أبو الهول
قد رأينا الشعراء فيما عرضناه من الشعر يعدونه من العجائب، ورأينا بعضهم يتخيله كأنه رقيب على حبيبين يركبان هودجين. وهو خيال مجدب لا يحرك النفس، ولا يثير وجدانها؛ لأن هذا الجسد الضخم لأسدٍ رأسه رأس إنسان أكبر من أن يقف عند حدِّ رقيب على عاشقَين. فهو خيال مصنوع دفع إليه الشبه البصري بين الهودج والهرم، والذي يركب في الهودج إنما هي المرأة، فلتكن عاشقة، وليكن أبو الهول رقيبًا على العاشقين.
وتخيله البارودي كأنه مشتاق إلى مطلع الفجر. وإذا كان الشاعر يرمز بذلك إلى مطلع فجر المجد للوطن كان الإحساس عميقًا.
ولعل خير قصيدة أنشئت في أبي الهول هي تلك التي أنشأها فيه أحمد شوقي، وقد قسمها الشاعر فقرات، كل فقرة تدور حول معنًى، فجعل الفقرة الأولى تتحدث عن طول بقاء أبي الهول، حتى جعله الشاعر قد ولد مع الدهر، وبرغم بلوغه في الأرض أقصى العمر، وما مر عليه من عصور متطاولة، لا يزال أبو الهول كما كان في أول العهد به حدثًا صغير السن، ويسأله الشاعر إلى متى يظل يطوي الأُصُل، ويجوب الأسحار، ويتنقل عبر القرون مسافرًا، حتى كأن بينه وبين الجبال عهد أن يظلَّا مقيمين إلى أن يزولا يوم القيامة، وذلك إذ يقول:
وفي الفقرة الثانية يسأل أبا الهول عن طول بقائه، وهل جنى منه غير ضجر ثقيل على النفوس، وهنا يعجب الشاعر للقمان بن عاديا، الذي عمَّر عمر سبعة أنسر، كان آخرها يدعى لبدا. وكان لقمان حريصًا على هذه النسور؛ لأن عمره مرهون بأعمارها. ويزعمون أنه عاش ثلاثة آلاف وخمسمائة سنة، فعجب الشاعر من طول هذا البقاء، وحِرْص لقمان عليه، كما عجب من لبيد الذي عاش — كما روي — مائة وأربعين سنة، فسئم من طول الحياة وقال:
ويتعمق شوقي في النفس الإنسانية فيراها مغرمة بطول البقاء، كما رأى المتنبي ذلك من قبله إذ يقول:
فيقرر شوقي أن لبيدًا لو كان قصير العمر لشكا قصر حياته، وودَّ أن لو طال عمره، وكيف بالخلود مع الحياة التي تفلُّ الحديد وتبلي الحجر إذا دبت فيهما الحياة، فيقول شوقي:
ويسائله في الفقرة الثالثة عن السر الذي يرمز إليه إقامته وإنشاؤه، فقد تحير الناس في أمره عندما رأوا رأس إنسان على جسم أسد، وكلما ظنُّوا أنهم اقتربوا من إدراك السر، عادوا فرأوا السرَّ بعيدًا عن الإدراك. ليت شعري هل يرى شوقي أن أبا الهول رمز للإنسان، فإنه برغم ما يحمله من العقل يضم بين جنبيه نفس سبُع مفترس. ولنُنْصت إليه إذ يقول:
ويعود الشاعر مرة أخرى للسؤال عن طول عمر أبي الهول، وما كان أجدره أن يجعل هذه المقطوعة قبل المقطوعة السابقة التي تساءل فيها عن سر أبي الهول؛ لتكون المقطوعات التي تحدث فيها عن طول عمر أبي الهول متعاقبة متصلًا بعضها ببعض.
وهو في المقطوعة الجديدة يثبت بعض ما أصاب الدهر به أبا الهول عندما امتدت يد الأيام إلى عينيه فأتلفتهما، فصار أعمى لا يبرح مكانه كأبي العلاء المعري الذي سمى نفسه: رهين المحبسين، وفي ذلك يقول شوقي:
ويقلب الشاعر عينيه فيما حول أبي الهول من رمال، فيتخيل لكثرتها أنها ذنوب الناس تكدست من حوله، ويتخيله بينها كأنما هو رقيب يدبر أمر الأرض، أو كأنه ضارب رمل يرى في الرمل ما يكنه الغيب لهذا الوجود؛ إذ يقول:
ويتجه شوقي إلى الناحية التاريخية، ولما كان أبو الهول قد ولد مع الزمن، فمن الواضح أنه قد شاهد أحداث العصور من أول خلق الحياة على هذا الكون، يودِّع عالمًا قد مضى، ويستقبل عالمًا جديدًا، فعين تستقبل وأخرى تودع، فلا غرابة إذا استنبأه الشاعر أمر الذين مضوا منذ فجر التاريخ، وفي ذلك يقول:
ويسائله الشاعر عن الدول التي قامت في هذا الوادي منذ عصر الفراعنة إلى العهد الذي أنشأ فيه شوقي قصيدته.
والشاعر يرى عصر الفراعنة عصر عزة وحضارة، ومجد وآثار جليلة، أسس فيها الفراعنة كل ما أجدى وأثمر؛ يقول الشاعر لأبي الهول:
وإنه من الطبيعي — بعد أن رأى أبو الهول هذه الحضارة الظليلة — أن يرتاع ويفزع عندما يرى هذه الحضارة تنهار تحت سنابك خيل لجيش غازٍ يدمِّر البلاد، ويروع الساكنين:
أما الإسكندر الأكبر، فقد رآه أبو الهول في أوج المجد وهو شاب ناضر الشباب، غير أنه لم يبقَ في الملك طويلًا:
وشر ما بُليت به مصر حكم الرومان، فقد استبد قيصر وأذلَّ الرقاب، وتجبَّر أعوانه، وساموا الناس الخسف والهوان حتى جاء العرب قليلين في عددهم، نبلاء في أخلاقهم، فحطموا تاج قيصر، وهزموا جموعه، وقوضوا عرشه. وهكذا أذلَّ الدهرُ من كبريائه:
ومر شوقي في هذه الأبيات القليلة بمعظم الدول التي رآها أبو الهول في مصر، حتى جاءت الإشارة إلى العرب الفاتحين الذين جاءوا بدين جديد، فكان ذلك مثيرًا لذكرى الديانات التي رآها أبو الهول في الوادي منذ نهضت فيه عبادة «إيزيس»، إلى أن جاء عمرو ومعه القرآن وصحابة الرسول، وكل ذلك في خطوات سريعة كأنما هي لمحات من خواطر قد أمعنت في بُعد سحيق؛ وذلك إذ يقول:
وواضح من هذا الشعر أن شوقي يعطف على الديانات التي قامت في مصر، إذا استثنينا عبادة العجل آبيس، فهو يرى فيها نِيرًا عسرًا، ويسخر بعبادته. على العكس من «إيزيس»، فهو يعطف على عبادة قدماء المصريين لها، وهي رمز «للقمر»؛ ولذلك يقول شوقي: إنها تضيء على صفحات السماء، فإذا عُبدت في الأرض أشرقت بعبادتها مقاصير الهياكل. وقد حدثنا الشاعر في همزيته أن عبادة «إيزيس» قد انتقلت من مصر إلى غيرها من الأقطار، ومنها اليونان:
وينتقل الشاعر ليتحدث عن حاضر أبي الهول، ويجعله حيًّا يحس ويشعر بما يجري في الحياة الحاضرة من حوله، بعد أن أعاد إليه ذكريات الماضي جميعها، فيراه رمزًا للوفاء، فقد أطال وقوفه عند الهرمين. وهنا يتخيله حزينًا مسرفًا في الحزن، كأُمٍّ فقدت ولدها. ولمَ لا يسرف في حزنه وهو يرجو أوبة مَن بنى الهرمين؟ ولكن تلك العودة مستحيلة؛ فقد صاروا رِمَّة بالية، وكيف لا يكون حزينًا وهو يجوس بعينه خلال الديار، وفوق نهر النيل، يريد أن يرى في «منف» عاصمة مصر القديمة ما اعتاد أن يراه من جيش ضخم، ذي عُدَّةٍ وعديد يمثِّل عظمة مصر وقوة سلطانها، ويلتمس ما ألِفه فيها من علم وفنٍّ بلَغا ذروة التقدم، ونالا من المصريين أوفى عناية ورعاية؟! ولكن أبا الهول لا يلبث أن يعود كسير القلب، حزين النفس، عندما يرى هذه العاصمة المجيدة لم تعد سوى قرية ضئيلة، لا يكسبها الجمال سوى آثارها الدارسة، وقد أغرقت في سبات عميق وجمود إلى درجة أن الأرض تكاد تنساها إذا دارت. وتحس بهذا الخاطر المؤلم في قول شوقي:
ولكن نغمة الألم هذه لا يلبث أن يتلوها روح من الرجاء والأمل، يبدد ظلمة اليأس، وينشر نورًا من التفاؤل في مستقبل مشرق بالتقدم، مزدهر بنيل الآمال، فيتمنى شوقي أن لو علم الآباء أن بَنِيهم قد اقتدوا بسِيَرهم، ومضوا يطلبون المجد، ويقدمون له أغلى ما يملكون، وأنهم ركبوا الشدائد في سبيل الوصول إلى أهدافهم، ووضعوا ثقتهم في أيدٍ أمينة ذكية بعيدة النظر، تستطيع أن تبين عنه بالحجة البالغة، وإذا لم يكن لمصر أسطول ضخم تفتخر به يومئذٍ، فإنها تفتخر بدستورها.
إن هذه الآمال في نظر شوقي قد ملأت الناس ابتهاجًا وغبطة، واستخفهم بها السرور، حتى لم يبقَ من لم يستخفه الطرب غير أبي الهول. وهو لذلك يختم القصيدة طالبًا إليه أن يتحرك؛ فقد تحرك كل شيء في هذا الزمان حتى الحجر الذي لا حياة فيه، وتسمع جمال هذا الرجاء في قول شوقي:
ويستمر شوقي في نغمة الرجاء عندما ينشئ شعرًا على لسان أبي الهول، فما يكاد الشاعر يتم القصيدة حتى يجيب أبو الهول:
فأبو الهول يطمئنه بأنه قد آن الأوان بأن يتحقق رجاء البلاد، وأن تتبدد ظلمة اليأس، ويعده بأنه قد خبأ له حياة عذبة مقبلة. كما تتجلى روح الفداء والأمل في مستقبل مشرق في هذا النشيد الذي يلقيه أمام أبي الهول فتًى وفتاة يمثلان الجيل الناشئ، فيقولان:
وهو نشيد عامر بالأمل والطموح إلى سيادة وإعادة أمجاد الماضي، وتشييد عظمة الوطن، وتأييد حقه، وتجميله بالسعي والعمل، ولِمَ لا وهو يضم سر التاريخ، وفي أرضه نهضت حضارة الإنسان في قديم الزمان، وهو جنة الخلد، ونيله كوثر هذه الجنة، وذكرى آبائنا عطرة في صفحات التاريخ؟ إنه جدير بأن يكون تاجه من الشمس، وعرشه من الضحا، وأن يرقى بنوه في سماء السؤدد كما كان آباؤهم من قبلُ.
ويُشهِدُ النشيدُ على بني الوطن العصرَ والناس والكرنك والهرم، لكي يكون لهم همم تبني كما كان آباؤهم يبنون. ويختم شوقي نشيده بالدعوة إلى السعي لبناء المجد، وأن تصبح مصر للمصريين دينهم ودنياهم.
وفي هذا النشيد يجعل الشاعر الماضي المجيد وسيلة لحفز الهمم لبناء مستقبل مشرق سعيد جدير بهذا الماضي.
وإذا نحن وازنا بين الآمال التي كانت تجول بالنفوس يوم أنشأ شوقي قصيدته وبين ما وصلنا إليه اليوم، رأينا المدى الشاسع الذي وصلنا إليه في تحقيق أهداف كانت تجول في النفس رغبات وآمالًا.
وكما أن الأهرام لم تبرح خيال شوقي وهو مغترب بالأندلس كما ذكرنا، لم يبرح أبو الهول خياله كذلك؛ ففي قصيدته السينية الأندلسية يقول عنه:
فالشاعر في مغتربه يتخيله بأنفه الأفطس، ويضع في كلمة «جن» ما يحمله لصانعيه من معاني الإكبار والتبجيل والإعجاب؛ لأنه يستعبد أن يكون صانعوه من الإنس، ويراه ممثلًا لحقيقة الناس؛ فهم يحملون وجه آدمي، وفي أعماقهم أخلاق السباع وطباعهم، ويرى القدر على قوة سلطانه قد استعار عينيه لينقد بهما الناس، واستعار مخلبيه ليبطش بهما، فأصاب كسرى وهرقل ونابليون.
وقد رأينا شوقي بعدئذٍ يردد فكرته في تصوير أبي الهول لحقيقة الناس في قصيدته المطولة الرائية عن أبي الهول، كما سبق أن رأينا.