أرض الجليل
وُلد السيد المسيح بأرض الجليل، أو جليل الأمم كما كان يُسميها الإسرائيليون؛ لأنَّها كانت إقليمًا مفتوحًا لجميع الأمم الشرقية والغربية، ولم يخلص سكنه للإسرائيليين وحدهم في زمن من الأزمان.
ومعنى الجليل بالعبرية الدائرة: الإحاطة؛ لأنَّها اتَّسعت لكثيرين ممن يُحال بينهم وبين الإقامة في بلاد أخرى من فلسطين، ولا سيما الجنوب.
وكانت الجليل جزءًا من أقاليم الشاطئ الشَّمالية التي عُرفت في التاريخ القديم باسم كنعان، ثُمَّ أطلق عليها اليونان اسم «فينيقية» من اللون الأحمر على ما يظهر، وهو لون الصخور والجبال.
وقد امتازت كنعان قديمًا بالموانئ الصالحة، ووقوعها على طريق التجارة من البحر الأبيض إلى خليج فارس إلى أقصى المشرق، واشتهرت في هذه الموانئ صيدا وصور وحيفا، وكادت تجارة المشرق والمغرب تنحصر في صيدا وصور؛ لأنَّ الشواطئ الجنوبية خَلت في الزمن القديم من الموانئ الصالحة، ولم تكن وراءها مسالك مطروقة للتجارة غير مسالك الصحراء، وهي يومئذ قليلة الأمن كثيرة التكاليف.
ولهذا الموقع الفريد حفلت أرض الجليل من قديم الزَّمن بالسُّياح والمقيمين من جميع أمم الحضارة في المشرق والمغرب، وتوثقت صلاتها بجميع الحضارات الإنسانية، وراجت فيها الصناعات، والمعارف العلمية والنظرية، ولا سيما المعارف التي لها علاقة بالملاحة كفن بناء السفن، ورصد الكواكب، والكتابة، حتى تواتر أنَّ تُجار الفينيقيين وملَّاحيهم هم الذين نشروا الأبجدية في بلاد البحر الأبيض، ومنها انتقلت إلى سائر الأمم الأوربية.
وقد جاء في الإصحاح السابع والعشرين من سفر حزقيال أنَّهم كانوا يتَّجرون بالحنطة والعسل والزيت والبلسان والحلوى، وغيرها من منقولات الأمم الأخرى.
واعتمد اليهود على الكنعانيين في شئون الثقافة والفن، ولم ينته اعتمادهم عليهم عند مطالب التجارة والصناعة، فنقلوا عنهم الكتابة، وأوزان الشعر، وأناشيد الصلوات، وحدث غير مرة أنَّهم تركوا عقائدهم، وتحولوا عنها إلى عقائد الكنعانيين، وإلى ذلك يُشير العهد القديم في سفر القضاة حيث يقول: «وفعل بنو إسرائيل الشر في عيني الرب وعبدوا البعليم، تركوا إله آبائهم الذي أخرجهم من أرض مصر.» وإلى ذلك أيضًا يُشير العهد القديم في سفر الملوك الأول، حيث يقول النبي إيليا: «إنَّ بني إسرائيل قد تركوا عهدك، ونقضوا مذابحك، وقتلوا أنبياءك»، إلى أنْ يقول: «وقد أبقيت في إسرائيل سبعة آلاف، وهم كل الركب التي لم تجثُ للبعل، وكل فم لم يُقبله.»
ولما تكاثر عدد اليهود المُقيمين في الأقاليم الشمالية من فلسطين كالجليل والسامرة، تغيرت عاداتهم ومأثوراتهم، ونظر إليهم أبناء اليهودية نظرتهم إلى الخوارج الذين انقطعوا عن أصولهم، وتابعوا الغرباء على عاداتهم وآدابهم، وكان الواقع أنَّ أهل الجليل خاصة تعودوا الكلام بالآرامية وهي لغة أهل سورية الداخلية، أو باليونانية، وهي لغة القادمين من البحر أو من آسيا الصغرى، واقتبسوا كثيرًا من مأثورات الفرس والهند والعراق؛ لأنَّهم كانوا يلتقون بأبناء هذه البلاد القادمين مع القوافل الشرقية، ويُرجح بعض المؤرخين أنَّ الفينيقيين الأقدمين جميعًا كانوا من قبائل الخليج الفارسي التي جَلَت عنه، وسارت مع طريق القوافل حتى استقرت على شاطئ بحر الروم، وظلت مُحافظة بعد ذلك على علاقتها بالبحار الشرقية.
وبلغ من بغض أهل اليهودية لأبناء مِلَّتهم في الشمال أنَّ «حنا هيركانوس» المكابي أغار على الأقاليم الشمالية، ومنها بلاد في السامرة، وبلاد في الجليل، فأعاد من فيها من اليهود إلى الجنوب، وخَيَّر المُقيمين في الشَّمال بين الهجرة أو قبول الختان وشارات اليهودية؛ ففضلوا البقاء على المهاجرة من بلاد آبائهم وأجدادهم، أو من البلاد التي استوطنوها منذ زمن طويل، ولبث السامريون منفردين بتقاليدهم، ولبث أهل الجليل متهَمين منظورًا إليهم بعين الريبة والاستغراب.
ومما اتفقت عليه أقوال المؤرخين، وتردد كثيرًا في روايات التاريخ أنَّ جمهرة كبيرة من أهل الجليل كانوا عربًا يتكلمون الآرامية، ويلفظون العبرية بلهجة أجنبية يلحظها أهل الجنوب، ويميزون المتكلم بها من كلمات قليلة تبدر منه عرضًا على غير روية، وكذلك عرف الحواريون في الهيكل كما كانوا يعرفون في كل فلسطين.
كانت السماحة الدينية، وقلة التحرج هما سبب هذه النقمة على الجليل وأهله في نفوس أبناء اليهودية، المنكرين لكل سماحة والجامدين على كل حرج، ولكنَّ هذا السبب بعينه هو الذي جعل أرض الجليل أصلح منبت للدعوة الإنسانية التي ترقبها العالم في ذلك العصر، فما كان من اليسير أن تنبثق دعوة الإخاء بين الأمم في كنف الحجر والجمود.
وقد اتفق بعد مولد السيد المسيح ببضع سنوات أنَّ الجليل خرجت من سلطان ملك اليهودية، على أثر وفاة هيرود الكبير، وأنَّها دخلت هي والبادية المجاورة لها في نصيب ابنه هيرود انتيباس، وربما كان — عليه السلام — في العاشرة من عمره حينما هدم الرومان عاصمة الأمير الجديد، وبنيت العاصمة الجديدة طبرية على مقربة من الناصرة حيث نشأ — عليه السلام، ولا شكَّ أنَّه في نحو العاشرة يسمع أخبار هذه الضربة، ويسمع أخبار الثورة التي تقدمتها، وأعقبت بعدها ما أعقبته من جرائرها، وقد كانت مشكلة التعصب، أو مشكلة السماحة الدينية حديث صباه، وأول ما طرق مسمعه من مشكلات السياسة والدولة، ولمَّا سميت العاصمة الجديدة باسم العاهل الروماني طيبريوس سمع — ولا شك — تعقيب الكبار على ذلك الملق الروماني وشهد العبث من ذوي السياسة والإمارة قبل الأوان، وأدرك أنَّ العواصم تُهدم وتُبنى، وأنَّ الدول تدول، وأنَّ الطاغية يتزلف، والمتزلف يطغى، وأنَّ مجد الرياء زيف وخواء، فسبحت نفسه البريئة في آفاق غير هذه الآفاق، وصور لفؤاده الذكي ملكوت السماء في صورة غير الصورة، تُخالفها ولا تزال تختلف عنها كلما تقدمت به الأيام.