الأهرام
لعل الأهرام صاحبة الحظ الأوفر مما قيل في الآثار من الشعر العربي. والقارئ لكتاب حسن المحاضرة لمؤلفه جلال الدين السيوطي، المتوفى سنة ٩١١ﻫ، وهو يجمع الآراء التي قيلت قبله يدرك مقدار ما كان من اختلاف في الرأي حول الوقت الذي بنيت فيه، وحول بانيها، والهدف الذي أنشئت من أجله.
ومن الطريف أن ننقل بعض هذه الآراء لنرى صداها في الشعر من ناحية، ولكي نرى الفرق الشاسع بين نظرة القدماء ونظرتنا اليوم إلى هذه الأهرام.
روى السيوطي أن جماعة من أهل التاريخ قالوا: إن الذي بنى الأهرام هو سوريد بن سلهوق بن شرياق؛ ملك مصر، وكان قبل الطوفان بثلاثمائة سنة، وسبب ذلك أنه رأى في منامه كأن الأرض انقلبت بأهلها، وكأنَّ الناس هاربون على وجوههم، وكأنَّ الكواكب تساقطت، ويصدم بعضها بعضًا بأصوات هائلة، فأغمَّه ذلك وكتمه، ثم رأى بعد ذلك كأن الكواكب الثابتة نزلت إلى الأرض في صورة طيور بيض، وكأنها تخطف الناس وتلقيهم بين جبلين عظيمين، وكأن الجبلين انطبقا عليهم، وكأن الكواكب النيرة مظلمة، فانتبه مذعورًا وجمَع رؤساء الكهنة من جميع أعمال مصر، فأخبروه بأمر الطوفان، فأمر عند ذلك ببناء الأهرام وملأها طلسمات وعجائب وأموالًا وخزائن وغير ذلك، وكتب فيها جميع ما قالته الحكماء، وجميع العلوم الغامضة، وأسماء العقاقير ومنافعها ومضارها، وعلم الطلسمات والحساب والهندسة والطب، وكل ذلك مفسر لمن يعرف كتابتهم ولغاتهم، وأحضر لها الصخور من ناحية أسوان، وجعل أبوابها تحت الأرض بأربعين ذراعًا.
وقد بدت هذه الحيرة في الشعر يومئذٍ، فقال بعضهم:
ولعل هذا الشعر من أول ما قيل في الأهرام؛ لأنه يتحدث عن ملاستها، والغالب أن يكون ذلك قبل أن يحاول المأمون فتح باب فيها عند زيارته لمصر.
والشعر ينبئ عن حيرة للعقول يومئذٍ في الأهرام، وما وقع في نفس الشاعر لها من الإكبار والإجلال. والبيت الأخير يدل على بعض ما كان يدور حول الأهرام من آراء.
ووجد الرأي الذي سبق أن عرضنا صداه في الشعر، فقد رُويَ أن أحمد بن طولون حفر على أبواب الأهرام، فوجدوا في الحفر قطعة مرجان مكتوبًا عليها سطورٌ باليوناني، فأحضر من يعرف ذلك القلم، فإذا هي أبيات شعر، فتُرجمت فكان فيها:
قيل: فجمع أحمد بن طولون الحكماء وأمرهم بحساب هذه المدة، فلم يقدروا على تحقيق ذلك، فيئس من فتحها.
وإذا صح هذا الخبر، فإن ناظم هذا الشعر أراد أن يضع ألغازًا لا يُستطاع حلها؛ ليظهر بمظهر العالم الخبير.
ولا يمكن أن يكون ذلك ترجمة لشعر كُتب على شيء في الأهرام؛ لأن الباني لها لا يمكن أن يكون قد أراد فتحها، ولكنه كان يرغب في أن تظل سرًّا مغلقًا إلى الأبد.
ولكنه في البيت الثاني يعلن أن هذه الآثار مهما تخلفت بعد أصحابها سيلحقها الفناء وتتبع من شادوها.
وقد قال المتنبي هذين البيتين بعد أن خرج من مصر في قصيدة يرثي بها أحد رجال مصر. ولم يُشر المتنبي إلى آثار مصر في غير هذين البيتين. أما عمارة اليمني فيملؤه الجلال عندما يرى الهرمين، فيرى الدهر عاجزًا عن أن تمتد إليهما يده، ويراهما مثال الإتقان، ولكنه يعلن عجزه عن الوصول إلى سرهما ويقول:
وتعبير الشاعر بخوف الدهر منها يصور مناعتها وقوة صلابتها.
أما أبو الصلت أمية بن عبد العزيز الأندلسي فيراهما أجمل شيء يمكن أن تراه العين في هذا الوجود؛ إذ يقول:
وأخذ صورة النهدين شاعر آخر، فجعل الأرض تكشف عنهما عندما أخذت تدعو الله أن يمنَّ على البلاد بالري بعد الظمأ، خوفًا على بنيها الساكنين في هذا الجزء، فاستجاب الله دعاءها وأغاثها بالنيل يروي ظمأها، ويشفي غليلها؛ وذلك إذ يقول:
واتخذ بعضهم شبه الهرمين بالنهدين دليلًا على أن مصر صدر الأرض، وعجب من أن يظلا ناهدين، برغم كثرة من ولدته من الأبناء، فقال:
أما ابن الساعاتي فيرى الهرمين من العجائب التي لا تحتاج إلى إسهاب في بيان غرابتها، فقد مرَّ عليهما أزمان طويلة الأمد، ولم يزدها ذلك إلا جدة في الشباب، فما أعجبهما من بناء أزلي يريد أن يصل بارتفاعه إلى عنان السماء، وإنهما في ثباتهما بمكانهما يشبهان وقفًا مُتبلِّدًا حُزنًا على الزمن الذي مضى، وإذا كانت الأهرام غير واضحة السر أمام العين، فإن العقل وحده هو الذي يستطيع أن يصل إليه؛ وذلك إذ يقول:
ولكن الشاعر لم يذكر شيئًا عن هذا السر الذي تفضي به الأهرام إلى الألباب، وإذا كانت الأهرام تزيد على الأيام شبابًا وقوة فلم تقف متبلدة حزينة على الأحقاب التي انقضت.
وجاء شاعر آخر فألمَّ ببعض معاني ابن الساعاتي، وشبهها بالخيام المقامة من غير عمد ولا أطناب، فقال:
وفي تشبيه الأهرام بالخيام ما يوحي بأن الشاعر رآها عن بُعد فكانت صغيرة، يذكِّر مرآها بمرأى الخيام.
ووقف ظافر الحداد أمام الهرمين وبينهما أبو الهول فرآهما كالهودجين لحبيبين مرتحلين، ووقف بينهما رقيب يحول بينهما وبين اللقاء، فذرفا دموعًا هي ماء النيل، وانتحبا لهذا الفراق بما نسمعه من صوت الريح العاصفة. أما المقطم فيشبه ركْبًا مسافرًا أدركه التعب فبرك على الأرض ليستريح؛ وذلك إذ يقول:
وتلمس الشهاب المنصوري للهرمين شبيهًا، فوجدهما مسافرين آبا إلى موطنهما فاستقرَّا، أو عاشقين وشى بحبهما أبو الهول، أو ضالَّين في الصحراء اهتديا بنجم السماء فأرشدهما، أو ظامئين استسقيا مطر السماء فهطل عليهما حتى روِيَا.
وأحس الشهاب بغيظ من الزمن منهما لعجزه عن أن ينال منهما منالًا، فقال:
ولا أجد في كل ما جاء به الشهاب المنصوري من تشبيهات مصورًا للإحساس النفسي إزاء الأهرام؛ فليس هناك شيء يربطهما بالمسافر أو العاشق أو الحائر أو الظامئ، ولكنه قد وفِّق في تصوير غيظ الزمان منهما.
وظل الشعر إلى العصر الحديث يحمل دلائل الحيرة والعجز عن الوصول إلى معرفة السر في إقامة هذه الأهرام، كما يحمل أسمى مظاهر إجلالها واتخاذها عظة تصل إلى أعماق القلوب وإن لم تنطق الأهرام بلسان، كما نتبين ذلك في قول فخر الدين عبد الوهاب المصري:
والشاعر هنا يكاد يستوعب ما رواه عصره من آراء في سبب بناء هذه الأهرام. ومما يُلحظ أنه منذ القدم قد قرر بعض الآراء ما نؤمن به في العصر الحديث من أنها بُنيت لتكون قبورًا لبُناتها، الذين كانوا يؤمنون بعودة الروح إلى جسدهم. وفي تشبيه الأهرام بالجبال تصوير للإحساس النفسي بضخامتها. ولأول مرة في الشعر، يوازن الشاعر بينها وبين إيوان كسرى ويفضِّلها على الإيوان.
ومن كل ذلك يتبين أن الشعر في القديم صوَّر حيرة الناس إزاء الأهرام، وأعلن إعجابه العميق ببنائها وبُناتها، ومضى يسجل إحساسه نحوها، وإن لم يستطع في أكثر الأحوال أن يرتفع إلى مستوى عالٍ ينبض بالقوة والحياة.
ومما يلحظ أن الذي حظي من الشعر في العصر القديم بأوفى نصيب إنما هما هرما الجيزة الكبيران. أما غيرهما من باقي الأهرام، بما في ذلك هرم الجيزة الأصغر، فلم يحظَ بنصيب من التقدير. ويرجع سبب ذلك إلى ما اختص به الهرمان الكبيران من ضخامة وإتقان بناء.
•••
ونالت الآثار المصرية، ومن بينها الأهرام، عناية كثير من الشعراء في العصر الحديث؛ نرى بشائر ذلك فيما قاله السيد علي الدرويش، المتوفى سنة ١٨٥٣م، في الهرمين الكبيرين:
وهي نظرة تشبه نظرة القدماء في بقاء الهرمين راسخين دائمين، وإن كانت صياغة الشعر غير قوية ولا رائعة.
وربما كان البارودي أول شاعر في العصر الحديث أطال في الحديث عن الهرمين، ورأى فيه أثرًا حَصاهُ أغلى من الدر، وصخره لا يقوم بالتبر. ولنصغِ إليه لنتبين ما في شعره من إحساسات شعر بها، وقد أقام بالقرب من الأهرام شهرًا يتردد عليها مستغرق الفكر فيها، متأملًا ما نُقِش فوقها، ناظرًا عبث العابثين بما كان فيها، فيقول:
وأول ما يُلحظ في هذا الشعر إذا وُزن بمعظمه الشعر الماضي قوة البناء، وشدة الأسْر، وإحكام النظم.
أما معانيه فقد رأينا بعضها فيما مضى من الشعر، وبعضها مما انفرد البارودي بالشعور به.
ففي مطلع القصيدة يوحي الشاعر بعظمة الهرمين عندما دعا إلى السؤال عنهما، عسى أن يعلم السائل أمورًا جليلة لم يكن يدري عنها شيئًا قبل هذا السؤال، وإنما يُسأل عن الأمر الجليل.
وفي الأبيات التالية يبين عظمة هذين الهرمين فيصور الصراع بينهما وبين الزمن، ويصور معركة انتصر فيها الهرمان على صولة الزمن، ويتحدث عن إعجاب الناس بهما على مر العصور والأحقاب، ويحكم حكمًا قاطعًا بأنه ما كان ولن يكون في الدنيا بناء يضارعهما.
وأصول هذه المعاني مما ألم به الشعراء الأقدمون، كما سبق أن أوردتها. أما المعنى الذي انفرد البارودي به، فهو أن الهرمين شاهدان على أن صاحبهما جدير بأن يفتخر بهما لما يدلان عليه من عظمة وعقل جبار، تمضي عقول الخلق في أثره تريد أن تتبين ما وراء بنائهما من أسرار تحاول أن تصل إليها ما بقي هذا الوجود.
وربما كان من آثار الأفكار القديمة في شعر البارودي ما كان بعض الناس يظنونه من أن الذين بنوا الأهرام أودعوا في رموزها جميع ما كان لهم من علم وحكمة.
ونجد من آثار الشعر القديم عند البارودي تشبيه الهرمين بالثديين، وللعين أثر في هذا التشبيه. وأما أن يجعل البارودي النيل قد فاض عنهما، فخيال مصنوع لا يقوم على أساس نفسي؛ لأن الواقف عند الأهرام لا يشعر من قرب أو بُعد بمثل هذا الفيضان.
ويمضي الشاعر في وصف أبي الهول الرابض بين الهرمين، فيقول:
والجديد في إحساس البارودي أنه شعر في نظرة أبي الهول إلى الشرق أنه مشتاق إلى مطلع الفجر، فليت شعري أيريد البارودي بمطلع الفجر إشراق نور المجد على الوطن الحبيب؛ ليعود كما كان في الماضي مجيدًا عظيمًا. وذلك إحساس طبيعي أقرب إلى النفس من إحساسها بأبي الهول رقيبًا على حبيبين يركبان هودجين، كما رأينا في الشعر القديم.
ويتحدث البارودي بعدئذٍ عن سعادته بمحاورته للأهرام شهرًا، لعله قضاه في دراسته لها، وتأمل فيما توحي به من المعاني إذ يقول:
ورسو أصلها وارتفاع بنائها ليكون مقرًّا للنجوم من المعاني التي جاء بها القدماء في الشعر، كما سبق أن أوردنا.
أما الجديد عند البارودي، فهو نظرته إلى الأهرام على أنها آيات تدل على عظمة الإنسان؛ إذ استطاع أن يأتي بهذه المعجزات.
ولست أدري — على وجه التحديد — لون الدراسة التي قام بها البارودي في الأهرام، وما النتائج التي ارتاح إلى الوصول إليها من هذه الدراسة التي يعلن أنه نال منها كل ما كان يتمناه، واستمتع بها كما يستمتع النشوان أسكرته الخمر، فهل كان يحاول قراءة ما على الأهرام من الكتابة الهيروغليفية، ويرى فيها روحًا تدب في الصخر فتحييه؟
وجديد كذلك في التجربة التي أحس بها البارودي شعوره بالحنق على هؤلاء الذين لم يراعوا حرمة هذه الكتابة، فحطموا بعض الصخور التي كانت مكتوبة لكي يصلوا إلى خزائنها وما فيها من ثروة وكنوز، وهو يصب جام غضبه على المعتدين على حرمة هذه الآثار ويقول:
وتلك أول صيحة في الشعر العربي تستنكر الاعتداء على الآثار، وتعتز بها، وترى قيمة حصبائها أغلى من الدر والذهب.
ويختم البارودي قصيدته مقلدًا الشعر القديم في إرسال التحية مع النسيم، والدعاء لها بأن يسقيها المطر فيقول:
وتلك نظرة جديدة إلى الآثار، أوحى بها ما كانت قد وصلت إليه الأمة المصرية حينئذٍ من تأخُّر وهوان، وما تدل عليه هذه الآثار من قوة وعلم وحضارة وصل إليها المصريون القدماء، فدفع ذلك إلى اتخاذ هذه الآثار وسيلة لحث الأبناء على اليقظة والعمل والشعور بالكرامة، حتى يكون الأبناء جديرين بأن ينتسبوا إلى مثل هؤلاء الآباء.
ويمثل النظرة الجديدة أوفى تمثيل قصيدة إسماعيل صبري التي أنشأها على لسان فرعون يحث المصريين على العمل المجيد، فيقول:
ففرعون في هذه الأبيات ينكر قومه، ولا يعترف بنسبتهم إليه إذا قصروا في طلب المجد، أو تهاونوا في السعي إلى العلا، ويقرر أنه لن يكون بذلك الأب الرفيع الشأن إذا لم يشبهه أبناؤه في علو الهمة، ولن يكون الملك المهيب القوي إذا لم يكن من أبنائه جيش قوي يُغير على الأعداء في قوة وجبروت.
وهو من أجل ذلك يطلب منهم أن يعملوا ويكدوا؛ لأن ماء النيل العذب لم يجرِ ليشربه كسلان، ولا يستحق بنُوه أن يرووا ظمأهم منه إذا لم يعملوا عملًا جليلًا، ولم يبنوا كما بنى آباؤهم من قبل، ولم يحاولوا تذليل المستحيل حتى يصير ممكنًا، واستمع إلى فرعون يحثُّ بنيه على العمل قائلًا:
ذلك ما قاله فرعون، وأمره واجب الطاعة تلبيه الجماهير التي تملأ الوادي بآثارها:
والشاعر يشير بذلك إلى أن أهل مصر كانوا كفرعون مغرمين ببناء المجد، فلا يكاد فرعون يدعوهم إلى تشييد مأثرة حتى يتسابقوا إليها فرحين مُجدِّين. وهو بذلك لا يقبل رأي أولئك الذين يزعمون أن تلك الآثار بناها المصريون بالظلم والسخرة والاستبداد.
ويمضي الشاعر متحدثًا عما شادوه من آثار حديث المعجب المفتون، فيقول:
والأبيات تحمل أقصى دلائل الإجلال لقدماء المصريين الذين يبنون ما تحار أمامه الأجيال، وما تقر بعظمته وجلاله، ويؤكد ما أشار إليه في الأبيات السابقة من غرام المصريين بالمجد، وإسراعهم إلى بنائه رغبة منهم في إتقان ما يعملون، وحبًّا لملكهم لا خوفًا منه ولا طمعًا فيما بيديه من المال.
ويخص الشاعر الأهرام من بين تلك الآثار، فيقول:
وإذا كان الشعراء قبله قد تحدثوا عن بقاء الأهرام، فقد انفرد صبري بإحساسه بأنها تسخر بما يهدمه من القصور والأواوين، وربما كان يريد بذلك ما صرَّح به البارودي من صرح بابل وإيوان كسرى. وجميل جدًّا تصويره ما استطاع الليل والنهار أن يأخذاه منها بما يستطيع النمل أن يأخذه من جبل ضخم، وهو بلا ريب شيء تافه لا يؤبه له.
ويذكرنا قول إسماعيل صبري بأن الأهرام كأنما بناها شياطين لشيطان بقول البحتري في وصف إيوان كسرى مبديًا أقصى ما يمكن من الإعجاب به:
لأن كلمة الشيطان، ولا سيما في عصرنا الحاضر، وكلمة الجن توحيان بالأعمال الخارقة للعادة.
ويصور الشاعر الجموع التي تفد لزيارتها، فيجدون كل موجود ضخمٍ صغيرًا بالنسبة إليها، حقيرًا إذا وُزن بها، ويعودون معترفين بفضل المصريين، مقرين بما لهم من فضل وإحسان، فيقول:
وقصيدة إسماعيل صبري تشترك مع قصيدة البارودي في تمجيد الأهرام والإشادة ببُناتها، وتنفرد عنها بالدعوة الملحة إلى التعب والجهاد لكي يصبح الأبناء جديرين بآبائهم الأمجاد.
ويتخذ السيد محمد توفيق البكري الهرمين شاهدين على عظمة المصريين شهادة لا يمكن إنكارها؛ إذ يقول:
ونظر الشعر إلى الأهرام والآثار المصرية بعامة نظرة جديدة بعد إسماعيل صبري؛ تلك هي نظرة الفخر بها؛ لأنها من صنع أيدي آبائنا وأجدادنا. وكانت هذه النظرة طبيعية لشعراء وجدوا في عصر يريدون أن يكون من رسالة شعرهم أن يقوي الروح المعنوية في نفوس أبناء وطنهم، وكان فارس مجال هذه الحلبة أحمد شوقي، الذي بز جميع الشعراء في تمجيد الآثار المصرية والفخر بها؛ فهو في قصيدته كبار الحوادث في وادي النيل يقول:
ولم تظفر الآثار المصرية من قبلُ بمثل هذا الدفاع المدعم بالحجة، ورفع الفراعنة عن أن يكونوا قد شادوا هذا المجد بيد الظلم وتسخير الرعية، وتحس في هذه الأبيات بروح الاعتزاز بتلك الآثار، وبتاريخ الآباء الذين حكموا وسادوا.
وشوقي يرى الأهرام جبالًا نقلها الإنسان، وليس من الممكن نقل الجبال العالية، ولا بلوغ أعنان السماء، ويرى عزائم فرعون أشد بأسًا من الجن؛ فقد شاد ما لم يستطع أن يشيده أحد في هذا الوجود. أما الهياكل التي أنشأتها مصر، فإنها خالدة في حين تفنى الديانات والناس والقرون، وأما القبور فإن الليالي تتكدس فيها، ويخشاها الليل والنهار، والبلى والفناء.
ذلك مجد باذخ أثار حساد مصر، فأرادوا أن يقللوا من شأنه، فزعموا أنها بنيت بيد الظلم، ويستبعد شوقي ذلك الزعم بما كان في مصر من قضاء عادل، وما كان لبَنِيها من حكمة وذكاء، وما أشرق فيها من علم ناضج، وما في أبنائها من عزة. وليس معيبًا أن يقوم الأسرى بالعمل في إقامة هذه الآثار.
ويختم شوقي هذه الأبيات ببيت حماسي يتبرأ فيه من الفخر، إن كان الفخار غير ما أتى به هؤلاء الفراعنة.
وإذا كان شوقي قد نفى عن ملوك مصر القدماء تهمة التسخير، فقد نفاها قبله إسماعيل صبري، كما سبق أن رأينا.
غير أن شوقي قد سلم مرة بأن تلك الآثار قد شادها الظلم، ولكنه ظلم في سبيل إشادة المجد، وبناء آثار تنبئ عن عظمة الإنسان، حتى إن الظلم ليشرق وجهه فخرًا عندما تعد تلك الآثار من صنع يديه:
وأُعجب شوقي كغيره من الشعراء بالأهرام، ويرى عليها من الجلال ما لم يره على السهول والجبال، ولها من الروعة القدسية ما للمعابد، ويحس بأن لها روحانية. وهذا إحساس انفرد بتصويره شوقي، كما أنه يرى أنها قد استقرت قواعدها فوق الثرى بما أوتيه المصريون من عقل راجح وذكاء، وأنها ارتفعت إلى عنان السماء بفضل ما أُوتوه من خلق رفيع هو بلا شك خلق الثبات والمثابرة والطموح؛ وذلك إذ يقول:
وهذا الشعور بروحانية الأهرام وقدسيتها رأيناه يظهر مرة أخرى عندما وقف عند قبر نابليون، فناجاه بقوله:
ويرى الأهرام توحي إلى الأجيال بمعنى الثبات والجد والكفاح، وتلك المعاني هي التي استوحاها نابليون في معركته ضد المماليك؛ ولذلك قال شوقي وهو يحيي الطيارين الفرنسيين، معيدًا إلى أذهانهم تلك الذكرى، وكيف جرح نابليون عزة الأهرام، وجزته على ذلك بهزيمته في الحرب وأسْره وموته في المنفى، فلما عاد إلى وطنه ليدفن فيه كان جريحًا في عزته ومجده. لقد استوحى نابليون الأهرام عندما وقف على الهرم يشجع جنده: «أيها الجنود، إن أربعين قرنًا تنظر إليكم من قمة الأهرام.» ويسجل شوقي ذلك في قوله:
ويناجي نابليون قائلًا:
وإذا كان نابليون قد تلقى عظة الأهرام، ووعى الدرس الذي أوحت به إليه، فإنه يثور ثورة عنيفة على المصريين الذين لم يَعُوا هذا الدرس ولم يُصغوا إليه. وتحس بهذه الثورة في قوله:
ولم تغِبْ صورة الأهرام عن مخيلته وهو في مغتربه بالأندلس، فنسمعه يقول في قصديته السينية:
وتخيل الأهرام موازين يشير إلى ضخامة ما يوزن بها من فدية الأعداء، وتخيلها قناطير يشير إلى ضخامة الثروة التي كانت لفراعنة مصر. وهو في منفاه يتخيل روعتها في الضحا، وما يكسوها من الرهبة إذا جن الليل، حتى كأنها ملعب للجن. وفي التعبير بروعة في الضحا تصويرٌ لما يحمله لهذه الأهرام من الإعجاب.
ويقول في القصيدة النونية الأندلسية أيضًا:
فهو عندما يتخيل الأهرام وبناءها يهتف من أعماق قلبه بأن ما قام في الأرض من حضارة في البناء إنما وضع أسسه المصريون، بل إن ثبات الأهرام وخلودها مما يوحي بأن الباني لها إنما هو الطبيعة نفسها، وكأنما نشأت بفعلها لا بيد فانية.
ولكنني لا أرى في تشبيهها بأساطين سفينة غرقت تشبيهًا يُبرز جلالها، ويوحي إلى النفس بعظمتها وروعتها، وليس لهذا التشبيه أثر حظ من الجمال تحس به النفس، وإنما هو وقوف عند حد التصوير البصري.
وفي البيت الأخير عود إلى خواطر الميزان وكنوز فرعون، مما ألم به في القصيدة السينية.
- العنصر الأول: يتساءل فيه شوقي عن بناء الأهرام، وهل هي آثار جليلة أم دلائل على الظلم والأنانية، وشواهد على إجرام مُنشئيها، وبموازنة ذلك بما سبق أن أوردناه لشوقي، يتبين هنا تردده، في حين أنه كان هناك قاطعًا مرة بأنه لا أثر للظلم في بنائها، ومرة بأنها ظلم يبيضُّ منه وجه الظلم. وأرى أن جعل الأهرام أشياء يستدل بها على الطريق أمرٌ تافهٌ لا يتناسب مع عظمة الأهرام.
- والعنصر الثاني: اتخاذ الأهرام عظة وعبرة لما مر عليها من دول، وما شاهدته من تعاقب الممالك في هذا الوادي. وجعل شوقي الرمال التي حولها غبار هذا الركب المسافر من الأجيال المُعاقبة.
- أما العنصر الثالث: فهم الأنبياء الذين رأتهم الأهرام يدرجون في حرمها ويُبعثون كموسى وعيسى ويوسف.
ويختم شوقي قطعته مبديًا إعجابه بتلك الأهرام لما تدل عليه من خلق جليل أساسه المثابرة والثبوت، ومن جبروت عقل استطاع أن ينشئ هذه المعجزات، ومن فن رفيع كان هو مشرق الفن في هذا الوجود.
•••
أما خليل مطران فلم يرَ في الأهرام ما رآه غيره فيها من الجلال، وما أحس به من أنها مصدر مجد وفخار، ولكنه رآها مصدر عارٍ لبُناتها؛ فإن الملوك الذين أشادوها استعبدوا أمتهم في بنائها، فاعتاد بنوها المعبودية، فسهل على العدو استعبادهم، وفي ذلك يقول مطران:
ويتخيل خليل تلك الأيام التي كان العمل يجري في بنائها، فيصور له الخيال عمالًا كعدد الرمال لا يستطيع العد إحصاءهم، قد اصفرت وجوههم من تعب العمل، ونديت جباههم بالعرق، وذبلت أجسامهم من الضنى، فصاروا كالكلأ اليابس عليه قطرات الندى. لقد أحنى الجهد الثقيل أجسامهم يمشون في شقاء لا يُسمع لهم صوت، مخلدين إلى الاستكانة والخضوع، يجتمعون فيخيل إليك أنهم البحر في اضطرابه، ويمضي كل فريق إلى عمله؛ كالجداول تنبثق من بحر، يصعدون وينحدرون.
وهنا يتساءل مطران عن هذا الجيش اللجب من المخلوقات الفانية قد اجتمعت في هذا الفضاء لتبني قبرًا خالدًا لإنسان سيفنى.
ويبلغ خليل مطران الذروة في تصوير هذا الشعور إذ يقول:
ولكن النظرة العادلة تدل على أن مطرانًا كان في تلك النظرة ظالمًا غير منصف؛ فإنه على فرض أن هذه الأهرام أنشئت بالظلم، فإنه ليس من العدل أن تُمحى لهؤلاء الملوك كل حسنة من أجل هذه السيئة. على أنه من المستبعد أن يكون الظلم هو الذي بناها مع ما عُرف عن مصر في القديم من قضاء عادل، وما شهد به حكماؤها من العقل والذكاء، وما كان لملوكها من اعتزاز ببني وطنهم.
ومن الظلم، كما فعل مطران، أن تُنسى هذه الحضارة التي أشرقت في هذا الوجود، وكان لها من الآثار ما لا يمكن أن ينساه التاريخ.
ولم يشارك خليلًا في هذا الإحساس أحد من الشعراء، بل كان الاتجاه العام عندهم هو الفخر بتلك الأهرام وبُناتها، حتى هؤلاء الذين ينحدرون من أصل عربي؛ كالشيخ محمد عبد المطلب، الذي يرى في ولادته بمصر سببًا كافيًا للاعتزاز بتاريخها وبُناة أهرامها، فيقول:
وهكذا إذا استثنينا مطرانًا رأينا الإعجاب بالأهرام وبُناتها متوارثًا على مر العصور، ورآها الشعراء المحدثون حافزًا لهمم المصريين، ودافعًا لَهُمْ إلى المجد والعُلا، ومبعثًا للفخر بها؛ لأنها أثر جليل من آثار الآباء والأجداد.
ولا تزال هذه النظرة باقية عند شعرائنا الأحياء فيما أنشئوه من شعر حول الأهرام، وما يحفظه تلاميذنا في مدارسهم من المحفوظات.