الفصل الأول
المشهد الأول
أرض معشوشبة بقرب فوريس. إبراق وإرعاد
(تدخل ثلاث ساحرات.)
الأولى
:
من أين مجيئك يا أختي؟
الثانية
:
كنت أقتِّل خنازير.
الثالثة
:
وأنت يا أختي؟
الأولى
:
كانت امرأة ملاح تحمل في حِضنها كستناء، وتَقضم، تقضم، تقضم، فسألتها شيئًا
منه فطردتني قائلة: «اعزبي يا ساحرة!» إن زوجها قد سافر إلى «حلب» ليكون
رُبَّانًا بدجلة، سأركب الغربال مُقلِعةً إليه، وسأعمل سحري كما يُعمِلُ الفأر
نابَه، قرضًا، قرضًا، قرضًا.
الثانية
:
وهبتك ريحًا عاتية.
الأولى
:
لك الشكر.
الثالثة
:
وأنا أمنحك ريحًا ثانية.
الأولى
:
أمَّا سائر الرياح فهن لي، كما أن لي مراسي السفن وسائر الأماكن المرسومة في
خرائط البحار. سأدعه جافًّا كالتبن، لا يعلق النوم ليلًا ولا نهارًا بأهداب
جفنيه، حياته حياة الطريد المحروم يظل يضعف وينحف، ويذوب تسعة أسابيع مكررة.
تسع مرات يأبى القدر أن تغرق سفينته، ولكنها تستمر عرضة للأمواج بلا انقطاع،
انظري ما بيدي؟
الثانية
:
أرينا، أرينا!
الأولى
:
إبهام ملاح قد غرق في يوم وصوله إلى وطنه.
(تسمع الطبول.)
الثالثة
:
الطبول الطبول، مكبث يقترب.
(الثلاث الساحرات متماسكات وراقصات.)
(يدخل مكبث وبنكو.)
مكبث
:
لم يمر بي يوم أروع من هذا اليوم هولًا وجمالًا.
بنكو
:
كم المسافة بين هذا المكان وبين فوريس؟ ما هذه الخلائق الغِثَاث العِجافُ،
باليات الجلود والأطمار، غريبات الحركات والأطوار، إنها ليست بإنسيات وإن مشت
على الأرض، ألك حياة؟ أتجيبين السائلين؟ كأنني بك وقد وضعت أصابِعَك الجافياتِ
على شفاهك الجافات تدركين ما أقول، ما أشبهك بالنسوة، لولا هذه اللِّحى.
مكبث
:
تكلمي إن تستطيعي الكلام. من تكونين؟
الساحرة الأولى
:
سلام أي مكبث! سلام يا غطريف ولاية «جلاميس» وسيدها.
الثانية
:
سلام أي مكبث! سلام يا غطريف ولاية «كودور» وسيدها.
الثالثة
:
سلام أي مكبث! ستكون ذات يوم ملكًا.
بنكو
(مخاطبا مكبث)
:
أيها الهمامُ ما لك تجف؟ وعلام ترتجف؟ أتخيفك أمثال هذه الكلمات، على عذوبة
موقعها من المسامع؟ (مخاطبًا الساحرات) باسم
الحقيقة ألستن أوهامًا؟ أم أنتن ما نرى؟ لقد لقَّبتُنَّ رفيقي الشريف «السيد
الغطريف» بألقاب الفخر وتنبأتنَّ له من آمال المُلك، بما أفاض على قلبه السرور
والدهشة، أما أنا فلم تخاطبنني، فإن كنتن تستشرفن ما يحجبه الغيب، وتعلمن البذر
الذي ينمو من البذر الذي لا ينمو، فأجبن على سؤال رجل لا يرجو منكن الإحسان،
ولا يخشى منكن الإساءة.
الأولى
:
سلام.
الثانية
:
سلام.
الثالثة
:
سلام.
الأولى
:
دون مكبث وأعلى منه قدرًا.
الثانية
:
أقل منه توفيقًا، وأعظم منه توفيقًا.
الثالثة
:
ستلد ملوكًا ولن تكون أنت ملكًا، فيا مكبث وبنكو سلام عليكما.
مكبث
:
الْبَثي أيتها النواطق بغير إفصاح عما في ضمير المقادير، وزيديني
بيانًا.
أعلم أنني بموت أبي قد أصبحت غطريف «جلاميس»، ولكن كيف أستطيع أن أكون غطريف «كودور» في حين أن صاحب هذا المنصب والملقَّب به ما زال حيًّا، في إقبال من دهره. فأمَّا أن أصير ملكًا فذلك أبعد احتمال، وليس ما تنتهي إليه عقيدتي. أبِيني إذن، من أين استنزلت تلك الأقوال المستغربة؟ ولماذا عرضت لي في هذه الأرض التي تطرقها الرياح، تُحيِّينني بأمثال هذه النبوءات؟ إني لأتقدم إليك أن تجيبي.
أعلم أنني بموت أبي قد أصبحت غطريف «جلاميس»، ولكن كيف أستطيع أن أكون غطريف «كودور» في حين أن صاحب هذا المنصب والملقَّب به ما زال حيًّا، في إقبال من دهره. فأمَّا أن أصير ملكًا فذلك أبعد احتمال، وليس ما تنتهي إليه عقيدتي. أبِيني إذن، من أين استنزلت تلك الأقوال المستغربة؟ ولماذا عرضت لي في هذه الأرض التي تطرقها الرياح، تُحيِّينني بأمثال هذه النبوءات؟ إني لأتقدم إليك أن تجيبي.
(تتوارى الساحرات.)
بنكو
:
للأرض نُفاخاتٌ كحَبَب الماء. وما تلك الأشباحُ التي رأيناها إلا من أمثال
ذلك الحَبَب بدت ثم بادت. إلى أين تراها عادت؟
مكبث
:
إلى الهواء، وبينما كنا نحسبها أجسامًا إذ رأيناها ذابت، كما تذوب الأنفاس في
النسمات، ألا ليتهن أطلن الوقوف!
بنكو
:
أكانت تلك المخلوقات ها هنا، كما شهدناها، أم نحن أكلنا جذعًا من ذلك النبات
المخدِّر الذي يحبس الأحلام ويطلق الأوهام؟
مكبث
:
سيكون أبناؤك ملوكًا.
بنكو
:
ستكون أنت ملكًا.
مكبث
:
وقبلًا غطريف كودور. ألم يقلن هذا؟
بنكو
:
بالحرف. من القادم إلينا؟
(يجيء رُس وأنجوس.)
رُس
:
مكبث. لقد سُرَّ الملك بما جاءه من أنباء نَصراتك، فما وقف على تفصيل فعالك
بجيش العصاة حتى تنافس في نفسه العجب من بأسك، والإعجاب بحسن بلائك، وحتى أخذته
الدهشة فألقى السمع شهيدًا صامتًا، وتبيَّن من أحوال ذلك اليوم وقوفك في صفوف
النروجيين الشجعان تنظر بلا وجل، إلى صنوف المنايا التي أطلقتها عليهم يدك، كما
تعاقبت به البُرُد، تترى كالبَرَد، تذكِّره عنك في الحضرة السَّنِيَّة وتعرض
معه آيات ذلك الدفاع عن الوطن.
أنجوس
:
إنا موفدون إليك بما جاش في صدر مليكنا الجليل من الشكران، ومبشروك بأنه بالغ
في إعلاء قدرك، فأزمع من غد زيارة قصرك.
رس
:
ثم أمرني بأن ألقبك بلقب غطريف «كودور»، فأذن أيها البطل المغوار أن أحييك
بتحية هذا المنصب الجديد.
بنكو
:
عجبًا أيصدُق الشيطان؟!
مكبث
:
إن غطريف «كودور» لَحَيٌّ فلماذا تلبسونني كساءَ غيري؟!
أنجوس
:
كان حيًّا ولكن جاء الساعة نبأ قتله، فأضاع لقبه وحياته كليهما، بحكم أوقعه
عليه الملك لممالأته الأعداء على بلاده، وثبوت الخيانة الكبرى عليه.
مكبث
(منفردًا)
:
بالأمس غطريف «جلاميس» واليوم غطريف «كودور» والآتي في الغد أعظم. (مخاطبا رس وأنجوس) أحمد المليك إليكما حمدًا
سواء لِتنزُّله إلى زيارتي، وتفضله بالإنعام عليَّ. (مخاطبا بنكو) ألا تأمل أن يغدو بَنوك ملوكًا وقد وعدهم بالتاج
مَن تنبَّأ لي بمنصب «كودور»؟!
بنكو
:
قد تحملك المغالاة في تصديق هذه النبوءات إلى ما وراء ولاية «كودور»، بل إلى
التاج، ومن غريب ما تجيء به الأيام أحيانًا، أنها تجعل كلمة الصدق على ألسنة
الأرواح المدلهمة، فإذا أظفرتنا ببعض المآرب الجائزة الصغرى دفعتنا من جرائها
إلى الجوائز الكبرى. (مخاطبًا رس و أنجوس)
يا بني عم أسر إليكما بكلمة … (يختلون).
مكبث
(منفردًا)
:
نبوءتان تحققتا، فكانتا فاتحتين سارتين لمأساة جعلت خاتمتها أريكة الملك.
(مخاطبا رس وأنجوس) شكرًا لكما أيها
السيدان. (منفردًا) هذا النبأ الغيبي ليس
بطالح، ولا هو بصالح؛ إذ لو كان طالحًا لما جاء صدقه في الأولى شبه ضمان على
أنه سيصدق في الأخرى — أما أنا الآن غطريف «كودور» — ولو كان صالحًا فما بالي
تخالجني أمنية يقف لهولها شعر رأسي، ويخفق من وجلها قلبي خفوقًا يقلق الضلوع.
لَمشهدُ الشيء أقل إرهابًا مما يخلق الوهم، وإن فكري الذي لم تزل نية القتل فيه
خيالًا محيلًا لَيَثِلُّ مني عرش النُّهى ويزعزع في نفسي مملكة القوى حتى ليفُل
العزيمة، ويغلِّب الآمال على النشاط للأعمال، فإذا أنا والحاضر عدم، والمستقبل
هو الوجود.
بنكو
:
انظر ما عرا صاحبنا من الدهشة.
مكبث
:
إذا أراد الاتفاق أن يجعلني ملكًا ففي وسعه أن يتوجني بلا مسعاة مني.
بنكو
:
إنه ليلبس هذه المفاخر الحديثة كما تلبس الحلة الجديدة، ولا بد من كرور أيام
حتى تستقيم الحلة على قوام لابسها.
مكبث
:
ليكن ما هو كائن. مهما تكفهر وجوه الليالي العصيبة فإن ساعة لتجيء وإن
الميقات لهو آتٍ.
بنكو
:
سمعت من هذين النبيلين أن ملكنا «دنكان» لما عظم اغتباطه ببلائك في أعدائه،
واجتمع أركان الدولة حوله يهنئونه، قد منح كبير أنجاله «ملكولم» ولاية عهده،
فأصبح «دوقًا لكمبرلن» فإليك أزف هذه البشرى.
مكبث
(منفردًا)
:
سرعان ما قام هذا الحائل الجديد، دون وصولي إلى العرش. (مخاطبًا بنكو) أي فرح بهذا الخبر العظيم،
ولَنِعم الفتى هذا الذي أصبح الأدنى إلى الأريكة. لا ينبغي لازدياد المصاعب أن
تزيدني إلا مضاء عزيمة. أيتها الكواكب واري أنوارك، لئلَّا تنفذ أشعتهن إلى
خفايا مقاصدي، ولئلَّا ترى العين ما تصنعه اليد. ثم لا يَحُلْ حائل دون إنزال
ذلك الخطب، الذي تختلج العين فَرَقًا من رؤيته. سأكتب منذ هذه اللحظة إلى
قرينتي بما كان من هذه النبوءة، فهي خير معوانٍ الرأي والعمل.
بنكو
:
أي مكبث الشريف، نحن رهن إذنك.
مكبث
:
مثلكم من عذر. كنت أنقب في دماغي المضطرب عن بعض المنسيات. يا سيدَيَّ سأنقش
ذكرى جميلكما في سجل أعيد عليه نظري كل يوم. هلموا نلقَ الملك. (إلى بنكو)
تفكَّر فيما جرى حتى إذا نضج الرأي وجمعتنا فرصة سانحة تكاشفنا بما تكنُّه
القلوب.
بنكو
:
ذلك إليك.
مكبث
:
والآن حسبنا ما كان، تعالوا يا أصدقائي.
(يبتعدون)
المشهد الثاني
قصر أنفرس، لادي مكبث
(تقرأ كتابًا.)
لادي مكبث
:
لا أسأم قراءة هذا الكتاب: «لقيتهن وأيقنت بعد اختبار أنهن صادقات، وأنهن
يعلمن ما لا يعلم الناس، فلما استزدتهن بيانًا توارين في الهواء، نبَّأنني أنني
أكون غطريفًا «لكودور» فتمَّ لي ذلك على أثر اجتماعي بهنَّ؛ إذ جاءني رسل الملك
ببشرى هذا المنصب، وتنبَّأن أيضًا عن المستقبل، فقلن لي: سلام يا من سيكون
ملكًا، فلم أجد بدًّا من إبلاغ هذين الأمرين إلى خليلتي المحبوبة قسيمة مجدي
مخافةَ التباطؤ عنها بما لها من الحصة في المسرة العتيدة، وفي المنصة السنية
الموعودة، فإذا عرفت ذلك فاطويه في السريرة، وعليك السلام.» أنت غطريف «جلاميس»
وغطريف «كودور»، وستكون ما ذكرت المتنبئات. غير أنني لا آمن عليك طبعك، فإن فيه
من لبن الشفقة ما يردك عن طلب غايتك. من أقوم طريق، تتمنى العلياء، وفيك مطمع،
غير أنك فاقد المكر الذي يوصل إلى العلياء، مرمى نظرك بعيد، إلا أنك تبغي
إدراكه من أطهر المسالك، تأنف أن تستبيح ما حُرِّم من وسائل الالتماس، ولكن لا
تأنف من كسب غير المحلل، قلبك مولع بالحصول على تلك النعمة التي تناديك: «هذا
مأخذي فخذني.» بيد أنك تخشى مباشرة الفعل الذي يؤدي إلى ذلك الربح، ولو فعله
غيرك لما ساءك، فتعالَ لأفرغ في أذنك الحماسة والشجاعة، تعالَ لأزيل ببأس لساني
ضعف نفسك، وأبدِّد الوساوس الدنيئة التي تعوق يدك عن غصب الإكليل الذهبي، الذي
تريد المقادير إرادة ظاهرة أن تضعه على جبهتك.
(يدخل الخادم.)
الخادم
:
مولاي مكبث.
لادي مكبث
:
أليس في موكب الملك؟
الخادم
:
قَدِم قبل الموكب ليكون في لقاء الملك حين وصوله، وقد جاء بهذا البلاغ غلام
من أتباع مولاي، قتل دابته ركضًا ووصل لاهثًا منقطع النفس مبحوح الصوت.
لادي مكبث
:
انصرف وأحسن علاج الغلام، فإنه آتٍ ببشرى.
(يخرج الخادم.)
لادي مكبث
(مستمرة على انفراد)
:
وهذا الغراب الذي ينعب وينعق إيذانًا بحلول «دنكان» في فناء قصري، هو أيضًا
مبحوح الصوت كذلك الغلام. إليَّ أيتها الأرواح التي توحي نيات القتل، جرِّديني
من أنوثتي، أفعميني جفوة وقسوة من رأسي إلى قدمي، أقفلي في ضميري كلَّ منفذ
تنفذ منه الشفقة، لا تأذني للرحمة أن تُلَطِّفَ شِرَّتي، أو تكفَّ يدي، حوِّلي
في ثديي لبن المرضع إلى سم نقيع، أسعديني يا جنيات الهلاك، وافداتٍ من كل مكان
تشهدن فيه بلاءً وشرًّا. وأنت أيتها الليلة الليلاء، أرخي عليَّ من سدولك،
وائتزري بكسف من دخان السعير، حتى لا يرى خنجري المسنون موقعه من الطعين، وحتى
لا تدعي لمتطلع من الشعاع مسلكًا ينظر منه ما تحت غطاء السماء، فيرى أسرار
جريمتي، ويصيح بي: مكانك مكانك!
(يدخل مكبث.)
لادي مكبث
(مستمرة)
:
أي جلاميس العظيم، أي «كودور النبيل»، أي صاحب اللقب الذي سيكون أكبر منهما،
إن كتابك قد نقلني على أجنحة الآمال، إلى ما وراء الحاضر، ومحا الزمان إلا
المستقبل.
مكبث
:
يا حبيبتي إن «دنكان» لآتٍ.
لادي مكبث
:
ومتى يبرح؟
مكبث
:
يبرح غدًا … هذا إزماعه.
لادي مكبث
:
لن ترى الشمس طلعة ذلك الغد، إن محياك يا مولاي لصحيفة نقرأ فيها بعض عظائم
الأمور، غير أنه لا بد من مخادعة الناس بالتشبه بهم، فليصحب لحظك ولفظك وإيماءك
إقبالٌ على الناس بالبِشر، وإكرام الوفادة، ومتى ظهرت للناظرين بمنظر الزهرة
الطاهرة فكن الحية المختبئة دونها، لنلقَ ضيفنا بنهاية الإجلال، ودعْ لي ما
ينبغي فعله في هذه الليلة التي ستكون إلى آخر ليالي الدهر مبدأ تفردنا بالسيادة
والسعادة.
مكبث
:
أسمع البوق المؤذن بدنو الموكب، سنعود إلى هذا الحديث، تحققي من حسن
الاستعداد في البيت.
لادي مكبث
(وهي خارجة)
:
من الخطر أن يتكلم الوجه، فليكتم جبينك ما في قلبك، وأنا الكفيلة
بالباقي.
مكبث
(منفردًا)
:
لو أن العمل إذا تم مضى، ولم يعقب شيئًا لكان الخير في الإسراع، والخيرة في
الواقع. لو أن جريمة القتل إذا اقتُرفت، لم يكن لنتائجها لفتة سوء إلى مقترفها،
لكان الإفلاح في الإنفاذ. لو كانت ضربة القاتل لا تُعقب أمرًا في هذه الحياة
الأولى لما أغليت قيمة الحياة الأخرى. ولكن إزهاق الروح إنما هو من الجرائم
التي يماشيها عقابها في الدنيا، فمَن سفك دم غيره، عرَّض دمه للسفك، ومَن دسَّ
سمًّا في كأس قضى العدل عليه قضاء لا مرد له بأن يعيد الكأس إلى شفتيه. الرجل
هنا يعصمه مني عاصمان؛ قرباه لي، وتبعيتي له، ثم هو ضيفي، ويتعيَّن له علي أن
أقفل بابي في وجه من يبغيه بسوء، فكيف بي وأنا أطعنه بخنجري؟ على أن «دنكان»
هذا قد تلطف في حكومته، واعتدل في سياسته، واستقام في سيرته، حتى أصبح لو امتدت
إليه يد بأذًى لوثبت فضائله من مكانها، وثبة الأرواح العلوية من موطنها،
تُنَوِّه بذكره، وترتِّل بشكره، وتثير نفوس القساة والرحماء على قتلته الرجماء،
بل لهبَّت الشفقة أشبه شيء بروح الطفل ساعة مولده، أو بأحد الملائك الممتطين
جيادًا غير منظورة وأبدت للناظرين شناعة تلك الفعلة، فاستمطرت عيونهم من الدموع
ما لو صادف ريحًا عاتية، لأهبطها تحت وابله. على أنه ليس لي من باعث على قضاء
أمنيتي سوى مطمع وثب إلى السرج فجاوزه بقوة اندفاعه وهوى في الجانب
الآخر.
(تعود لادي مكبث.)
مكبث
(متممًا)
:
أَكُلُّ شيء على المرام؟
لادي مكبث
:
على ما يرام، ولم تبقَ إلا دقائق معدودات، حتى تحل تلك الركاب في هذه
الرحاب.
مكبث
:
يبدو لي أن نقف من هذه المسألة عند هذا الحد، فلقد جاد الرجل عليَّ بمفاخر
جديدة، لبستها لبسة بهيجة أمام العالمين. ولا يهون على نفسي أن تعرَى وشيكًا
منها، بل يجدر بي أن أستمر على لبسها زمنًا وهي في رونقها.
لادي مكبث
:
أكان سكرانُ ذلك الأمل الذي داخلك حينًا، أم نام بعد ذلك، حتى إذا صحا بدا
شاحبًا كمدًا، كأنه يشعر بصغره، دون عظم القصد الذي أقدم عليه؟ إن عقيدتي بعد
الآن في حبك لا تزيد شيئًا عما اعتقدته في مضائك. أتخشى أن تسمو أفعالك إلى
رتبة آمالك … أتريد أن تملك ما تعده زينة الحياة الدنيا، من غير أن ترقى في
خاصة نفسك من مكانة الجبان، الذي يدفعه الأمل، ويمنعه الوجل، كذلك السنور الذي
قيل إنه يحب الماء ويكره البلل؟
مكبث
:
أرجو ألا تزيدي، أنا أجرأ على ما يليق بالرجل أن يعمله، فمن جرؤ على أكثر
فليس برجل.
لادي مكبث
:
إن كان هذا كل أمرك، فما البلاهة التي حدتك على إبلاغي هذه النية؟ تلك نية
حين عقدتها كنت رجلًا، فلو أنفذتها وسما قدرك إلى أوج العلياء لما ازددت إلا
رجولية … منذ هنيهة لم تكن الفرصة ولا الساعة بمسعدتين لك على ما ابتغيت فأقدمت
على إيجادهما، لتحقيق إربتك، أما الآن وقد سنحتا بلا إبطاء فإن مشيئتك لَتَهِي.
لقد وضعتُ فأرضعتُ، فعرفتُ كيف تحنو الأم على الطفل العالق بثدييها. فوحقك لو
عاهدت نفسي على مثل ما عاهدت عليه نفسك، لانتزعت رضيعي عن نهدي إذ هو باسم يرنو
إليَّ، وهشمت رأسه قبل أن أحنث.
مكبث
:
لكن ما حالنا إذا لم نُفلح؟
لادي مكبث
:
كيف لا نُفلح، شدِّد عزمك إلى الشأو المطلوب ندركْ يقينًا ما نشاء. متى ران
الكرى على عيون «دنكان» وأَمَالَه الإعياء من السفر فسأسقي حاجبيه من النبيذ
الممزوج بالعقاقير فوق ما يطيقان، فيسكران سُكْرًا يفقدان معه الذاكرة، حارسة
العقل، فتتصاعد كالدخان، ويصبح رأس كل منهما كالإنبيق، فإذا ناما غريقين بالخمر
نومًا شبيهًا بالموت، كان أيسر شيء علينا، و«دنكان» في عزلته وانفراده، أن نقضي
عليه كما نهوى، ثم أن نترك على ضابطيه علقًا من الدم يثبت بلا ريب أنهما هما
القاتلان.
مكبث
:
لا تلدي إلا صبية ذكورًا؛ لأن الفطرة الجافية التي فُطرت عليها، لا ينبغي أن
تنتج غير الفحول. إنا إذا فرغنا من تلطيخ ذينك الحاجبين بالدم واستخدمنا
لمأربنا خنجريهما، فمن ذا يشك في أن تلك الجناية إنما هي من صنع
أيديهما؟!
لادي مكبث
:
ومن ذا الذي يخطر على باله غير ذلك، حينما نجهر بالإعوال، ونجهش بالبكاء
أسفًا على موت الفقيد؟!
(يسمع معزف.)
مكبث
:
هذا هو المعزف المؤذِن بوصول الملك. هلمَّ نتلقَّه بوجه صافٍ، فإن خدع
الظواهر هي خير ما تخبأ به مفاسد الضمائر، أما أنا فقد نويت فأمضيت، وسأُعمل كل
قوى جسدي وقلبي لتحقيق هذه الأمنية الرائعة.
(يتجه نحو الباب فإذا الملك يدخل.)
(الملك، بنكو، لينكوس، دوبلنان، ملكولم، رس، أنجوس، حشم.)
الملك
:
لا تعجب من مفاجأتي، فقد نسيت شيخوختي،
أو تناسيتها حينًا، وأسرعت لأدرك اللادي مكبث وقرينها النبيل قبل أن يحملا مشقة
السعي للترحيب بنا.
لادي مكبث
:
لقد تفضلتم يا مولاي نهاية التفضل، وما من مشقة نحملها في السعي لخدمة
جلالتكم إلا نعدها راحة لنا وغبطة. وحسبنا شرفًا وتيهًا على الزمان وأهله
تشريفكم هذه الدار، بزيارتكم المنيفة.
الملك
:
كل إكرام يسيرٌ في جنب ما قام به «مكبث» من جلائل الأعمال لخدمتي وخدمة
بلادي، بالصدق والأمانة (مخاطبًا مكبث) يا
ابن عم النبيل لقد عددت إبطائي عن مكافأتك تفريطًا شديدًا مني في حقك، على أن
ذلك الإبطاء إنما جاء من فرط إسراعك في متابعة النصر بالنصر، فلم يتسنَّ للجزاء
الجميل أن يلحق بك. ليكفك مني أن أقول إن ما لك عليَّ من الدَّين الآن لا يفي
به كل ما على الأرض.
مكبث
:
الخدمة المؤداة بالولاء المحتوم إنما تكون مكافأتها معها، وما على جلالتكم
إلا أن تسمحوا بقبول ما نقوم به من الواجب المقضي لعرشكم وللحكومة. ومهما تعظم
الأعمال التي تصدر منا فإن هي إلا أدنى ما يجب إخلاصًا لكم، وتأييدًا
لمجدكم.
الملك
:
حبًّا لك وكرامة، لقد غرستك، وسأتعهدك حتى تبلغ الغاية من النمو. أما أنت
أيها الشريف «بنكو» — ولا تقلُّ قدرًا عن «مكبث» — فإني أنوِّه بعالي صفاتك
وأقبِّلك من قلبي.
بنكو
:
إن كانت لي محامد فهي من بذار فضلكم، وإليكم حصادها.
الملك
:
إن فرط السرور ليوشك أن يُبكينا. أيها الأبناء والأهلون والغطاريف الأقربون
إلينا، اعلموا أننا جعلنا منذ أمس كبير أنجالنا «ملكولم» وليًّا لعهدنا، وإن
آلاءنا عليه، وعلى كل من يستحقها منكم، ستملأ صدوركم بالكواكب، وآفاقكم
بالأنوار. (مخاطبًا لادي مكبث) أيتها
المضيفة الشريفة، إن الغرام ليكون في أكثر أمره عذابًا، ولكننا نستعذبه لأنه هو
الغرام، وإنما أذكر لك هذا، لأعلمك كيف تحمدين الله إلينا على ما حمَّلناك من
العناء والكلفة.
لادي مكبث
:
لو جعلنا خدمتنا لجلالتكم أضعافًا مضاعفة، لما كانت أدنى شيء بجانب الشرف
العظيم الذي أوقرتم به كواهل بيتنا، فإذا أضفنا إلى هذا الفخر ما استجدَّ من
إحسانكم إلينا بالألقاب الجديدة، لم تَكْفِ الأدعية كلها لوفاء بعض ما لكم
علينا.
الملك
:
أيتها السيدة النبيلة، إني لمليء بالسرور، ائذني بانصرافنا عنك هنيهة حتى لا
يكون مني ومن هؤلاء السادة إسراف في وقتك النفيس.
(ينصرفون)