في وادي القمران
يُقال في بعض التعبيرات المجازية أنَّ حادثًا من الحوادث وقع في طالع هذا البرج، أو ذاك من بروج الفلك المشهورة، فإذا جاز لنا أنْ نستعير هذا التعبير، قلنا: إنَّ السنوات القليلة قبل منتصف القرن العشرين كانت فترة يظللها في أفق الثقافة الروحية برج البحوث والدراسات عن تاريخ السيد المسيح، فإنَّ اللفائف المطوية التي كشفت منذ أوائل سنة ١٩٤٧م، وما أعقبها من الشروح والمناقشات والردود، تتألف منها مكتبة عامرة بالموسوعات الدينية والتاريخية، وأمامي الساعة ثبت موجز مضموم إلى ذيل كتاب من هذه الكتب يستغرق خمس عشرة صفحة كبيرة، ليس فيه من شيء غير أسماء الكتب والرسائل التي ظهرت في موضوع تلك اللفائف المكشوفة منذ سنة ١٩٤٧م، وهذا عدا الكتب والرسائل التي ألفها الباحثون عن السيد المسيح بمعزل عن هذا الموضوع، ممن لم يقصدوا إلى التعقيب على تلك الكشوف، ولم يربطوا بينها وبين ما بحثوه من سيرة السيد المسيح.
واتفق أنَّ اللفائف كشفت، حيث لا تسمح الأحوال باستمرار البحث فيها والتنقيب عن بقاياها، في مطلع سنة ١٩٤٧م؛ لأنَّها كشفت بوادي القمران من شرق الأردن، وتفاقمت يومئذٍ مشكلة فلسطين، فحالت دون البحث الهادئ، والتنقيب المأمون في ذلك الجوار، ولم يتصل خبر تلك الكشوف الهامة بشيء من التفصيل أو البيان المفهوم، إلا بعد استئناف البحث فيها، والاشتغال بدراستها حوالي السنة التي ألفت فيها كتابي هذا، وهي سنة ١٩٥٢م.
فلما علمت بنبأ هذه اللفائف في وادي القمران، توقفت عن إعادة طبع الكتاب قبل أن تتهيأ لي فرصة كافية للاطلاع على مضامين اللفائف والاستفادة مما عسى أن تسفر عنه من دفائن التاريخ المجهول. وفيها، كما قيل يومئذٍ، كتاب كامل من العهد القديم، وتعليقات على كتب أخرى، ودفتر وافٍ بالوصايا والأوامر عن آداب السلوك، بين زمرة دينية تُشبه الزمرة المسيحية الأولى في الشعائر والعبادات.
ولم يكن هذا التوقف عن البت في الموضوع المرتهن بنتيجة الاطلاع على لفائف وادي القمران؛ ليثنيني لزامًا عن متابعة البحث في أسرار النبوة كما بدأت على عهد الخليل إبراهيم وعهد موسى الكليم، فإنَّ البحث في هذه الأسرار على عهد الخليل، يبتدئ بنا من البداءة الأولى، ويقترب بنا من مطالعها أو ينابيعها التي تقدمت قبل جميع الينابيع، ودراسة النبوة على عهد موسى الكليم تفتتح عهودًا من النبوءات بلغ فيها عدد الأنبياء المتلاحقين العشرات بل المئات، ولكنَّ تاريخ موسى الكليم أيضًا قد يتصل من كثب بتاريخ اللفائف بوادي القمران، إذا كان منها، كما قيل، لفائف تتضمن كُتبًا من التوراة، وقطعًا من الكتب الخمسة المشهورة باسم الكتب الموسوية، وكان العثور على نسخ من هذه الكتب عند استئناف الكشف عنها أملًا يُساور العلماء الحفريين واللاهوتيين، ففضلت من أجل هذا أن أُرجئ الكتابة عن موسى — عليه السلام — مبتدئًا بالكتابة عن الخليل إبراهيم، وسميت كتابي عنه «بأبي الأنبياء»، وانتهيت فعلًا من البحث في تفاصيله إلى تقرير العلاقة الحاسمة بين مدن القوافل، والبيئة الصالحة لتلقِّي الرسالة النبوية، إذ كانت للخليل علاقات متتابعة بكل مدينة من مدن القوافل الكبرى في زمانه، وكان انتقاله من «أور» إلى جوار بعلبك وبيت المقدس، ومدن الطريق بين سيناء والحجاز، سلسلة من الشواهد البارزة، تلفت النظر إلى هذه الحقيقة، وتجلوها على صورها المتقاربة أتم جلاء.
أما الموضوع الذي توقفت عن المضي فيه ريثما تستقصيني موارده الجديدة، فقد كان يتوقف حوالي سنة ١٩٥٣م على مصادر ثلاثة: أهمها لفائف وادي القمران، ومنها تراجم العهدين القديم والجديد المنقحة في اللغات الغربية، ومنها سيل لم يكن ينقطع في تلك السنة من مؤلفات المفكرين الدينيين وغير الدينيين عن السيد المسيح من وجهة النظر العصرية بعد الحرب العالمية الثانية.
وقد كنَّا نقرأ في الصحف والنشرات أنَّ لفائف وادي القمران تشتمل على نسخة كاملة من كتاب أشعيا، ونسخة مقروءة سليمة بعض السلامة من تفسير نبوءات حبقوق التي حققتها الحوادث التالية، وشذرات من تفسير كتاب ميخا، وقصى تُسمَّى قصة الحرب بين أبناء النور وأبناء الظلام، وأناشيد منظومة للدعاء والصلاة، ونُسخة آرامية من كتاب غير معتمد بين كتب التوراة، وقُصاصات متفرقة من كتب شتى تلحق بكتب العهد القديم، ونسخة مفصلة لآداب السلوك المرعية بين جماعة النساك الذين أقاموا زمنًا بصومعة وادي القمران، وكلها مودعة في جرار كبيرة يوجد الكثير منها في بعض الكهوف المجاورة، ويبدو من أجل ذلك أنَّها قد تشتمل على ودائع من هذا القبيل، لا تُقدَّر عند العلماء الحفريين وعلماء المقابلة بين الأديان وجمهرة اللاهوتيين على الإجمال.
ولو أنَّ أحدًا أراد أنْ يُحيط بأطراف الكتب والرسائل التي تناولت مسائل البحث في تلك اللفائف خلال هذه السنوات الخمس، لما استوعبها جميعًا، ولو فرغ لها كل وقته، وحسب القارئ العربي أنْ يعلم أنَّها بُحثت من كل ناحية تشترك في موضوعاتها الدينية أو اللغوية أو التاريخية أو الحفرية أو الكيماوية أو الصناعية، ولم تخلُ منها لغة من لغات الحضارة الغربية، فقد تناولت البحوث مسائل الهجاء وقواعد الكتابة، واختلاط اللهجات واللغات، ومواد الورق والجلد والمداد واللصق والتجفيف، كما تناولت أسماء الأعلام، وما إليها من الألقاب والصفات، وما يقترن بها من تواريخ الشعوب والقبائل، ومواقع الأرض، وعوارض الجو والفلك، وأصول العقائد وشعائر العبادات في كل فترة على حسب حظها من الأصالة أو الاستعارة، وعلى حسب المصطلحات التي تلازمها ولا تعهد في غيرها، واتسع نطاق البحث إلى غاية حدوده لتحقيق نماذج البناء، وصناعة الآنية الفخارية، وعادات الأكل والشراب، وأزياء الكساء، ومواد الأطعمة، وثمرات النبات، وتراوحت تقديرات الزمن بين القرن الخامس قبل الميلاد والقرن الأول بعد الميلاد، ولم تستقر بعد كل هذا التوسع وكل هذا الإمعان والتدقيق على قرار وثيق.
ومن البديهي أننا لم نستوعب هذا الطوفان الزاخر من الفروض والنقائض، وعلى كل ما في هذه البحوث من مواضع المراجعة والعدول، ومواضع التشكيك والترجيح، بل نحن لم نشعر بضرورة الاستيعاب والاستقصاء كي نخلص منه إلى القول الجديد في تاريخ السيد المسيح، ولكننا عمدنا إلى نخبة من كتب الثقات التي ألمت برءوس المسائل، ولخصت محور الخلاف ومبلغه من الدلالة في كل مسألة منها، وخرجنا منها بالخلاصة المطلوبة فيما يعنينا، فكانت هذه الخلاصة أنَّ الجديد في الأمر لا يزال من عمل السيد المسيح، أو من فتوحه المبتكرة في عالم الروح، وأنَّ كلَّ مشابهة بينه — عليه السلام — وبين مذاهب الدين قبل عصره، تنتهي عند الظواهر والأشكال، ولا تدل على فضل أسبق من فضله فيما ارتقت إليه عقائد الدين على يديه.
فإذا صح أنَّ زُمرة وادي القمران كانت تنتمي إلى الآسين، وصح أكثر من ذلك أنَّ صومعتهم كانت هي البرية التي كان يلوذ بها السيد المسيح ويوحنا المعمدان؛ فالجديد في هذا الكشف هو توكيد الحاجة إلى رسالة السيد المسيح، أو توكيد فضل الدعوة المسيحية في إصلاح عقائد القوم كما وجدتها على أرقاها وأنقاها بين أتباع النِّحل اليهودية قُبيل عصر الميلاد.
فالكتب الآسينية — أو الآسية — التي وجدت في الصومعة تصف لنا نظم الجماعة وآداب سلوكها، وشدة حرصها على الشعائر الموروثة بين قومها، ولكنَّها لا تزال مُصابة بداء القوم الذي انتهى إلى غاية مداه في تلك الفترة، وهو داء الجمود على النصوص والحروف، والانصراف عن جوهر العقيدة ولباب الإيمان، ولا تزال النِّحلة الآسينية نفسها أدل على الحاجة إلى الإصلاح من النِّحل المتهمة أو المحاطة بالشبهات؛ لأنَّ النِّحلة المتهمة تجد إصلاحها عند الراشدين من أبناء الديانة القائمة، وكل نحلة يهودية زائغة عن سوائها تجد من يقومها من العارفين باستقامتها في نطاق الديانة اليهودية، ولكنَّ الحاجة إلى الإصلاح إنَّما تثبت كل الثبوت إذا بلغت النِّحلة أرقى ما تبلغه، واستنفدت كل طاقتها تهذيبًا وتطهيرًا وإخلاصًا وتذكيرًا، ولم تزل بعد ذلك قاصرة عن تزويد الروح بما تتعطش به وتفتقر إليه، وكذلك كانت النِّحلة الآسينية التي كشفت عنها لفائف وادي القمران، أيًّا كان اسمها، وأية كانت وجهتها، فإنَّها لم تمهد لرسالة السيد المسيح إلا كما يُمهد المريض للعلاج أو يُمهد الداء للدواء، ولا شك أنَّ اللفائف المكشوفة ذخيرة نافعة في بابها، ولكنَّها لا تضيف إلى معلوماتنا عن حقائق الرسالة المسيحية، ولا تُخرجنا بشيء جديد في أمر هذه الرسالة، غير أنَّها تُؤكِّد لنا فضلها ولزومها في أوانها، فمهما يكن من غرض النِّحلة الآسينية، فهي في أصولها وفروعها بقية محافظة على تراثها متشددة في محافظتها، ناظرة إلى أمسها حتى في التطلع إلى الغد المرجو انتظارًا للمخلص الموعود على حسب النبوءات الغابرة، ولهذه الآفة الوبيلة — آفة التشدد في عبادة المراسم والنصوص — كانت الدعوة المسيحية رسالة لازمة تعلم الناس ما هم في حاجة إلى أنْ يتعلموه، كلما غرقوا في لجة راكدة من الحروف الميتة والأشكال المتحجرة، تعلمهم أنَّ العقيدة مسألة فكرة وضمير، لا مسألة حروف وأشكال. وهذه هي رسالة السيد المسيح في ذلك العصر الموبوء بجموده وريائه على السواء؛ لأنَّ الرياء إنَّما هو في باطنه جمود على وجهه طلاء.