المقابر
وكانت عناية المصريين القدماء بمقابرهم من ناحية حفرها في أعماق الصخور مثار التفكير العميق.
وقد وقف شوقي متأملًا في هذه الظاهرة، معجبًا بعنايتهم البالغة بتلك القبور؛ فقد أقاموها بحيث لا يستطيع البلى أن يمسها، وكأنهم عندما رقدوا في تلك المقابر قد تحجبوا بالهيبة تحت الثرى، كما كانوا وهم أحياء يحجبون بهيبة لا تزال أستارها. لقد عرفوا حقيقة الحياة، وأدركوا أنها سرٌّ مغلق، فأحاطوا أنفسهم بالأسرار المغلقة، وآمنوا بأن السعادة لا يمكن أن تتحقق إلا بإدراك الخلود، فعملوا على أن ينالوه؛ فكانت بيوتهم التي يعيشون فيها أكواخًا تفنى كهذه الحياة الفانية، في حين أن الحياة الآخرة هي الباقية الخالدة، فبنوا لهذه الحياة قبورًا كالقصور الشمِّ يبنونها من الصخور الصلدة، فيبدو ظاهرها جميلًا رائعًا كجمال هذه الحياة الدنيا، ويختبئ في باطنها حياة أخرى خالدة، يعيش فيها الملوك مخلدين لا يعرف البلى سبيلًا إلى أجسامهم. فوراء هذه الأسوار التي نراها أسرار مختبئة، فإذا دخلت هذه القبور رأيت كأنها فنادق تمتلئ بالزاد، رحبة لا تضيق بسكانها، يقول شوقي:
ويصف شوقي في هذه القصيدة حج الناس إلى هذه القبور، وكيف يأتون إلى «طيبة»؛ عاصمة مصر القديمة، في جماعات تضيق بها المدن والقرى، ويملئون البر برواحلهم، والبحر بسفنهم، حتى إذا ألقوا عصا التسيار بمعبدها المقدس وفوا نذورهم، وتقاربوا إلى آلهتهم، وتصدقوا بما معهم، ثم جرت الزوارق بالحجيج مسرعة من شاطئ يعجُّ بالحياة إلى الشاطئ الآخر، وهو وادي الملوك حيث يرقد آباؤهم وأجدادهم، وحيث تغرب أرواحهم كما تغرب الشمس، وحيث يتساوى الناس عظيمهم وحقيرهم في لقاء الموت، وحيث تتناثر القبور على الرحب كأنها قطع السحاب. إنهم ينتقلون من زخرف الحياة على شاطئ طيبة، إلى شاطئ يضيء فيه سناء الحق كأنه الصبح، يعنو له الملوك، فيخلعون رداء العظمة والجلال، ويمشون على أقدامهم تكريمًا لهؤلاء الموتى، ويخشع الغني والفقير، ويضيق وادي الملوك بساكنيه، حتى كأنما قد بُعِث فيه الموتى، ويظل الأحياء مع موتاهم يتنادمون كأنهم لم يفترقوا، وشوقي يصور ذلك إذ يقول:
وهو شعر يعطينا صورة حية لما كان يحدث في تلك الأزمان من عناية الناس بزيارة هيكل طيبة وقبور وادي الملوك، كما فسر الشعر قبله سر عناية المصريين القدماء بقبورهم أكثر من بيوتهم التي يعيشون فيها.