهم.
وقد تغير مركز المرأة في تركيا بعد إعلان الدستور تغييرًا عظيمًا. فأصبحت ترفع صوتها الضعيف على المنابر، وتسعى لرفع شأنها بإنشاء الأندية والجمعيات، إلى غير ذلك من دلائل النهوض، ومعظم الفضل فيما تم من هذا القبيل عائدٌ إلى «خالدة هانم». وقد تدرجت المرأة التركية في سلم الرقي، حتى أصبحت تعنى بالشئون الوطنية، والمسائل السياسية، ولما نشبت الحرب البلقانية انخرطت كثيرات من النساء في سلك جمعية الهلال الأحمر، وجعلن يكتبن ويخطبن ويحرضن على الجهاد في سبيل الوطن. وقد احتشد منهن يومًا عدد غفير يربو على خمسة آلاف في دار الجامعة السلطانية، فوقفت «خالدة هانم» تخطب فيهن بحماس عظيم، فكان لكلامها أشد وقع في نفوس السامعات. ولما فرغت من خطابها كان العرق يتصبب من جبينها من شدة التأثر والانفعال، فنزعت مصاغاتها الثمينة وألقت بها في صندوق أمامها لإعانة الوطن، فاقتدت بها سائر النساء وجعلن الواحدة بعد الأخرى يقدمن حليهن لهذه الغاية الشريفة.