جذور راسخة في المجتمع
تقدمه الدكتورة نجوزي أوكونجو-إيويالا
الوزيرة المنسقة لشئون الاقتصاد ووزيرة المالية،
نيجيريا
نحن عند نقطة تحوُّل في التاريخ. إنها لحظة فارقة للعالم النامي ولا سيما لنسائه. لطالما آمنتُ بأننا يمكننا تولي مسئولية مصائرنا إن تمتعنا بالشجاعة اللازمة للمطالبة بالتغيير وقيادته.
طوال حياتي، شعرتُ بأنني محظوظة لإسهامي في مساعي التنمية؛ فخلال ذلك التقيت بسيدات يمتلكن إرادة هائلة للكفاح من أجل تقدم مجتمعاتهن؛ كفاحهن مستمر، وفي بلدان كثيرة يحققن ما يردن. هؤلاء القائدات؛ صاحبات الرؤى والتطلعات، الشابات منهن والمتقدمات في السن على السواء، يستمددن قوتهن من إدراكهن أن التقدم ينبع من داخلهن، وأن الإصلاح لا يبدأ إلا بعد أن تفهم طبيعة مجتمعك، وتحدياته الخاصة وإمكاناته التي تُمكِّنه من التغلب على تلك التحديات.
لقد كرَّست جزءًا كبيرًا من حياتي لخدمة عملية التنمية في بلدي، والقارة التي أنتمي إليها؛ لأني أومن أن قصة نجاح أفريقيا نكتبها بأيدينا. وقد شاهدت ما يحدث عندما تلتقي الإمكانات غير المحققة والفرص، ويجتمع شعب وأمة على المطالبة بحقهما في المستقبل. كل سيدة في هذا الفصل تشاركني ذلك الإيمان الراسخ بإمكانات بلدها وشعبها؛ لبنى القاضي تحمل ذلك الإيمان للكويت، وماريا باتشيكو لجواتيمالا، ومو سوشوا لكمبوديا، وروشانا ظفر لباكستان، وكاه والا للكاميرون، وروزانا شاك لليبيريا، وأديميمالاجا تافوناي لساموا.
إن قوة إصراري نابعة من إحساسي العميق بالانتماء لمجتمع من النساء في قريتي ووطني والعالم أجمع. في عملي، اعتبرت خدمة وطني وخدمة المجتمع الدولي عملين يعضد كلٌّ منها الآخر بأهداف ذات منفعة متبادلة؛ فكلٌّ منها يصب في مصلحة الآخر؛ فالتغيير الذي يبدأ على المستوى المحلي، كما توضح قصص هؤلاء القيادات النسائية، يتردد صداه بعيدًا. وقناعتي الراسخة أنه إن تولَّى المرء زمام القيادة بفعالية وحسَّن من أحوال مجتمعه — شوارعه وأحيائه وبلدته ووطنه — فسوف يُسهم في إصلاح مجتمعنا المشترك الذي هو عالمنا.
هذه اللحظة من تاريخنا المشترك تستدعي الجرأة والإصرار على تعزيز التزامنا حيال مجتمعاتنا. وعندما تكون القيادة نابعة من داخلنا، عندما نصغي ونواكب المتغيرات، ستتطور قيادتنا لتصبح قادرة على إحداث تحول كبير. إنها طوق النجاة لنا.
***
لم يفشل حل الجهات الدولية المانحة وحسب، بل تسبب في تفاقم المشكلة.
•••
أزمة المياه في بنجلاديش مجرد مثال واحد من الأمثلة العديدة على تداعيات حل مشكلة من الخارج دون الاستعانة بأفكار محلية. نحن بمنظمة أصوات حيوية نرى أن أفضل سبيل للتشجيع على التغيير الإيجابي والمستدام في أي مجتمع يأتي من الداخل. منذ عام ١٩٩٧، استثمرت منظمة أصوات حيوية في القيادات النسائية اللاتي يشجعن على التغيير محليًّا في مجتمعاتهن وبلادهن ومناطقهن. نستمع إلى الاحتياجات التي يعبر عنها النساء اللاتي تشملهن شبكتنا، ونحاول التأكد من أن جهدنا الذي يهدف إلى تعزيز السلام والرخاء يتسق مع جهودهن المبذولة وأهدافهن الموضوعة.
وفي الولايات المتحدة، دشنت هيلاري كلينتون وزوجُها المجلسَ الرئاسي المشترك بين الهيئات المعنية بالمرأة، بالتعاون مع مساعدتها ميلان فرفير، ووزيرة الصحة والخدمات الإنسانية، دونا شلالا، وذلك في عام ١٩٩٥. كان تكليف المجلس يتمثل في لمِّ شمل أبرز السيدات اللاتي يمثلن كل هيئة فيدرالية، وإعداد قائمة بما تفعله الحكومة الأمريكية لدعم المرأة، ووضع خطة لتفعيل منهاج عمل بكين. وحدد المنهاج اثني عشر شاغلًا ملحًّا لتحسين حياة المرأة، بدءًا من الصحة ومرورًا بالتعليم ووصولًا إلى التنمية الاقتصادية.
في خريف عام ١٩٩٥، عدتُ من بكين وقد ألهمتني القيادات النسائية اللاتي التقيت بهن. كنت أتوق بشدة إلى نقل المعرفة التي اكتسبتها حول قضايا المرأة العالمية إلى أبناء جيلي. وحيث إنني كنت لا أزال أدرس بالكلية؛ فقد عقدت ندوة حضرها مئات الشباب والشابات بجامعتي إيمرسون كوليدج في بوسطن، وذلك في مارس ١٩٩٦. كانت إحدى المتحدثات المدعوات؛ وتدعى تيريزا لور، صاحبة الشخصية الكاريزمية؛ وهي مديرة المجلس الرئاسي المشترك بين الهيئات. وإذ ذهلت جرَّاء الحضور الضخم والاهتمام من جانب الشباب، سارعَتْ باستقطابي للحصول على تدريب داخلي بعد التخرج ذلك العام. قررتُ المجازفة مرة أخرى، وتتبعتُ شغفي بقضايا المرأة العالمية إلى واشنطن العاصمة؛ حيث عملت بهذا المجلس المؤثر وغير المسبوق التابع للبيت الأبيض، تحت قيادة تيريزا والمديرة المساعدة كاثي هندريكس. كان من بين أوائل الأشياء التي شاهدتها عندما دلفت إلى المكتب صورة ضخمة للسيدة كلينتون وهي واقفة أمام منصة. سرعان ما تعرفت على الصورة التي كانت من ذلك المؤتمر الرائع الذي عُقد في بكين. واليوم لا تزال الصورة على مكتبي في مقر عملي بمنظمة أصوات حيوية.
في ١٩٩٦، حُفر اسم مادلين أولبرايت في صفحات التاريخ عندما اختارها الرئيس كلينتونُ لتكون أول امرأة تشغل منصب وزير خارجية للولايات المتحدة. في العام ذاته، عُينت تيريزا لور منسقة أولى لقضايا المرأة الدولية، وتبعتُها أنا وكاثي من البيت الأبيض إلى وزارة الخارجية لتقلُّد هذا العمل المهم. وفي اليوم الذي استهللنا فيه الوظيفة، دخلت حركة طالبان كابول، وقيل إن النساء لم يستطعن الذهاب إلى العمل، وأن الفتيات لم يتمكنَّ من الذهاب للمدارس. كانت أولى مهامنا صياغة بيان رسمي يصرح بأن الحكومة الأمريكية لن تعترف بحركة طالبان أو تتجاوز عن معاملتهم للنساء. لم يكن مثل هذا البيان الواضح حول قيمة المرأة بالمجتمع ممكنًا لولا الحصول على تكليف واضح من القيادة العليا.
أتذكَّر الزخم الذي أحاط بزيارة هيلاري كلينتون؛ السيدة الأولى، إلى وزارة الخارجية في مارس ١٩٩٧، لتنضم إلى الوزيرة أولبرايت لحضور فعالية الاحتفال بذكرى يوم المرأة العالمي. صرحت الوزيرة أولبرايت بجرأة أن «الاستثمار في المرأة ليس القرار الصائب وحسب، بل القرار الذكي أيضًا.» أصبحت هذه دعوة للتحرك، وتجلت السيدة كلينتون والوزيرة أولبرايت كفريق ثنائي نشط معنيٍّ بقضايا المرأة العالمية، فكانت الوزيرة أولبرايت تطرح القضايا في الاجتماعات الثنائية الأطراف مع قادة العالم، وأدت السيدة الأولى دور سفيرة فاعلة، وإن كانت غير رسمية، للنساء؛ وترأَّست حلقات حوار مع القائدات، وزارت الجمعيات التعاونية المختصة بالقروض المتناهية الصغر، وملاجئ النساء الهاربات من العنف حول العالم. كان هذا تحوُّلًا جذريًّا للولايات المتحدة؛ فلأول مرة في التاريخ، تلتزم الحكومة الأمريكية بجعل النهوض بالمرأة حول العالم على قمة أهداف سياستها الخارجية.
كان المقصد من أصوات حيوية في البداية هو أن تكون محفلًا يُعقد لمرة واحدة؛ لتسليط الضوء على هذا الالتزام الدبلوماسي الجديد. جمعت السفيرة سواني هانت؛ التي كانت تمثل الولايات المتحدة في النمسا، سيدات من وسط وشرق أوروبا وبلدان الكتلة السوفييتية السابقة، مثل مارينا التي عرضت جانبًا من قصتها في الفصل الأول؛ للتواصل بشأن القضايا التي واجَهْنَها في الأيام الأولى من ديمقراطياتهم الجديدة. سافرت السيدة كلينتون إلى فيينا للقاء القيادات النسائية المجتمعية هناك، وإلقاء الخطاب الختامي الرئيسي للمؤتمر. ومجددًا، دعمت أصوات وشواغل السيدات غير المسموعات. كان التحوُّل إلى الديمقراطية في أرجاء المنطقة يؤدي إلى زيادة نسبة الفقر بين النساء مقارنةً بالرجال، وإلى انخفاض ملحوظ في التمثيل السياسي. كان فتح الحدود بين الدول بمثابة الشرارة الأولى التي انطلق على إثرها الاتجار بالبشر، الذي كانت تُقدَّر قيمته بعدة مليارات، وهي قضية لم تكن تحظى باعتراف دولي كبير حتى ذلك الحين. وفي المؤتمر، اقتربت مجموعة من الجدات الأوكرانيات تصحبهن أوكسانا هوربونوفا؛ وهي ناشطة شابة في مجال حقوق الإنسان، من ميلان فرفير، التي هي نفسها من أصول أوكرانية، وأطلعنها على مشكلة متنامية؛ وهي أن الفتيات بمجتمعاتهن يختفين. فمع تضاؤل فرص العمل وفقدان الإعانات الاجتماعية، أُغري كثير من الفتيات بالعمل في وظائف بأكثر الدول المجاورة ثراءً كمربيات أطفال أو راقصات، ليفاجأن بأنهن مجبراتٌ على الدعارة. أكد هذا اللقاء التزام ميلان الراسخ بوصفها إحدى المتصديات الرائدات بحكومتنا لمكافحة الاتجار بالبشر، وبعدها ببضع سنوات، وافقت الحكومة الأمريكية على قانون حماية ضحايا العنف والاتجار بالبشر؛ لتوفير أدوات وموارد لمواجهة هذا الخطر المتفاقم على المستوى المحلي وفي الخارج.
في مؤتمر أصوات حيوية الأول المنعقد في فيينا، أوضحت وزيرة الخارجية أولبرايت التزامها بالنهوض بالمرأة أمام العاملين في وزارة الخارجية والسفارات الأمريكية بالمنطقة ورؤساء الحكومات والإعلاميين، فقالت: «ونحن على أعتاب القرن الجديد، نعلم أننا لا نستطيع بناء المستقبل الذي نريد دون إسهامات المرأة. نعلم أنه في هذه المنطقة وفي أرجاء العالم، لن تتمكن المرأة من الإسهام بكامل طاقتها إلا إنْ تمتعت بنفس ما يتمتع به الرجال من امتيازات وحقوق وحماية وفرص اقتصادية وسياسية.» ممثلات السفارات الأمريكية في جميع أنحاء المنطقة، اللاتي رشحن قائدات من بلدانهن المضيفة للمشاركة في المحفل، عُدن إلى أوطانهن حاملات التزامًا جديدًا بإحراز تقدم في هذه القضايا. ونتيجة لذلك، خُصصت ملايين الدولارات من موارد الحكومة الأمريكية للنهوض بالمرأة بوصفه وسيلة حاسمة لتحقيق السلم والأمن والرخاء في أرجاء المنطقة.
عقب ذلك المؤتمر، انهالت المكالمات على مكتبنا الصغير بوزارة الخارجية من سيدات من جميع أنحاء العالم أردن منا تنظيم فعالية لمنظمة أصوات حيوية في منطقتهن أيضًا. فمن غير أن ندري، كنَّا قد خلقنا فرصة للسيدات كي تُسمَع أصواتهن وتُستعرَض شواغلهن بجدية على الساحة العالمية. منحت مؤتمرات أصوات حيوية النساءَ منبرًا لرفع الوعي العالمي وزيادة الدعم المالي. أدرك رجال السياسة الخارجية حينها أنه إن لم يُتح للنساء اللاتي يمثلن نصف السكان نفس ما يتمتع به الرجال من تعليم وفرص اقتصادية وحماية بموجب القانون، فلن تقوم قائمة للديمقراطية والاستقرار والرخاء الاقتصادي. كان صانعو السياسة يجعلون — للمرة الأولى — الاستثمار في النهوض بالمرأة خطوة تدخلية استراتيجية واستباقية. عندما تركتُ وزارة الخارجية عام ٢٠٠٠، كانت ترد عشرات البرقيات التي تحمل تقارير يومية من السفارات الأمريكية تستعرض قضايا المرأة حول العالم، بعكس ما كان يحدث حين بدأت؛ إذ كانت تمضي أشهرٌ قبل أن تصلنا برقية واحدة. كان هذا دليلًا واضحًا على أن جهود الوزيرة أولبرايت، والسيدة هيلاري كلينتون، وميلان فرفير، وتيريزا، وكاثي، وأنيتا بوتي، ونائبة مديرة المكتب، وغيرهن؛ ستتواصل لتتجاوز فترة خدمتهن بالحكومة. كان هذا تغيرًا مستدامًا.
•••
لعل أهم ما في الأمر أن منظمة أصوات حيوية كانت عاملًا حافزًا؛ مساحة تلتقي فيها القائدات من مختلف البلدان والثقافات والقطاعات والأجيال، وبلقاء كلٍّ منهن الأخرى يحدث تحوُّل لهن. وعلى مدار يومين أو ثلاثة أيام، بدأ العديد من المُشارِكات يجدن في أنفسهن قائدات للمرة الأولى. هذا التحوُّل في التفكير أصبح حاسمًا في نجاحهن ونجاحنا. ومن خلال عملنا، التقينا بسيدات فهمن المشكلات التي تواجه مجتمعاتهن، ولم يكنَّ متشائمات بشأن الحلول. لقد آمنَّ بإمكانات مجتمعاتهن. امتلك هؤلاء السيدات نقاط قوة مشتركة أصبحت جزءًا متممًا لفهم منظمة أصوات حيوية للقيادة النسائية؛ نقاط قوة تتضمن القدرة على مد جذور قوية بمجتمعاتهن، والتفاعل مع غيرهن ممن يعشن في تلك المجتمعات وقيادتهن إلى حياة أفضل.
منذ عام ١٩٩٧، لاحظت أصوات حيوية وجود اتجاه لدى القائدات اللاتي يتخذن أنماط قيادة تشاركية أو أفقية. ومن واقع خبرتنا، الذين يتقلدون القيادة من الداخل يرسخون مطامحهم في المجتمع، ويسعون للسلطة من أجل تمكين الآخرين. فهن يحققن أقصى درجات النجاح عندما يتمكَّنَّ من أن يبقين على اطلاع دائم باحتياجات مجتمعاتهن، حتى وهن يكتسبن مزيدًا من الشهرة، وكذا لضمان استجابتهن لاهتمامات مجتمعاتهن، وإشراك أخريات معهن.
على سبيل المثال، كانت قيادة مارينا بيسكلاكوفا المباشرة لسيدات يعانين مع العنف الأسري عاملًا حافزًا لتحولها إلى قائدة. ومع استمرارها في عملها لمكافحة العنف ضد المرأة، استغلت مارينا تأثيرها المتنامي كمنبر تبسط من فوقه خدماتها وتعزز الوعي بالقضية، بحيث ينمو كذلك التزام المجتمع ذاته باجتثاث جذور العنف. لم تقس مارينا نجاحها بإنجازها الشخصي أو الاستحسان الدولي لها، بل بتقدُّم مجتمعها.
من يتولين القيادة النابعة من داخلهن ويضربن بجذورهن في المجتمع، مثل مارينا، يحافظن على وجودهن بالقرب من الأشخاص الذين يوجهنهم أو يخدمنهم أو يمثلنهم، ويفتحن قنوات تواصل قوية معهم. وعلى عكس الغرباء حسني النية الذين فرضوا حلًّا لأزمة المياه في بنجلاديش، يُلِمُّ القادة التشاركيون بالمعلومات المحلية، فيفهمون المسائل المعقدة المتضمنة في التشجيع على التغيير الإيجابي، وبإمكانهم تمييز التغيرات الحادثة على الأرض بسرعة والاستجابة لها؛ ففي بنجلادش، كان سيصبح مثل هذا القائد في موقع يتيح له التعرف بصورة أفضل على الزيادة في نسب الدعارة والاتجار بالبشر عبر القرى المتأثرة، وكذا معالجة المسألة.
إضافة لذلك، نظرًا لأن القادة التشاركيين جزء من مجتمعاتهم، فإنهم غالبًا ما يلتزمون بالشفافية والمسئولية. تعتمد القيادة التشاركية على عمليات صنع قرار تعاونية وموافقة مجتمعية. وعلى ذلك، يتعاون القادة التشاركيون مع الآخرين بدايةً لوضع استراتيجية للتغيير، ثم لمراقبة تنفيذ تلك الاستراتيجية، ويتسنَّى لأعضاء المجتمع ملاحظة جهود قادتهم، وتحميلهم مسئولية تحقيق الأهداف المعلنة. يفهم القادة التشاركيون الناجحون أنه لزام عليهم حشد أصحاب المصلحة الضروريين والتماس الدعم والتوجيه ممن سيتأثرون باستراتيجيتهم. والعمل على مشاركة المجتمع من البداية يشجع على اكتساب حس المسئولية المجتمعية؛ حيث يكرِّس أعضاء المجتمع جهودهم على قدم من المساواة من أجل ضمان نجاح القائد في دفع عملية التغيير قُدمًا. وللإصلاحات المدفوعة على هذا النحو إمكانية أن تكون أكثر استدامة وديمقراطية في الواقع من الحلول المفروضة من المستويات الأعلى للمستويات الأدنى. وقد شاهدنا بمنظمة أصوات حيوية أن هذا النمط التشاركي يعطي المرأة أفضلية قيادية.
رغم المنافع المصاحبة للقيادة التشاركية، تشكل القيادة النابعة من الداخل تحديات كبيرة لنمو قيادة المرأة، والجهد الإجمالي المبذول من أجل إضفاء شرعية على قيادة المرأة في التيار المجتمعي السائد؛ ففي مقابل السلطة المركزية العامة التي تميز القادة التقليديين، في نموذج القيادة التشاركي أو «الأفقي»، يتشارك القادة سلطة صنع القرار، ويحتلون موقعًا داخل مجتمع يتسم بالسلطة الجمعية؛ فمن يتقلدون القيادة التشاركية، رجالًا كانوا أو نساءً، يصعب تمييزهم كقادة.
في الواقع، كثير من النساء اللاتي عملن مع منظمة أصوات حيوية في أيامها الأولى لم يعتبرن أنفسهن قائدات، رغم إنجازاتهن الضخمة؛ لذا تشجع المنظمة على تهيئة بيئة تساعد على تمكين القيادة النسائية، وتلقي الضوء على الجوانب التي تختلف فيها قيادة المرأة عن نماذج القيادة التقليدية التي تميز الرجال. وكلما زاد إدراك المرأة وتقديرها لإمكاناتها القيادية، زادت الفرص التي ستُتاح لها لحمل شعلة تقدم كبير من أجل المجتمع بأكمله.
لبنى القاضي
دائمًا ما قيل لنا: «فلتتحلَّيْنَ بالصبر. ستحصل المرأة على حقوقها السياسية عندما يحين الوقت المناسب.» وبعدها بأربعين سنة، حان الوقت في الكويت أخيرًا.
عندما نالت الكويت استقلالها في عام ١٩٦١، وضع الشيخ عبد الله السالم الصباح؛ الحاكم الكويتي التقدمي آنذاك، دستورًا أُعلن فيه أن جميع المواطنين سواسية. لكن حينها، كان المقصود فعليًّا جميع الرجال. ومع دخول الكويت حقبة الحداثة، أدرك الأمير أن التغيير سيحدث بصورة طبيعية؛ فتدريجيًّا ستتعلم السيدات ويصبحن عضوات بالبرلمان، لكن التقاليد ألقت بظلالها على الأمل المعقود على التقدم، ولم تحصل النساء على تلك الحقوق.
بحلول سبعينيات القرن العشرين، فاق عددُ السيدات اللاتي كن يرتدن الجامعات في الكويت وخارجها عددَ الرجال. كانت الدكتورة لبنى القاضي إحداهن، وعندما عادت إلى الكويت تقلدت منصب أستاذ علم الاجتماع بجامعة الكويت؛ حيث انضمت إلى سيدات أخريات بالمجتمع وتحدثن بصراحة وحرية. لقد شعرن بأن الوقت قد حان كي تكون لهن كلمتهن في شئون البلاد السياسية. ورغم أنهن نظمن العديد من الحملات السياسية، لم يؤخذ كلامهن على محمل الجد حتى ثمانينيات القرن العشرين، عندما سُمح لهن أخيرًا بلقاء الحاكم وأعضاء البرلمان بعد طول انتظار. بعدما قدمن الحجج على حق المرأة في الاقتراع، ابتسم أحد القادة وقال: «أتفق معكن، نعم، ينبغي أن تحصلن على حقوقكن، وستحصلن عليها عندما يحين الوقت المناسب.» فردت لُبنى بإحباط: «ماذا نحتاج لإثبات أن الأوان قد حان لإدماج المرأة؟ إن كانت النساء في حاجة إلى التعليم، فالنساء متعلمات بالفعل. إن لم تكن لديك مشكلة في عملنا إلى جانب زملائنا الذكور لتعزيز اقتصاد الكويت ومجتمعها المدني، فلماذا لديك مشكلة في عمل المرأة من أجل تعضيد حكومتنا؟»
من قبيل المفارقة أن الحرب هي التي بدأت في تغيير الاتجاهات السائدة؛ فعندما اجتاح صدام حسين الكويت في ١٩٩٠، شاركت النساء مشاركة كاملة في المقاومة. فرَّ الأمير الشيخ جابر الأحمد الصباح وحكومته إلى السعودية؛ حيث شكل حكومة بالمنفى، وهناك أعلن الشيخ جابر أن المرأة ستنال حقوقها كاملة كمواطنة كويتية بعد الحرب. وعندما وضعت الحرب أوزارها في عام ١٩٩١، حاولت السيدات إقناع هؤلاء القادة بتنفيذ وعدهم. أُعيد تأسيس البرلمان في العام التالي، وجرى الاقتراع على حق المرأة في الاقتراع. من جديد، قال المشرعون إن المرأة ليست على استعداد للممارسة السياسية. وماذا كانت ذريعتهم؟ لم تكن المرأة تمتلك خبرة سياسية.
أدركت لُبنى وغيرها من القيادات النسائية أنه يتعين عليهن تشكيل جبهة من المؤيدين لإجبار الحكومة على التحرك. ولِوَعْيهنَّ أن بعض نواب البرلمان يشاركونهن موقفهن بأنه ينبغي أن تحصل المرأة على حقوقها السياسية، عقدن اجتماعات ودعين هؤلاء النواب للانضمام إليهن كحلفاء لهن، كما نظمن نقاشات لتوعية الجماهير وللفْتِ انتباه الصحافة، بل وأشركن زوجات أعضاء البرلمان والقادة المحافظين.
كان على لُبنى وحلفائها أن يُثْبتنَ للجماهير الكويتية أن حرمان النساء اللاتي يمثلن نصف الشعب من حقوقهن الأساسية كمواطنات خطأ قانوني واجتماعي وسياسي. للقيام بذلك، أدركت لبنى أنه سيكون عليها دحض المفاهيم الخاطئة السائدة بين كلٍّ من الرجال والنساء، مثل أن سيدات الطبقة الراقية في منتصف العمر وحدهن هن من يسعين خلف الحقوق السياسية. أدركت أن كثيرًا من النساء أنفسهن لم يرين حاجة لاكتساب حقوق سياسية. وإذ اعتمدت لُبنى على فهمها للشئون المحلية المستقى من حياتها بالبلاد، فإنها رفعت هي وغيرها من المدافعات عن حقوق المرأة التماسًا، وجمعت التوقيعات المؤيدة من طلاب الجامعة ورجال الأعمال والبرلمانيين والزعماء الدينيين، الذين أقنعتهم أن حق الاقتراع ليس قضية دينية، ونشرن التوقيعات في الصحف لعرض تنوع التأييد لحق المرأة في الاقتراع.
ساعد في ذلك أيضًا المؤثرات الدولية والأحداث التي وقعت خارج حدود الكويت؛ ففي عام ٢٠٠٢، على سبيل المثال، حصلت النساء في البحرين على الحقوق السياسية قبل بضعة أشهر من الانتخابات الوطنية، لكن كانت الانتخابات وشيكة بحيث لم يتسنَّ لهن وقت طويل لتنظيم أنفسهن. لم تتمكن مرشحة بحرينية واحدة من إعداد حملة ناجحة. عزمت السيدات الكويتيات على أن يعددن أنفسهن على نحو أفضل من نظيراتهن البحرينيات، فسافرن إلى الولايات المتحدة لتلقي تدريبات على المهارات السياسية نظمتها أصوات حيوية وغيرها من المنظمات. كما قمنا بجَمْعهن مع برلمانيات من دول عربية أخرى لكسب الدعم واكتساب الأفكار.
تقول لُبنى: «جاءت نقطة التحوُّل في عام ٢٠٠١، عندما لاحظنا أن الوقت ينفد قبل مجيء الانتخابات التالية، فقررنا تغيير لغتنا من «حقوق المرأة» إلى «مستقبل قوي للكويت»؛ مقنعات الناس أنه لا ينبغي أن تحتكر قلة من الصفوة مستقبل البلاد وتقرره.» هذا التغيير في لغة جهودهن الرامية للدفاع عن حقوق المرأة ساعد على إشراك الشباب، الذين بدءوا تنظيم مسيرات جماهيرية. إحدى صوري المفضلة من تلك الأيام صورة للشباب والشابات يمشون معًا مرتدين قمصانًا زرقاء متماثلة مكتوبًا عليها: «النساء كويتيات أيضًا.» كان اللون الأزرق يرمز لحق المرأة في الاقتراع. هؤلاء الشباب الذين أيدوا مشاركة المرأة الكاملة ساعدوا على إرسال الرسالة القائلة بأن حق الاقتراع سيعود بالنفع على كل الكويتيين، وليس على النساء وحدهن.
انضمت فئات صغيرة من داخل الحكومة إلى جماعة الضغط من أجل حقوق المرأة، فأصبحت الدكتورة رشا الصباح؛ وكيل وزارة التعليم العالي وإحدى مستشارات الأمير المؤتمنات، مؤيدة قوية للقضية. وبأحد المؤتمرات الأولى التي عقدتها منظمة أصوات حيوية، قالت للسيدة هيلاري كلينتون: «لا نريد ديمقراطية منقوصة في الكويت، بل نريدها ديمقراطية كاملة.»
وتسترجع لُبنى ما حدث: «عندما حصلنا في النهاية على حقوقنا السياسية من خلال تصويت برلماني أُجري في عام ٢٠٠٥، كانت لحظة سعادة غامرة بحق. لم يكن مرسومًا أصدره الأمير، بل تحقق ما تحقق عبر عملية ديمقراطية حقيقية، وانتشر الخبر كسريان النار في الهشيم. وخلال ثلاثين دقيقة، علمت الكويت كافة أن النساء حصلن على حقوقهن السياسية أخيرًا.»
بعدها ببضعة أشهر، سافرت إلى الكويت للمرة الأولى، ورغم أن منظمة أصوات حيوية دعمت ودربت النساء الكويتيات، فإننا حرصنا من جانبنا على تجنب ترك انطباع يُشعر بأن النساء الأمريكيات كن وراء حملة حق الاقتراع. علمتنا السيدات في الكويت قوة الاعتماد على المعرفة المحلية لإحداث تغيير إيجابي. صحيح أننا قدمنا لهن الاتصالات والأفكار، لكن معرفتهن بالمجتمع الكويتي أثْرَت وغذَّت دفاعهن عن القضية؛ فما كان لاستراتيجية مُستقدَمة من خارج البلاد أن تتمكن من إحداث التحوُّل الضخم الذي قاد إلى النجاح. ترى لُبنى أنك إن رفعت وعي النساء بحقوقهن، فإنهن سيستخدمنه، تقول: «هذا ما كنا نفعله طوال الفترة الماضية من خلال الوصول إلى النساء في مختلف أجزاء الكويت؛ حيث أوضحنا لهن الحقوق التي كفلها الدستور لهن. تحظى النساء في الكويت اليوم بالفرصة والمسئولية كي يكنَّ مواطنات فاعلات ومطلعات، ولَسْنَ مجرد متفرجاتٍ.»
ماريا باتشيكو
إن أصعب أمر بعد الحرب ليس إعادة تشييد البنية التحتية، وإنما إعادة بناء قلوب وعقول الناس، وإلهامهم الثقة من جديد في البشر، وليس هذا بشيء يمكن إيجاده خارج بلدنا، بل يجب غرسه في نفوس شعبنا.
في عام ١٩٩٣، وقد أعيا ماريا العنف المتصاعد في مدينة جواتيمالا، ارتحلت بأهلها إلى الجبال. ولأنها أصبحت عالمة في مجال البيولوجيا بالتدريب، عملت مُزارعة للمحاصيل العضوية. وعندما تعلَّم القرويون القريبون من خبرة ماريا، طلبوا منها مساعدتهم في جعل حقولهم الظمْأَى أكثر إثمارًا. اكتشفت ماريا أن الأرض جدباء. كانت المنطقة تعاني من الجفاف والمجاعة، وانهيار سوق البن ترك قرًى بأسرها دون دخل.
كان السكان الأصليون يتوقون لطريقة يعولون بها أسرهم. في اليوم الذي التقيت فيه ماريا، حكت لي قصة سيدة من شعب الكورتي الماياوي تُدعى دونا سانتا. كان طفلها مريضًا بالحُمى، وعندما سألتها ماريا عن سبب عدم اصطحابها له إلى الطبيب، أجابتها دونا: «أملك خمسة دولارات؛ بهذا المبلغ يمكنني محاولة إنقاذ هذا الطفل أو إطعام أطفالي السبعة الآخرين لمدة شهر!»
لم يكن بمقدور ماريا تقبُّل واقع في بلدها تضطر في ظله أمٌّ من الأمهات إلى اختيار مَن سيعيش أو يموت من بين أطفالها؛ لذا شرعت في مهمة لجلب الفرص والرخاء والكرامة — وهي الأهم — إلى مجتمعات أهملها الآخرون طويلًا. أدركت أنه لا يمكن استقدام حل من الخارج، فقالت: «لا يريد شعبي إحسانًا؛ إنه يريد شراكة، فهو يتمتع بمهارات وبتراثٍ ثري، ويمكنه صنع منتجات؛ إنه لا يحتاج سوى الدعم والاستثمار والوصول إلى الأسواق لبيع تلك المنتجات.»
جواتيمالا موطن لاثنتين وعشرين مجموعة عرقية مختلفة، لكلٍّ منها ثقافتها الفريدة وتقاليدها. ولإجلال هذه التقاليد، وإتاحة السبيل للسيدات كي يحققن دخلًا، أنشأت ماريا شركة «غزال الغابة»، التي تعاملت في البداية مع مجموعات سيدات من السكان الأصليين لتوصيل منتجاتهن الفنية المحلية إلى الأسواق الوطنية والدولية. تقول ماريا: «يعتقد شعب المايا أن الغزال هو حامي الغابات. وهذا ما نحاول فعله؛ حماية أثمن تقاليدنا الثقافية في الوقت الذي نتيح فيه الفرص.»
لم يكن الهدف إغاثة آنية من الجوع وحسب، بل كان تحسين جودة الحياة، وإصلاح المجتمعات الأصلية وإعادتها إلى سابق عهدها، وصون ثقافة قديمة. بالنسبة إلى ماريا، كان الهدف أيضًا الاستصلاح طويل الأمد لأراضي المنطقة ومواردها المائية من خلال إعادة الغابات والمحافظة على البيئة. تعلمت الأسر زراعة حدائق عضوية من أجل تحسين تغذيتهم. ومن خلال شركة «غزال الغابة»، تحسنت جودة حياة الأسر بالمجتمعات المحلية تحسنًا كبيرًا، وجذب عمل ماريا الاهتمام على المستوى الوطني. وعلى ذلك، طالبتها السيدة الأولى في جواتيمالا ببسط نطاق عملها ليشمل آلافًا آخرين.
في عام ٢٠٠٦، وتقريبًا في الوقت ذاته الذي توجهت فيه السيدة الأولى بطلبها إلى ماريا، التقت منظمة أصوات حيوية ماريا للمرة الأولى. لقد اختارت السفيرة الأمريكية في مدينة جواتيمالا ماريا لتكون من ضمن المجموعة الأولى من المتدربات المشاركات في شراكة التوجيه العالمية بين مجلة فورتشن ووزارة الخارجية الأمريكية. وهي من بنات أفكار دينا باول؛ التي كانت آنذاك تشغل منصب مساعد وزيرة الخارجية، وباتي سيلرز؛ من أبرز محرري مجلة فورتشن ورئيسة لجنة قائمة فورتشن لأكثر نساء العالم تأثيرًا. جمع البرنامج، الذي نسقته أصوات حيوية، رائدات الأعمال الصاعدات من أنحاء العالم مع التنفيذيات المتصدرات لقائمة فورتشن ٥٠٠ من أجل خبرة توجيهية استمرت شهرًا، وصفتها كثيرات من المتدربات بأنها خبرة تحويلية. كانت موجِّهة ماريا هي كاثي كالفين؛ الرئيس التنفيذي لمؤسسة يونايتد ناشنز فونديشن والمسئول التنفيذي السابق بشركة أمريكا أون لاين.
تسترجع كاثي كالفين ما حدث: «من اللحظة الأولى التي قابلت فيها ماريا، أدركت أنني كما سأُعلِّمها فإنني سأتعلم منها. تمتعت ماريا بقدر كبير من الطاقة والحماس. لقد شاهدت امرأة تحمل همَّ بلدٍ بأسْره.» طوال فترة التوجيه، حملت ماريا مفكرة صغيرة كتبت فيها اقتباسًا لهنري دافيد ثورو: «امضِ قدمًا بثقة نحو أحلامك. عش الحياة التي حلمت بها.» تؤمن ماريا إيمانًا راسخًا بقدرتها على تشكيل العالم الذي تحلم به. حملت ما اكتسبته خلال فترة تدريبها وعادت به إلى جواتيمالا؛ لبسط نطاق عمل شركة «غزال الغابة»، وللنزول على رغبة السيدة الأولى، ولجلب الرخاء إلى مزيد من المجتمعات.
نال صنيع ماريا الاستحسان والتقدير في أكثر من موضع؛ ففي عام ٢٠٠٧ كرَّمتها منظمة أصوات حيوية بإحدى الجوائز التي تُمنح في مجال القيادة العالمية الهادفة إلى التمكين الاقتصادي. سافرت سيدة جواتيمالا الأولى ويندي دي بيرجر إلى واشنطن العاصمة للانضمام إلى دينا باول في تسليم الجائزة إلى ماريا. وفي عام ٢٠٠٨، كرَّمت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية ماريا ومجموعة من زميلاتها من جواتيمالا بمنحة لتدشين برنامج توجيه مبتكر في أمريكا الوسطى يهدف إلى تحقيق التواصل بين الشابات والموجهات المتمرسات في أنحاء المنطقة.
لم تكن هذه سوى البداية لماريا. أدركت ماريا أن هناك مجتمعات أصلية في جميع أنحاء العالم تناضل في قضايا شبيهة بقضايا مجتمعات المايا في جواتيمالا. بعد بضعة أشهر من عودتها للوطن، شكلت ماريا فريقًا مع موجهتها كاثي كالفين ومؤسسة يونايتد ناشنز فونديشن؛ لتدشين برنامج تجريبي بهدف نقل الأساليب التي استخدمتها في جواتيمالا وأثبتت نجاحها إلى أحد مواقع التراث العالمي في المكسيك. كان الغرض من البرنامج حماية البيئة والتراث والثقافة المحلية، وفي الوقت ذاته استحداث مصادر دخل مستدامة للسكان الأصليين. ترى ماريا أنه في حالة نجاح البرنامج سوف تكون هناك إمكانية لوضع نموذج عالمي سيجري من خلاله توجيه ودعم المجموعات المحلية وهم بصدد تصميم طرائقهم الخاصة لحماية الموارد الطبيعية الفريدة، والتقاليد المثمنة، وسبل عيش الشعوب التي تعتنقها.
مو سوشوا
عندما أسمع طفلة تقول: «ردُّوا إليَّ روحي.» أشعر كما لو أنها قالت: «ألتمس العدل.»
في عام ١٩٧٢، عندما كانت مو سوشوا في السابعة عشرة من عمرها، وضعها أبواها على طائرة أقلعت من كمبوديا إلى فرنسا لإنقاذها من مذابح الخمير الحمر، ولم ترهما بعدها مرة أخرى.
اتخذت سوشوا طريقًا طويلًا ومتعرجًا في عودتها إلى وطنها. وبانتقالها من باريس إلى سان فرانسيسكو، حاولت أن تبني حياةً لنفسها، وتقلدت قيادة الجالية الكمبودية التي تعيش في منطقة خليج سان فرانسيسكو، إلا أنها ما فتئت تحلم كل ليلة بالعودة إلى بلدها للبحث عن أسرتها.
في عام ١٩٨٩، اتخذت سوشوا في النهاية سبيلها إلى جنوب شرق آسيا لتعمل في معسكر للاجئين على الحدود التايلندية الكمبودية، تقول عن ذلك: «أول ما وصلت، تفرست في كل وجه محاوِلةً العثور على والدي.» في عام ١٩٩٠، عادت إلى كمبوديا لتجد أن وطنها قد تغير. كان الشعب يعيش في فقر، وكان الريف الجميل الذي تذكرته يعج بالألغام، وأصبحت مدينة بنوم بنه، العاصمة الكمبودية، مرتعًا للمنحرفين جنسيًّا الذين يفترسون الشابات والفتيات الضعيفات. تحدثت سوشوا إلى سيدات محليات وتأثرت تأثرًا شديدًا بقصصهن المروعة عن الاعتداء والعنف الجنسي. أصبحت أصواتهن وقودًا لمعركتها.
سرعان ما أصبحت سوشوا الصوت الرائد في الحركة النسائية في كمبوديا؛ إذ تعاونت مع شبكات نسائية ومنظمات عاملة في مجال حقوق الإنسان من أجل التشجيع على السلم، وإدراج بنود صارمة في دستور ١٩٩٣ لحماية الحقوق الإنسانية للمرأة. وفي عام ١٩٩٥، حضرت سوشوا مؤتمر الأمم المتحدة العالمي الرابع المعني بالمرأة في بكين، وهناك كان قرارها بعد أن سمعت هيلاري كلينتون تردد: «حقوق المرأة هي حقوق الإنسان، وحقوق الإنسان هي حقوق المرأة.» وكان قرارها بتقلد منصب عمومي من أجل إيصال أصوات النساء.
التقيتُ سوشوا في زيارتي الأولى إلى كمبوديا. حينها كانت قد اكتسبت سمعة دولية بوصفها أول «سيدة» في كمبوديا تتولى منصب وزير شئون المرأة. لم تخفَ المفارقة على أحد؛ فقد كانت سوشوا متمردة داخل مجلس الوزراء؛ إذ كانت تضغط من أجل التغيير داخل حكومتها. كانت وزيرة نهارًا، لكن كانت تسير ليلًا متجهة إلى حي الدعارة في مدينة بنوم بنه لتنصت إلى قصص النساء. من بين الإجراءات الأولى التي اتخذتها كوزيرةٍ التفاوضَ على اتفاق مع تايلاند؛ للسماح للسيدات الكمبوديات اللاتي سقطن ضحايا الاتجار بالبشر واشتغلن بالجنس بالعودة إلى وطنهن بدلًا من احتجازهن في السجون. تقدمت بمشروع قانون للعنف الأسري ودافعت عنه بالبرلمان، وكان لها السبق في استخدام إعلانات تليفزيونية صريحة. كما أنها جالت في أنحاء البلاد لمدة خمس سنوات لرفع وعي الفتيات والصبية بشأن الاتجار بالبشر.
بالتأكيد أقضَّت سوشوا مضاجع البعض في حكومة ينصبُّ تركيزها على تصدير نجاحات كمبوديا إلى العالم الخارجي. خلال زيارتي الأولى قالت لي: «إن أردتُ استغلال هذا المنصب لإحداث تغيير، عليَّ أن أستعد للمخاطرة بكل شيء. ثمة مقولة ببلدي تقول: «الرجل كالذهب، إنما المرأة كقطعة من القماش الأبيض.» إن اتسخ الذهب يمكن تنظيفه، لكن بمجرد أن تتلطخ قطعة القماش الأبيض تظل على وسخها للأبد. يجب أن نغير هذا التفكير.»
وتقديرًا لجهودها في مجال مكافحة الاتجار بالنساء في كمبوديا وتايلاند المجاورة، رُشحت سوشوا لجائزة نوبل للسلام بالمشاركة لعام ٢٠٠٥. لكن لم يمتدح الجميع جهودها؛ فكمبوديا واحدة من أكثر البلدان فسادًا بالعالم، وكثيرون يحققون الثراء من خلال شراء وبيع البراءة. عندما عدت إلى كمبوديا في يناير ٢٠٠٥، كانت سوشوا قد أُقصيت من منصبها كوزيرة لشئون المرأة. أتذكَّر جلوسي معها في مطعم بوسط مدينة بنوم بنه. قبل ذلك ببضعة أيام، كانت قد هاجمت منظمةٌ محلية مناهضة للاتجار بالبشر أحدَ أوكار الدعارة وأنقذت عشرات الفتيات، ثم اجتاح المتاجرون بالبشر ملجأَ المنظمة؛ إذ كانوا يتعاونون من كثب مع الشرطة المحلية من أجل «استرداد ممتلكاتهم». كانت سوشوا تعتقد أنه بإمكان المرء تتبع خيط الفساد وصولًا إلى السلطة العليا.
سيكون من السهل الشعور بالعجز والإحباط أمام هذا الاستغلال المنيع للسلطة، لكن لم تضعف عزيمة سوشوا ولم يفتر التزامها. تركت الحزب الحاكم وسعت للفوز بمقعد بالبرلمان كمرشحة عن المعارضة. بعد ذلك بعام كانت أول سيدة تتقلد منصب الأمين العام لحزب سياسي في كمبوديا. وبوصفها من كبار زعماء المعارضة، تواجه سوشوا ترويعًا وتهديدات مستمرة ممن بيدهم مقاليد السلطة، إلا أنها استمسكت بمطالبتها المجتمع الدولي بالانتباه إلى الفساد الحكومي وانتهاكات حقوق الإنسان التي تتغاضى عنها حكومتها.
في رحلاتي السبع إلى كمبوديا على مدار تسع سنوات، بدا أن مشكلة الاتجار بالبشر لا تزداد إلا سوءًا. وعقب الأزمة الاقتصادية العالمية عام ٢٠٠٨، خسر آلاف العاملين بصناعة الملابس وظائفهم؛ ما أدى إلى تقلص الفرص الاقتصادية المتاحة أمام النساء. إنها حلقة مفرغة. توضح سوشوا قائلة: «تتلقى النساء أقصى الضربات في هذا الركود، وستكون شريحة جديدة من السكان عرضة للمتاجرين بالبشر.»
في كمبوديا يَسهُل سماع أصوات من في السلطة، في حين تزداد صعوبة إيجاد مساحة لمن يشعرون بالظلم. تعمل سوشوا من أجل إعداد قيادات نسائية محلية في كمبوديا لينافسن في يوم من الأيام على المستوى الوطني. وفي الوقت نفسه، نادت بحجز نسبة ٣٠ بالمائة من مقاعد البرلمان للمرشحات، تقول سوشوا: «بعد انضمامي لحزب المعارضة، كان جُلُّ تركيزي منصبًّا على الديمقراطية وحقوق الإنسان.» كما أنها تقدِّم المشورة لشبكة واسعة من جماعات المجتمع المدني والنقابات العمالية بشأن استراتيجيات توسيع المجال أمام الديمقراطية.
كانت إحدى أكثر استراتيجيات سوشوا نجاحًا تتمثل في التعاون مع مختلف المجموعات، إما على المستوى المحلي أو الوطني أو الإقليمي أو الدولي. وتركز سوشوا على التنمية الطويلة المدى، التي تشمل تنمية رأس المال البشري في بلد أُعدم فيه أغلب المعلمين والأطباء والقضاة قبل ذلك بسنوات على يد الخمير الحُمر، الذي يُعتبر أكثر الأنظمة دموية في القرن العشرين.
وترى سوشوا أنه يجب على الحكومة وضع وتنفيذ سياسات تخلق فرصًا وتدابير خاصة للنساء بحيث يمكنهن حصد جزء من تنمية كمبوديا، ولا يمكن التعامل مع قضيتي التمييز والعنف ضد المرأة إلا عندما يقدِّر المجتمع ككلٍّ المرأة بوصفها إنسانًا وشريكًا مثلها مثل الرجل.
تقضي سوشوا قرابة ٨٠ بالمائة من وقتها في عقد فعاليات دعائية، وتلتقي بجمهور ناخبيها. سألتها: لمَ تفعل هذا وهي ذائعة الصيت ومحبوبة من شعبها، وستفوز دون شك بالانتخابات؟ فردت دون تردد: «أفعل ذلك لأني أود أن أتعرف عليهم أكثر. ينبغي أن أعرف منهم مباشرة شعورهم عند فقدان طفل بسبب مرض ما، أو سوء التغذية، أو الاتجار بالبشر. أريد أن أفهم ما تمر به أسرة من الأسر عندما تصادر الحكومة أملاكها. السبيل الوحيد الذي أستطيع من خلاله تمثيل شعبي هو أن أعرف ما يشعرون به. لا أعرف سبيلًا آخر للقيادة.»
روشانا ظفر
هذا هو الدور الذي طالما تخيلت نفسي أؤديه؛ أن أكون حلقة وصل! أشعر بالارتياح وسط جماعة تضم عملائي وفريق عملي في أي جزء من باكستان، وأتحدث بالقدر نفسه من الثقة إلى رؤساء دول العالم.
بالنسبة إلى كثير من العاملين في قطاع التنمية، الحد من الفقر هو أشق المشاق، وبالنسبة إلى البعض بدا الأمر عصيًّا. أُحبطت روشانا ظفر؛ وهي اقتصادية بمكتب البنك الدولي في إسلام آباد، جرَّاء عجز مجتمع التنمية عن إحداث تقدُّم سريع لتحسين حياة أكثر أسر العالم فقرًا. ولما أصاب الوهن عزيمتها وأخذت تبحث عن حلٍّ أفضل، وجدت نفسها ترتاد مؤتمرًا عُقد في عام ١٩٩٢، وهناك التقت الدكتور محمد يونس وأبهرها عمله المبدع في مجال الائتمان المتناهي الصغر. وباعتبار الدكتور يونس مؤسس بنك جرامين الشهير حاليًّا، وباعتباره حائزًا جائزة نوبل للسلام لعام ٢٠٠٤، فقد أوضح أنه عند إعطاء قروض صغيرة للسيدات دون ضمانات لم تحسِّن النساء من حياتهن اقتصاديًّا وحسب، بل اتضح أن معدل سداد الديون كان أعلى كثيرًا من النماذج المصرفية التقليدية.
تصف روشانا مقابلتها الأولى بدكتور يونس قائلة: «كنت غريبة تمامًا، لكنه لم يبخل عليَّ بالنصح ولم يضع عوائق بيننا. له جاذبية من ثقة هادئة يُظهر منها أقل مما يبطن تجعلك تريدين اللحاق به أينما يذهب. دعاني للمجيء إلى بنجلاديش وملاحظة النموذج الذي طبقه. كان من المستحيل رفض مثل هذا العرض.» وهكذا قبلت روشانا العرض.
في عام ١٩٩٤، سافرت روشانا إلى بنجلاديش وعملت من كثب مع بنك جرامين لتتعلم كيف كان الائتمان المتناهي الصغر يُحدث تحولًا في حياة أفقر الفقراء. بعد انقضاء عام، تساءلت كيف يمكنها مواصلة تقديم المساعدة. أخبرها يونس أن بنك جرامين بمقدوره الاستمرار في بنجلاديش. أما المكان الذي كان في أمسِّ الحاجة إليها فكان في وطنها باكستان. أعطاها ١٠ آلاف دولار كرأس مال تأسيسي وأخبرها أن تبدأ برنامجها الخاص. في عام ١٩٩٦، عادت روشانا إلى باكستان وشرعت في عملها.
رغم أنني تتبعت عمل روشانا لسنوات، التقينا أول ما التقينا في عام ٢٠٠٩ من خلال إحدى شريكاتنا، وتدعى أماندا إليس، التي كانت تقود أبحاثًا متطورة في البنك الدولي لقياس تأثير استغلال الإمكانات الاقتصادية للمرأة وإعداد تقارير عنها. ما أثار إعجابي أكثر من غيره كان وعي روشانا الذاتي كقائدة؛ فلتغلغلها في المجتمعات التي تخدمها، كانت تنصت إلى السيدات المحليات وتقودهن مقدِّمةً اهتماماتهن إلى الصدارة. هذا الرسوخ والتواضع مكَّناها من التعرف على أخطائها والتعلُّم منها؛ وفي النهاية، مكَّناها لتصبح قائدة أكثر نجاحًا.
فعلى سبيل المثال، في تدشين مؤسسة «كشف»، واجهت روشانا مجموعة من التحديات؛ فعلى عكس النجاح الذي بدا مطلقًا لبنك جرامين، تخلَّف مقترضوها عن الوفاء بديونهم بنسبة مئوية أعلى كثيرًا؛ ففي أول عامين، اكتشفت أن ٢٠ بالمائة من قروض مؤسسة كشف متعثرة. أصبحت روشانا اقتصادية بالتدريب، وكانت خبيرة في التنمية الدولية. لقد عملت جنبًا إلى جنب مع محمد يونس في بنجلاديش، لكن بطريقة أو بأخرى نموذج بنك جرامين الذي ازدهر في بنجلاديش لم يكن مثمرًا في باكستان كما كانت تود.
لكي تتوصل إلى أسباب فشل المشروع، توجهت روشانا وفريقها مباشرة إلى النساء اللاتي كنَّ يحاولن مساعدتهن. تشرح روشانا ما حدث قائلة: «كان افتراضنا الأساسي أنه علينا أن نعمل مع السيدات وحدهن ولا نشرك الأسر، لكن أول عامين (١٩٩٦ إلى ١٩٩٨)، عندما لم يتمكن بعض السيدات من سداد قروضهن وحاولنا نحن إشراك الرجال في أُسرهم، وجدناهم غير مستعدين لذلك؛ قالوا إن السيدات لم يستشرنهم من البداية.» وهنا بدأت المشكلة تتكشف لروشانا.
رغم النوايا الحسنة لمؤسسة كشف، فإنها همَّشت بعض المقترضات بعدم تضمين الرجال الذين لهم صلة بهن في حياتهن كأصحاب مصلحة. ولأن الرجال لم يشتركوا في القرار، استاء البعض منهم من زوجاتهم. أدركت روشانا أنه كي تمكِّن المرأة، ينبغي لها تمكين كل شخص؛ فتقول: «راجعنا استراتيجيتنا ونظرنا إلى التمويل المتناهي الصغر من خلال السيدات لدعم الاحتياجات الاقتصادية للأسر؛ لأننا أدركنا أن الفقر يؤثر على أعضاء الأسرة كافة، ولكن بصور مختلفة. وعليه كان ينبغي لنا تطبيق نهج متعدد الجوانب.»
في حين ظلت روشانا على وفائها لمهمتها الهادفة إلى تمكين المرأة، على يد المرأة نفسها، فإنها غيَّرت من نهجها. جعلت سياستها إشراك الرجال في عملية الإقراض، والاستعانة بخدمات الرجال لجعل المشروع أكثر شمولية، وقضت ثماني سنوات تقريبًا في إدخال التغييرات الضرورية من أجل نجاح النموذج، لكن في النهاية حققت نجاحًا باهرًا؛ فعلى مدار خمسة عشر عامًا، وزَّعت مؤسسة كشف ما يزيد على ٢٢٥ مليون دولار من خلال أكثر من ١٫٢ مليون قرض، وتستمر في توفير التدريب والمعرفة المالية والعمل للسيدات الباكستانيات الفقيرات.
كانت روشانا كقائدة مستعدة لإجراء تغييرات بناءً على ما يحتاجه المجتمع. فهمت كنه السياق الذي تعمل فيه، وكيفت من طرائقها، وعدَّلت من أولوياتها من أجل أن تكون أكثر فاعلية. سمحت مرونتها بخلق نموذج جديد وناجح من الائتمان المتناهي الصغر. والآن بإمكان روشانا أن تدافع بثقة عن السيدات اللاتي تقدِّم لهن الخدمات. إن قوتها الدافعة تتمثل في «مساعدة النساء على تغيير أنفسهن وتغيير المجتمع من حولهن». هي تدرك ما ينجح ويؤتي ثماره، وتحمل معها قصص السيدات تجوب بها أنحاء العالم.
كاه والا
أومن بقدرة الناس الفطرية على النجاح. أومن بأننا مَن نُحدد معالم هذا النجاح الذي يكمن داخل كل واحد منا. إن دور القائد أو المنسق أو السياسي يتمثل في مساعدة الناس على تحديد معالم النجاح لأنفسهم، والتعرُّف على الطرق التي يمكنهم تحقيق النجاح من خلالها، وما يحتاجونه من أجل النجاح، وفي مصاحبتهم طوال الطريق المفضي إلى هذا النجاح.
في مدينة دوالا بالكاميرون، تمتلك كاه والا وتدير مكتبًا للاستشارات الإدارية يدعى «ستراتيجيز». العمل من بين أهداف كاه في الحياة؛ فقد أرادت خلق نموذج نجاح أفريقيًّا تقوده المرأة بإمكانه المنافسة في أي مكان. فمع وجود عملاء لها من خمس قارات مدرجين على قائمة فورتشن ٥٠٠، حققت هذا الهدف بالضبط.
وإذ ترعرعت كاه في أسرة ضمت نساء قويات، شعرت أنه ينبغي لها فهم الناس كي تحارب من أجلهم. بعد إتمامها دراستها في الولايات المتحدة، عادت إلى الوطن كي تساعد في جعل بلدها مكانًا أفضل. أرادت أن تعمل بالنيابة عمن لم يمتلكن صوتًا؛ من لم يبلغن المزايا التي تمتعت هي بها.
ولما كانت ناشطة تدافع عن الحقوق طوال حياتها، قررت كاه في النهاية الترشح للمجلس المحلي في مدينة دوالا. تقول كاه: «انتقلت من النشاط الحقوقي إلى السياسة لأني أدركت أنه مهما فعلت كناشط، فلا مفر من أن تواجه النظام … صعُب عليَّ تخيل نفسي في الساحة السياسية، لكن في الوقت نفسه شعرت بضيق شديد في كل عملية انتخابية. كنت أقول لنفسي: كاه! لا يمكنك الاستمرار في الشكوى من هذا والتذمر من مدى شناعة الأمر دون أن تتحركي!»
على المستوى المحلي، أعطت السياسة كاه فرصة كي تنشئ علاقات مباشرة مع الناخبين. أنصتت إلى أفراد المجتمع كل يوم واستغلت موقعها لتمكنهم كأعضاء بالمجتمع المدني. تعاونت كاه مع مختلف الأحزاب لتمكين المرأة من تقلد أدوار قيادية، وشجعت النساء في مجتمعها على القيام بالمثل.
التقيتُ بكاه أول مرة في فبراير ٢٠٠٨ في برنامج تدريبي نظمته أصوات حيوية للمحاميات ورائدات الأعمال الأفريقيات. خلال البرنامج، وضعت المشاركات مشروعات حقوقية مصممة من أجل إزالة الحواجز القانونية التي تعترض سبيل تقدم السيدات الاقتصادي في أوطانهن. واجهت النساء في جميع بقاع القارة الأفريقية عراقيل اقتصادية مشتركة مثل فقدان حقوق الملكية، وعدم إمكانية الحصول على رأس المال. وصور عدم تكافؤ الفرص بين الرجل والمرأة هذه جعلت المنافسة العادلة غير ممكنة أمام السيدات الأفريقيات في مجال الأعمال. إن شخصية كاه الكاريزمية وصدقها وشغفها بمساعدة الآخرين على ابتكار الأفكار الجريئة وتنفيذها هي سمات تنتقل من شخص لآخر. وبوصفها قائدة بالفطرة، عملت إلى جانب غيرها من السيدات في أنحاء أفريقيا من أجل تحديد الحواجز في مجتمعاتهن، وخلق خطط ملموسة من أجل تحرك إيجابي.
وبصفتها عضوة بالمجلس المحلي، لاحظت كاه أن التسعمائة سيدة العاملات في مارشيه سانداجا؛ أحد أكبر الأسواق في وسط أفريقيا، لم يكن لهن رأي في كيفية إدارة السوق؛ فقد شغل التجار من الرجال، الذين شكلوا نسبة صغيرة من السوق، تسعة وثلاثين منصبًا من الواحد والأربعين منصبًا بالاتحاد المنظِّم لعمل السوق. وبدعم من منظمة أصوات حيوية ومؤسسة بيل آند مليندا جيتس وبمنحة صغيرة منهما، نظمت كاه تدريبًا حقوقيًّا لسيدات السوق؛ حيث أطلعتهن على حقوقهن، وساعدتهن على تأسيس اتحادهن للمطالبة بظروف عمل أفضل. ونتيجة لذلك، حاربت النساء بنجاح الازدواج الضريبي، وتمكَّنَّ من تحسين ظروف العمل في السوق كله. أعطت كاه هؤلاء السيدات منبرًا كي يُسمع صوتهم، وشجعتهم على التحدُّث بحرية بالأصالة عن أنفسهن.
تقول كاه: «بوصفنا سيدات — وبوصفنا كما أظن سيدات أفريقيات — نميل إلى اللجوء لخيار الاستجداء، كقول: «من فضلك، إني أواجه موقفًا عصيبًا، هلا ساعدتني على الخروج منه، من فضلك قم بشيء حيال هذا الموقف. إنه لموقف بغيض».» وتوضح كاه: «لكن ما تعلمته هو أنه ينبغي لنا تغيير هذه العادة تمامًا؛ فنحن جزء جوهري من اقتصاد وطننا. وإذا كان هذا الاقتصاد بصدد النمو — إن كان هذا البلد يصبو إلى النمو — فستكون فكرة جيدة أن نجلس إلى طاولة ونبدأ الحديث بعضنا إلى بعض، ونستكشف معًا أفضل السبل لكلا الجانبين. وبهذا يمكننا تمرير تشريعات ملائمة لنا كسيدات، وفي الوقت نفسه نافعة جدًّا للوطن.»
سرعان ما أدركت كاه أنه عندما تلقت رائدات الأعمال تدريبًا على إدارة الأعمال الأساسية، زادت أرباحهن؛ فالاستثمار في النساء كان له تأثير فوري وملموس، لكنها اكتشفت أيضًا أن النظام أوجد عراقيل تمنع الاستفادة من الفرص التي سعت إلى خلقها؛ فعلى سبيل المثال، لو تمكنت رائدات الأعمال من الحصول على مزيد من رءوس الأموال، يمكن لشركاتهن أن تُحدث تقدمًا هائلًا، لكن بوصفهن سيدات، فقد عانين كي يحصلن على قروض.
أخبرتني كاه: «أدركتُ أنه عليكِ تغيير النظام برمته. عليكِ ترتيب الأمر بحيث يُتاح المزيد من الموارد على مستوى القاعدة. عندما يتخذ الناس القرارات على المستوى الذي يؤثر على حياتهم، سيحدث حينها تحوُّل أكيد في السلطة.»
في عام ٢٠١١، أعلنت كاه ترشحها لمنصب رئيس الكاميرون. في الخمسين عامًا التي أعقبت استقلال الكاميرون، لم يتولَّ المنصب سوى رئيسين، فواجهت من فورها ترويعًا وتهديدات. وفي مظاهرة نُظمت دعمًا للإصلاح الانتخابي لضمان أن صوت كل مواطن سيُسمَع، أُجبرت كاه على الوقوف بجزيرة وسط الطريق وتحمُّل القوة الكاملة لمدفع المياه الذي وجَّهتْه الشرطة إليها.
ثم في ٢٠ مايو من العام نفسه، وهو العيد الوطني للكاميرون، كانت كاه بفندق مون فيبيه بالعاصمة ياوندي عندما اعترض طريقها أربعة رجال قرب المصعد واقتادوها قسرًا إلى سيارتهم. وإذ قدَّموا أنفسهم على أنهم رجال شرطة، فقد صادروا هاتفها المحمول وأمتعتها وفتشوا متعلقاتها. طلبت منهم مرارًا وتكرارًا أن يطلقوا سراحها حتى أنزلوها أخيرًا بعد ساعات أمام منزلها في دوالا وانطلقوا بالسيارة.
رفضت كاه أن يتم ترويعها، فاستمرت في النضال، ولكن مجددًا شابت انتخابات ٢٠١١ خروقات. ورغم خيبة الأمل التي ألمَّت بها، لم يثبط ذلك من عزيمتها. كما أنها جذبت إليها الأنظار؛ فقد اختارتها وسائل الإعلام الكاميرونية لتنال لقب «أفضل سياسية صاعدة» بعد الانتخابات.
تعلم كاه أنه رغم خسارتها فقد خلقتْ أثرًا إيجابيًّا من خلال حملتها، فتقول: «أعتقد أني تمكنت من إقناع أناس معينين، لا سيما النساء والشباب، لكنني أعتقد أن الرجال في المجتمع الكاميروني أيضًا على قناعة بأننا نستطيع النجاح. نحن نمتلك طريقتنا الخاصة في تحقيق النجاح. يمكننا النجاح بمعايير راقية، يمكننا النجاح في القضايا التي تمسنا. يمكننا مواجهة هذه المشكلات.»
ترى كاه أن الحلول لهذه القضايا توجد لدى الأشخاص الذين يشكلون هذا المجتمع. ويعكس نمط قيادتها هذه الرؤية تمامًا. عندما تتحدث كاه عن ركيزة معتقداتها، فإنها تعبر عنها بطريقة غاية في البساطة؛ إذ تقول: «أومن بالناس.»
روزانا شاك
القدرة على خوض طريق المعاناة — الافتقار إلى أساسيات الحياة — وضعتني في حالة تمكنني من التعاطف مع الناس الذين أتعامل معهم … أشعر حقًّا بالتعاطف معهم لما مروا به … استنادًا إلى ما بلغته من تعليم وخبرة، أستطيع الارتقاء … من الممكن أن نتكاتف مع قطاعات مختلفة بحيث تكون لنا الغلبة في معركتنا.
عندما كانت روزانا شاك طفلة، نعِمت بحب أسرتين من خلفيتين مختلفتين اختلافًا شديدًا. وُلدت روزانا في أسرة من شعب الباسا الأصلي تعيش في ليبيريا، وشخَّص الأطباء المحليون حالتها بأنها مصابة بشلل الأطفال وهي في سن الثانية. ولعدم قدرة أسرة روزانا على الوفاء باحتياجاتها الصحية، عرضتها للتبني على أسرة تبشيرية أمريكية تعيش في مونروفيا عاصمة ليبيريا. وعندما تم تبنيها في سن السادسة، بدأت روزانا تستمتع باحتضان أسرتها البيولوجية وحب أسرتها بالتبنِّي. اليوم تشير روزانا إلى تنشئتها باعتبارها إحدى أكثر التجارب البنيوية التي شكلت طموحاتها وقدراتها القيادية؛ فهذه التجربة عززت حبها لبلدها وأكسبتها القدرة على التعامل مع الاختلافات والتنوع، إلا أن أهمية هذه التجربة لم تكن واضحةً دومًا لروزانا. لزم الأمر سلسلة من الأحداث التي وقعت خلال الحروب الأهلية في ليبيريا حتى يخرج تأثير هذه التجربة إلى النور.
في عام ١٩٨٩، اندلع الصراع في ليبيريا، ما أدى لنشوب حربين أهليتين استمرتا أربعة عشر عامًا. وباسترجاع الماضي، تتذكر روزانا مشاعر الصدمة التي انتابتها فتقول: «لم ندرك أن هذا سيحدث … الفظائع التي مررنا بها كانت فوق التصور. كنا نشاهد ما يحدث على شاشة التليفزيون … لكن لم يخطر لنا قط أنه يمكن أن يحدث لنا.» مع تصاعد وتيرة العنف، أُرغم المغتربون على الرحيل من البلاد، وفيهم والدا روزانا بالتبنِّي. وعندما كانت روزانا في أوائل الثلاثينيات من عمرها وأمًّا لثلاثة أطفال، لم تملك خيارًا سوى البقاء. لم تحصل روزانا على الجنسية الأمريكية، فبقيت في مونروفيا مع أطفالها ليقاسوا الصراع الأهلي في ليبيريا.
أثناء تجولهم، محاولين الابتعاد عن مرمى النيران، واجهت الأسرة عنفًا مستمرًّا، وفي بعض الأحيان جوعًا شديد الوطأة. في صيف عام ١٩٩٠، أجبرها القتال الدائر في العاصمة على ترك منزل والديها الأمريكيين والسير ثلاثة عشر ميلًا إلى منزلها الأصلي على أطراف مونروفيا. استغرق السير من روزانا وأسرتها يومين. اضطروا إلى المرور عبر العديد من نقاط التفتيش ومواجهة عقبات عدة. تتذكر روزانا ما مرت به أثناء المسير قائلة: «وجدت نفسي قائدة لهذه المجموعة الصغيرة من النازحين؛ ثلاثة وثلاثين شخصًا! لم أودَّ أن يرى أطفالي الخوف في عيني. كان عليَّ التحلِّي بالقوة من أجلهم، ومن أجل بقية المجموعة التي كنت أقودها.» تتذكر روزانا هذه اللحظة الفاصلة قائلة: «كان لدي إحساس قوي بالواجب. لم يكن الاستسلام مطروحًا أمامي. لست بالشخص الذي يستسلم بسهولة.»
في عام ١٩٩٤، استعانت الدكتورة شانا سويس بروزانا وخمس من قريناتها لتصميم استطلاع رأي، وإجراء أبحاث ميدانية، وإدارة نقاشات لمعرفة التحديات التي فرضتها الحرب على النساء والفتيات الليبيريات. كانت هذه التجربة بمثابة بداية جهود روزانا المتعلقة بقضية العنف ضد المرأة، وكشفت لها التحديات الفريدة التي تواجهها المجندات، الأمر الذي أصبح جزءًا لا يتجزأ من عملها اليوم. وبفضل تدريبها على التمريض وقدرتها على الوصول إلى موارد ومعرفة مستقاة من المصدر عن وعثاء الحرب، أدركت روزانا أنها تملك منبرًا قويًّا للمساعدة في عملية المعافاة التي يمر بها بلدها.
عندما وضعت الحرب الأهلية الثانية أوزارها عام ٢٠٠٣، أسست روزانا منظمة غير هادفة للربح تحت اسم «بشر في حاجة إلى العطف» (منظمة ثينك)؛ للإسهام في عملية بناء السلام. تطمح المنظمة إلى أمَّة تضم مجتمعات قد حدث بها تحولٌ؛ لينال المهمشون والفقراء، لا سيما النساء والأطفال، الحماية والصحة والتعليم والاكتفاء الذاتي. منذ عام ٢٠٠٣، عملت روزانا وفريقها بالمنظمة دون كلل أو ملل لتمكين النساء والأطفال في ليبيريا. عندما قرر المجتمع الدولي التعامل مع تبعات الحرب والآثار العميقة المتخلفة، كان هناك تشديد عظيم على البرامج المخصصة للمجندين. وتجاهل المجتمع الدولي قضية المجندات اللاتي أصبحن عرضة للمخاطر، واحتجن إلى خدمات إعادة تأهيل بالغة الدقة والتخصص. ولإدراك روزانا للصدمة العاطفية الشديدة التي تعرَّض لها هؤلاء الشابات، صمَّمت هي وفريقها برنامج تمكين مبتكرًا دام تسعة أشهر للمساعدة على إعادة إدماج الفتيات اللاتي حاربن وكنَّ بمثابة رقيق جنسي للقادة العسكريين. وتعتقد روزانا أنه كما يستغرق خلق الحياة تسعة أشهر، فإن بدء المعافاة وإعادة بناء الحياة تستغرقان المدة ذاتها.
عندما وضعت روزانا استراتيجية منظمتها، شرعت تبني جسورًا بين العملاء وفريق عملها، وأدركت أن لكل فرد منظورًا متفردًا وتأثرًا مختلفًا بالصراع. عندما وضعت الحرب أوزارها، كان الليبيريون غاضبين من المقاتلين السابقين الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية. ورغم أن الجنديات السابقات اللاتي عملت روزانا معهن كنَّ أنفسهن بمثابة ضحايا، كانت وصمة رهيبة تلاحقهن. أثناء تشكيل روزانا لفريقها في منظمة ثينك، عززت روح التسامح وذكَّرت المستشارين والممارسين أنهم يجب أن يفصلوا بين الصدمة التي عانوا منها وعملهم، وأن يمتنعوا عن الحكم على عملائهم. برزت الثقة والأمان والشفافية والمساءلة كقيم أساسية تقوم عليها المنظمة.
تعزو روزانا قاسمًا كبيرًا من نجاحها المهني إلى خبرتها في العيش كلاجئة ونازحة داخليًّا إبان حربَي ليبيريا الأهليتين، وتعتقد أنها قادرة على التعاطف مع المجتمع الذي تخدمه كمواطنة ليبيرية عايشت بنفسها الدمار الذي خلفته الحرب. تدرك روزانا أن تعليمها الرفيع إلى جانب تنشئتها المميزة أتاحا لها ضمان نجاح واستدامة منظمتها. وإذ تمتعت بقدرة فريدة على تفهُّم التنوع وقبوله، تضفي روزانا روح التواصل والتعاون على عملها مع منظمة ثينك. وفي الواقع، انضمت روزانا إلى الشراكة العالمية بين أصوات حيوية وإيفون لإنهاء العنف ضد المرأة في عام ٢٠١٠؛ من أجل التواصل والتعاون مع قادة حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وحول العالم. وعلى هذا المنهاج، تعمل روزانا وفريقها بمنظمة ثينك لتبادل التحديات وأفضل الممارسات مع الممارسين في أرجاء أفريقيا؛ من أجل التحسين الفعال لخدماتهم على أرض الوطن.
لقد ساعدت الخبرة التي اكتسبتها روزانا بمعايشتها الحرب الأهلية على تشكيل رؤيتها والتصرف باستراتيجية محسوبة، مع وضوح وقوة الهدف. ساعدها تعليمها وتفهمها وتعاطفها مع المجتمع الذي تخدمه على المضي برسالتها قُدُمًا. والأجدر بالملاحظة أن احتكاك روزانا بمختلف المجتمعات ساعدها على توسيع مدارك تفكيرها، فاستخدمت منبرها كمهنية متعلمة لإقامة منظمة مزدهرة تمكِّن الضعاف والمعوزين. وإلى جانب حساسيتها وبصيرتها، مكَّنتها معرفتها المحلية من النجاح في جهودها الرامية لإعادة بناء بلدها من خلال الاستثمار في النساء والفتيات.
أديميمالاجا تافوناي
نحاول إيجاد فرص بحيث تتمكن المرأة وأسرتها من كسب دخل يُمكِّنهم من سد احتياجاتهم المعيشية اليومية.
كرَّست آدي حياتها لخدمة الغير؛ إذ عملت على تمكين المرأة والمجتمعات الريفية الفقيرة. بدأت حياتها المهنية في عام ١٩٩١، عندما شاركت في إقامة «منظمة المشتغلات بتنمية الأعمال». أنشأت آدي في الأساس هذه المنظمة غير الربحية لجميع المشتغلات بالأعمال اللاتي يسعين إلى النهوض بالوضع الاقتصادي للمرأة في ساموا، إلا أنه بعد تأسيس المنظمة بفترة قصيرة، حلَّت بالبلاد كارثة طبيعية، فضربتها الأعاصير واحدًا تلو الآخر، وأهلكت آفة فطرية محصول القُلقاس؛ وهو الغذاء الرئيسي في ساموا ومنتج التصدير الأساسي. وفي استجابة منها إلى الظروف المتغيرة على الأرض، أدركت آدي وشركاؤها وجود حاجة ماسة لدى من يعيشون في القرى الريفية، وحوَّلوا تركيز المؤسسة لتلبية تلك الحاجة. وبالتفكير مليًّا في تلك الفترة، تقول آدي: «كان القاطنون بساموا الريفية يقاسون معاناة أشد من معاناتنا؛ ولذا قررنا العمل هناك معهم.»
عندما أَثقل كاهل الكثير من القرويين الشباب الذين يقطنون ساموا غياب الفرص الاقتصادية في مجتمعاتهم، انتقلوا إلى المراكز الحضرية أو هاجروا إلى أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة بحثًا عن سبل العيش. ولما وجد هؤلاء الشباب وظائف بعيدًا عن الوطن، أرسلوا مالًا إلى أُسرهم؛ ما خلق فعليًّا اقتصادات نقدية في القرى الريفية. ومع تدفق التحويلات النقدية إلى تلك المجتمعات، انصرف أهل القرى الريفية عن كسب دخلهم محليًّا، وانعزل العمال الشباب عن عشائرهم. كان لهذا أثر بالغ على اقتصاد ساموا وثقافتها. أدركت آدي أن هذا التحدي الفريد يتطلب حلولًا جديدة ومبتكرة، فتقول: «لن تجد أشخاصًا يموتون جوعًا في منطقة المحيط الهادئ … عليك أن تنظر إلى الفقر بمنظور مختلف. يوجد بالتأكيد فقر في الفرص. الناس في حاجة إلى المال، لكن لا تُتاح لهم الفرص لجني هذا المال حيث يعيشون، وأعتقد أن هذا أمر بالغ الأهمية.»
للتخفيف من نقص الفرص الاقتصادية في ساموا ومنطقة المحيط الهادئ، أوصى المجتمع الدولي بتطبيق برامج التمويل المتناهي الصغر. وبمحاكاة النماذج الناجحة من جنوب شرق آسيا، أدخل برنامج الأمم المتحدة التنموي التمويل المتناهي الصغر في ساموا في تسعينيات القرن العشرين، إلا أن منطقة المحيط الهادئ مختلفة تمام الاختلاف عن جنوب شرق آسيا، ونموذج التمويل متناهي الصغر الذي ساعد الملايين على الازدهار في ذاك الجزء من العالم كان أقل نجاحًا في ساموا. أُعطيت السيدات قروضًا لإقامة مشاريع دون إدراك لعدم وجود أسواق لمنتجاتهن؛ ولذا شرعت آدي في إيجاد استراتيجية جديدة من شأنها أن تنجح لتناسُبها مع طبيعة وواقع المنطقة. بحثت عن سُبل للحفاظ على شمل الأسر، وتقليل الاعتماد على التحويلات النقدية، وإطلاق المشاريع المحلية. وللقيام بذلك، اتجهت آدي إلى أحد موارد ساموا الطبيعية — زيت جوز الهند البكر — الذي يحمل قيمة بالسوق الدولية؛ نظرًا لاستخداماته في مجالي الصحة والجمال. في عام ١٩٩٥، دشنت آدي ومنظمة المشتغلات بتنمية الأعمال مبادرة لتوظيف سكان ساموا الريفيين في إنتاج زيت جوز الهند البكر؛ بإقامة مَعاصر الزيت بالقرى الريفية، وتدريب الأسر على إنتاج زيت جوز الهند. كما اتصلت بشركات المنتجات الصحية والتجميلية الدولية لخلق سوق لهذا المنتج. وحدثت قفزة كبرى عندما تفاوضت آدي على شراكة مع شركة ذا بودي شوب؛ ما فتح بنجاح سوقًا استوعب مئات الأسر من ساموا في إنتاج زيت جوز الهند.
إدراكًا منها لأهمية المعرفة المحلية، طبقت منظمة المشتغلات بتنمية الأعمال نموذجًا لبرنامج شجَّع على التواصل الأسبوعي المباشر بين فريقها ومنتجي زيت جوز الهند. واستجابة منها للتشديد الاجتماعي على ثقافة ساموا الأسرية، كيفت المنظمة برامجها بطريقة تُلائم الأُسرة في مقابل المجتمعات القروية ككلٍّ أو الأفراد وحدهم. وبمرور الوقت اعتبرت آدي وشريكاتها هذا النهج مفتاح نجاح المؤسسة، فتقول: «اكتشفنا أنه عندما تكسب أسرة من الأسر دخلها بنفسها، فإنهم عادة ما يتمتعون بقدر أكبر من المسئولية تجاه المشروع، ويلتزمون به لمدة أطول، ويعيدون إليه مقدارًا أكبر من المال.» إضافة إلى ذلك، لاحظت آدي وشريكاتها التأثير غير المباشر لعملهن؛ فمع بدء عملائهم من الأسر في كسب دخلٍ، استفاد المجتمع من هذه الدخول عبر الكنائس والمدارس. ومع تنامي الطلب على زيت جوز الهند، تمكنت منظمة المشتغلات بتنمية الأعمال من تصدير برنامجها ومشاركة السوق مع مجتمعات أخرى في جميع أنحاء منطقة المحيط الهادئ.
التقيتُ آدي للمرة الأولى في جمهورية فانواتو، عندما شاركَتْ في برنامج قائدات المحيط الهادئ الصاعدات؛ وهو مشروع مشترك بين برامج نيوزيلندا وأستراليا للمساعدات، والبنك الدولي، ووزارة الخارجية الأمريكية، ومصرف التنمية الآسيوي، ومنظمة أصوات حيوية؛ من أجل تعزيز الفرص القيادية والاقتصادية لدى النساء في اثنتي عشرة دولة جزرية بمنطقة المحيط الهادئ. ورغم أسلوب قيادتها المتواضع، تتحدث النساء من مختلف بقاع المنطقة عنها كأنها أحد المشاهير. واعتبارًا من يناير ٢٠١٢، مكنت آدي أكثر من ١٥٠٠ أسرة من الحصول على فرص اقتصادية لإعالة أنفسهم؛ ما عزز بفعالية اقتصاد ساموا، ووفَّر لشبابها بديلًا عن الهجرة. بانتهاج أديميمالاجا تافوناي القيادة التشاركية، مرتكزةً على المعرفة المحلية وعشق الوطن، تساعد في إحداث تحوُّل في حياة الأفراد، وخلْق مستقبل مختلف لساموا ومنطقة المحيط الهادئ الأوسع نطاقًا.