تمثال رمسيس
كان نقل تمثال رمسيس من البدرشين حيث كان، إلى محطة القاهرة حيث أقيم، مثيرًا في نفوس الشعراء كثيرًا من الذكريات والخواطر، فهذا شاعر قد أثار فيه نقل التمثال ذكريات تاريخية عن رمسيس، هي ذكريات مجده الحربي، فتخيل رمسيس على رأس جيشه، وقد ملأ الوادي صهيل خيله، وزلزل الأرض هدير صوته الذي لا تزال ربى النيل تردده، وقد انتظم جنده من حوله يرون فيه القائد المظفر. إنهم يُكوِّنون جحفلًا جرارًا كأنهم السيل المنهمر يثقلون كاهل الأرض، لهم شجاعة الجبابرة الذين يطلبون أن يخلِّد التاريخ شجاعتهم، ولهم أصوات مفزعة.
أما رمسيس فتعنو لسيفه الأعناق المتوجة، وتهوي به يمينه كالقدر يردي فلول المنهزمين أمام بسالته، تحمله مركبة يحملها الدهر، ويرعاها الشمس والقمر، يسدد منها سهام الموت تحصد أعداءه، فتهون عزيمتهم أمام عزمه، ويدق بأسه الحصون السامقة، حتى انفرد في عصره بالمجد لا يشاركه فيه سواه.
وها هو ذا يعود إلى وطنه تطلق أبواق جنده عودته منتصرًا على أعدائه، ذكريات يسجلها الشاعر فيقول:
وهذا شاعر يرى رمسيس قد عاد بعد هذه القرون الطويلة والأجيال المتعاقبة، عاد في موكب من المجد تنطق به الأفعال لا الأقوال، عاد يمشي في شعبه، رهيب الخطوة، فارع الطول، شامخ الأنف، رائع الجمال، يمسك بيده صحيفة أعماله التي سجَّل فيها كفاحه ونضاله.
وهنا يمجد الشاعر شعب مصر القديمة الذي أنشأ هذا التمثال الرائع، ويرى هذا الشعب صانع المجد، باعث الفن، قد سكب روحه في المعابد والأهرام، ويرى رمسيس رمز هذا الشعب الأبي؛ إذ يقول:
وصوَّر الشاعر خروج الشعب للقاء تمثال رمسيس، وما أثارته رؤيته في نفسه من ذكريات قديمة وحديثة، فتخيله راكبًا عجلة الحرب يصمي أعداءه بالنبال، وتخيله قائدًا مغوارًا يهجم على أعدائه في معاقلهم، وتخيله وهو يبني معبد الرمسيوم، وتمثله في قرية «البدرشين» وهو ملقًى في ساحتها طريح الرمال في مهب الريح ينظر إلى السماء، شاكيًا ما وصل إليه أمره من سوء المآل بعد عزِّ الحياة، حتى قيض الله له من نفَض التراب عنه، ورفعه أمام الزمان أصيدَ عالي المكان. وهذه بعض أبيات تصور هذه الذكريات:
وعندما كان في البدرشين:
ثم يناجيه الشاعر بما أثارته رؤيته في نفوس المصريين من آمال كبار في المجد والنصر، ويراه خطيبًا بما اتصف به من الخصال السامية.
ويرحب الشاعر برمسيس في مصر الحديثة بعد الثورة، فقد تطهرت من عار الاحتلال، وصارت أمة تسعى إلى المجد والعلا، قد حزمت أمرها واتحدت كلمتها، وتخلص حتى السجين من الأغلال، فيقول له:
أما هذا الشاعر فيستوقف نظره تمثال رمسيس وهو راقد في صحراء البدرشين؛ حيث تضربه الشمس نهارًا ويناجيه القمر ليلًا، فلو أن التمثال كان حديدًا لانصهر في حرارتها. لقد مرت عليه آلاف الأعوام وتهاوت كما تهاوت أوراق الشجر لم تغير منه شيئًا، يقول الشاعر:
ويسأله الشاعر عن سر هذا النوم الطويل، وهل كان ذلك لطول سهره على مصلحة رعيته وبناء مجدها؟ لقد نام طويلًا نومًا لم تزعجه فيه الأحلام، فكيف استيقظ بعد هذا النوم الطويل؟ ويجد الشاعر الجواب في هذه الثورة التي أيقظت في البلاد كل شيء حتى الحجر الأصم، فيقول:
ويخاطب الشاعر رمسيس قائلًا له: إنه قد نال الخلود في كل ناحية من النواحي، فخلد جسمه محنطًا، وخلد تمثاله، وخلد تاريخه الباهر على الزمن. أما روحه فمكفول لها الخلد إلى يوم القيامة، وقد أمدها المصريون بالطعام، وحرسوها بالسلامة والتعاويذ من كل شرٍّ يستطيع أن يمسها؛ إذ يقول:
ويناجي الشاعر رمسيس فرِحًا بما أحرزته مصر على يد الثورة من أمجاد، فقد طهَّرت البلاد من أرجاس المستعمرين، ولو أن رمسيس رأى البلاد قبل الثورة لخزي لما يراه في مصر من خور تنحني له الرءوس خجلًا، وينفطر له القلب أسًى، ورام لو عاد إلى وحشة الصحراء، حتى لا يرى عار احتلال الأجنبي للبلاد؛ فقد دام سبعين عامًا عاث فيها فسادًا وظلمًا، حتى أرسل لها القدر من خلصها من عار ذلك الدَّنس، يقول الشاعر:
ويختم الشاعر قصيدته متحدثًا عن العدو الرابض لنا في الشرق، كما كان العدو رابضًا لرمسيس في الشرق أيضًا. وإذا كان رمسيس قد قضى على عدوه في معركة «قادش»، فإن الشاعر يتمنى أن يلقى العدو في معركة قادش أخرى يهزمه فيها هزيمة نكراء، فيقول:
ويحس شاعر آخر أن رمسيس عندما هب من نومه واقفًا على قدميه ظن أنه قد بُعِث، وكان على مدى العصور يحلم بالبعث ويتوق إليه، فأخذ يتساءل أين جنده وقصوره وعواصم بلاده، والمعبد الذي أقامه، ومَن يملؤه من العباد؟ بل أين قلبه الذي يحس به الحياة والخلود؟
ويسرع الشاعر فيجيبه بأن ذلك بعث حقيقي؛ لأن النيل قد استيقظ بنوه، يستمدون مجدهم من مجد رمسيس، فلم يبقَ في الوادي نائم ولا كسلان، ولا خاضع ذليل، بل قد غدا الشعب كخلايا النحل، يعمل في جد ودأب، حتى أحال الصحاري التي كانت خرابًا جنة مزدهرة. أما جيش رمسيس فهو في الوادي قد شمر عن ساعديه للأحداث، فجنده أسود في الحرب، ويحمون الحقوق في السلم.
وكل ما يمكن أن يراه رمسيس من فَرقٍ بين ما يراه اليوم وما كان يراه بالأمس، هو أن شعبه كان يدين بالعبادة لآمون، في حين أنه يدين اليوم لإله عزيز، رحيم، واحد، خالد، خلق الخلق كما شاء.
لقد بُعث رمسيس اليوم في أشخاص أبنائه، فكلهم له قلب رمسيس وعزمه، وقد صمموا أن يكتبوا لأنفسهم تاريخًا مجيدًا، وأن يتخذوا من معركة قادش نموذجًا ينسجون على منواله، يقول الشاعر:
فيجيبه الشاعر:
وهكذا أثار تمثال رمسيس في نفوس الشعراء خواطر متعددة، فاستعاد بعضهم تاريخ رمسيس الحربي، وأحس بعضهم أنه قد عاد بين شعبه كما كان بالأمس، وملأته ذكريات الماضي والحاضر، وفاض أملًا في مستقبل للوطن مزدهر، وكانوا جميعًا فرحين بما ظفر به الوطن في العهد الجديد من حرية، ونهضة شاملة توحي بما ستكون عليه البلاد من مجد وعزة.