متى وُلِد المسيح؟
ولم يكن الرجل صغيرًا في مكانته الدينية، ولكنَّه أطلق لقب الصغير على نفسه من قبيل التواضع والانكسار، وقد حقق بحوثه ومراجعاته ما استطاع في زمانه، فلم يسلم من الخطأ في حساب بضع سنوات، ثم تعذر إصلاح هذا الخطأ عند ثبوته، فتقرر استدراكه بإضافة أربع سنوات إلى التقويم القديم الذي يحسبه أصحابه منذ بدء الخليقة، واعتبروا أنَّ السيد المسيح وُلد في سنة أربعة آلاف وأربع بحساب ذلك التقويم.
أما القول الراجح في تقدير المؤرخين الدينيين وغير الدينيين، فهو أنَّ ميلاد السيد المسيح مُتقدم على السنة الأولى ببضع سنوات، وأنَّه على أصح التقديرات لم يُولد في السنة الأولى للميلاد.
ففي إنجيل مَتَّى أنَّه — عليه والسلام — قد وُلد قبل موت هيرود الكبير، وقد مات هيرود قبل السنة الأولى للميلاد بأربع سنوات.
وقد جاء في إنجيل لوقا أنَّ السيد المسيح قام بالدعوة في السنة الخامسة عشرة من حكم القيصر طيبريوس وهو يومئذ يُناهز الثلاثين، وقد حكم طيبريوس الدولة الرومانية بالاشتراك مع القيصر أوغسطس سنة ٧٦٥ من تأسيس مدينة رومة، ومعنى هذا أنَّ السيد المسيح قد بلغ الثلاثين حوالي سنة ٧٧٩ رومانية، وأنَّه وُلد سنة ٧٤٩ رومانية أي قبل السنة الأولى للميلاد بأربع سنوات.
ويذكر إنجيل لوقا أنَّ القيصر أوغسطس أمر بالاكتتاب — أي الإحصاء — في كل المسكونة، وأنَّ هذا الاكتتاب الأول جرى إذ كان كيرنيوس واليًا على سورية «فذهب الجميع ليكتتبوا كل في مدينته، وصعد يوسف من مدينة الناصرة إلى اليهودية ليكتتب مع مريم امرأته المخطوبة وهي حُبلى، وتمت أيامها هناك فولدت ابنها البكر.»
والمقصود بالاكتتاب هنا — على ما هو ظاهر — أمر بالإحصاء الذي أشار إليه المؤرخ يوسفوس، وأرخه بما يقابل السنتين السادسة والسابعة للميلاد، ولا يمكن أنْ يكون قبل ذلك؛ لأنَّ تاريخ ولاية كيرنيوس معروف وهو السنة السادسة، فيكون السيد المسيح إذن قد وُلد في نحو السنة السابعة للميلاد، وتكون دعوته قد بدأت وهو في الثالثة والعشرين، أو الرابعة والعشرين، وهو تقدير يُخالف جميع التقديرات الأخرى، ويُخالف المعلوم من مأثورات الإسرائيليين، فإنَّ الكاهن اللاوي عندهم كان يُباشر عمله بعد بلوغ الثلاثين، وكان الأحبار المجتهدون عندهم يبلغون الخمسين قبل الجلوس للتفسير والإفتاء في مسائل الفقه الكبرى، ولهذا قالوا عن السيد المسيح إنَّه لم يبلغ الخمسين بعد، وَيَدَّعِي أنَّه يرى إبراهيم ويستمع إليه، ولو أنَّه بَدَأ الدعوة قبل الثلاثين لكان الأحرى أن يُعجبوا لكلامه قبل بلوغه سن الكهنة اللاويين.
ومن القرائن التي لا نريد أن نهملها، قرينة الكوكب الذي قيل إنَّ كُهان المجوس تتبعوه من المشرق ليهتدوا به إلى المكان الذي وُلد فيه السيد المسيح.
فمن المعروف أنَّ خُبراء فينيقية وفارس كانوا يشتغلون بالفلك والتنجيم، وأنَّهم كانوا في عصر الميلاد يرقبون حادثًا جللًا في التاريخ البشري حوالي سنة الميلاد، وكانوا كذلك يرصدون النجوم ليعرفوا من طوالعها بشائر ذلك الحادث الجلل المترقب من حين إلى حين، وكان قران المشتري وزُحل من الطوالع المهمة عند سكان المشرق على البحر، حيث ترصد الكواكب للملاحة والتفاؤل، وفي داخل البلاد الفارسية حيث ترصد الكواكب للعبادة واستيحاء الإرادة الإلهية، ويكفي أنْ نذكر بقايا هذه العادة في البقعة الفينيقية إلى ما بعد أيام المعري؛ لنعلم شأن الأرصاد هنالك، كما كانت في الزمن القديم، وقد كان المعري الضرير يُعنى نفسه بهذه الأرصاد، ويقول عن قران المشتري وزُحل خاصة في لزومياته:
فإذا كان هذا ما تخلف من العناية بالأرصاد في البقعة الفينيقية إلى أيام المعري، فليس من الأمانة للبحث أن نهمل قرائن الأرصاد كلَّ الإهمال لأننا نرفض التنجيم، ونرفض دعوى المجوس فيه.
فمن المعقول أنْ نُنكر على المنجمين علمهم بالغيب من رصد الكواكب، وطوالع الأفلاك، ولكن لا يلزم من ذلك أن ننفي ظهور الكوكب الذي رصدوه، وأن نبطل دلالته مع سائر الدلالات، وبخاصة حين تتفق جميع هذه الدلالات.
ويظهر من هذا الحساب أنَّ تاريخ الميلاد يُضاهي التاريخ الذي يُستخلص من التقديرات الأخرى على وجه التقريب، وأنَّ السيد المسيح وُلد في نحو السنة الخامسة أو السادسة قبل الميلاد.
ونعود فنقول إنَّ إثبات الرصد لا يستلزم الإيمان باطلاع المجوس على الغيب من مراقبة الأفلاك، وكل ما يُفهم، ولا يجوز أنْ يُهمل، أنَّ الذين كتبوا تاريخ السيد المسيح بعد عصره بنحو جيلين كانوا يتناقلون خبر تلك الظاهرة، ويؤمنون بدلالتها على أنَّها حدث عظيم؛ فقرنوا بينها وبين ميلاد المسيح المنظور، ولعلَّ الأناجيل قد دُونت والنَّاس يتحدثون بقران فلكي من قبيل ذلك القران في حكم القيصر هادريان، فقد ظهر يومئذ مسيح كذاب آمن به الرباني عُقبة ليدحض دعوى المسيحيين، وسماه ابن الكوكب «بار كوكبه بالعبرية»، ونقش على العملة التي سكها صورة كوكب، فعادت الذاكرة بكتاب الأناجيل إلى تلك الظاهرة الفلكية النادرة، بعد الدعوة المسيحية بنحو سبعين سنة.
•••
على أنَّ الدراسات الأخيرة في علم المقابلة بين الأديان تسوق المؤرخ الذي يكتب عن تاريخ المسيح حتمًا إلى مبحث عويص أدق جدًّا من المبحث الذي يدور حول السنة الميلادية، فإنَّ القرن الثامن عشر قد أخرج للنَّاس مدرسة الشَّك المُطلق في مقررات العلم القديم ووقائع التاريخ المتواتر، فشك الكتاب في وجود الأنبياء والمرسلين، وكان الشَّك يتناول كل نبي، وكل صاحب دين غير محمد — عليه السلام — شكُّوا في بوذا كما شكُّوا في إبراهيم وموسى وعيسى، وسرى الشك إلى الأدب كما سرى إلى الدين، فشكُّوا في شخصية هوميروس، وفي شخصية شكسبير، وظن بعض المثبتين للشخصيات المتأخرة في التاريخ أنَّها وُجدت فعلًا، ولكنَّها لم تضع ما نسبوه إليها، ولم تكتب ما يُنشر بأسمائها.
وقد زار فولتير — إمام الشاكِّين — بلاد الإنجليز، فوجد هناك مدرسة بولنجبروك تتحدث بغاية السهولة في شبهاتها عن وجود السيد المسيح، وكان نابليون يسأل العالم الألماني ويلاند: هل يعتقد أنَّ المسيح شخص تاريخي وُجد كما وصفوه؟ وجاء القرن التاسع عشر، وقد طغت على ميدان الدراسات الدينية موجات من الكتب التي ألفها الألمان والدنمركيون والفرنسيون والإنجليز يُفندون بها أقوال المؤرخين، ويُرجحون أنَّ السيد المسيح شخصية من شخصيات الخيال، وليس من المستطاع في هذا الحيز أنْ نُورد أقوالهم مُفصَّلة أو مُجملة في هذا الموضوع، فإنَّ أسماء المؤلفين والمؤلفات وعناوين المسائل التي طرقوها وخلاصة البراهين التي شفعوا بها بيان تلك المسائل؛ تستغرق وحدها كتابًا كهذا الكتاب، ولكنَّنا نجترئ بتلخيص الأساسين المهمين اللذين قامت عليهما مدرسة الشك في وجود السيد المسيح، وأحدهما أنَّه — عليه السلام — لم يذكر في التواريخ القديمة التي فصلت أخبار عصره، والآخر أنَّ روايات التلاميذ عنه قد سبقت روايتها عن شخصيات أخرى من شخصيات الزمن القديم، وبعضها أقرب إلى الأساطير والفروض.
نعم وردت في نسخ من تاريخ يوسفوس إشارة مقتضبة إلى «عيسى القديس»، ولكنَّ النُّقاد التاريخيين يجزمون بأنَّها مضافة إليه، ويؤكدون أنَّها أضيفت بقلم أحد القراء المتأخرين الذين عجبوا لخلو التاريخ من الإشارة إلى أعظم الحوادث في ذلك العصر، فأباحوا لأنفسهم أنْ يُضيفوا تلك الإشارة كأنَّها من كلام يوسفوس، على اعتبار أنَّ الحقائق التاريخية أمانة عند من يعلمها، وليست أمانة المؤلف وحده، سواء عرفها أو لم يعرفها، وما كان من المعقول أنَّ المؤرخ اليهودي الذي يُنكر المسيحية يكتب عن رسول هذا الدين فيقول: «إنَّه في ذلك العهد عاش عيسى، ذلك الإنسان القديس — إنْ جاز أن يُسمى إنسانًا — بعد ما أتى به من المعجزات البينات، وعلَّم النَّاس، وتلقى الحق فاستبشر به، واتبعه كثير من اليهود والإغريق، وكان هو المسيح.»
قالوا: إنَّ يوسفوس اليهودي الذي مات على دين لا يكتب هذا، ولا يُؤمن إيمان المسيحيين، ولو أنَّه آمن كما آمنوا لما اكتفى بتسجيل ذلك الحادث العظيم في ثلاثة أسطر، جاءت عرضًا بغير تعقيب أو تفصيل.
فقد ذكر هورن أنَّ هذه العبارة موجودة في جميع النسخ المخطوطة والمطبوعة التي حفظتها مكتبة الفاتيكان من الترجمة العبرية، وأنَّ العبارة نفسها موجودة في النسخة العربية التي تحفظها الطائفة المارونية بلبنان، وأن كُتَّاب القرن الرابع والقرن الخامس من السريان والإغريق والمصريين قد اطلعوا عليها واستشهدوا بها، وأنَّ يوسفوس قد أشار في موضع آخر إلى جيمس بأسقف أورشليم حيث قال: «إنَّ حنانا عقد السنهدرين اليهودي، وأحضر أمامه جيمس أخا عيسى المسمى بالمسيح، ومعه آخرون، ثُمَّ أمر بهم أن يرجموا عقابًا لهم على عصيان الشريعة.»
وألمع هورن إلى الشكوك التي تحيط بتلك العبارة؛ لأنَّها لم تذكر قط في كلام معروف قبل أوسبياس، فقال: إنَّ هذه الشكوك لا تُقيم حجة لأصحابها؛ لأنَّ أقطاب المسيحية كانوا في غنى عن الاستشهاد بأقوال المؤرخين، مع استطاعتهم أن يثبتوا رسالة السيد المسيح في نبوءات كتب التوراة.
وختم هورن ردوده بتوجيه عبارة يوسفوس إلى معنى لا يستلزم أن يكون المؤرخ اليهودي مؤمنًا بالمسيحية أو برسالة المسيح المنتظر، ولعله سماه «المسيح» رواية عن أتباعه الذين كانوا يدعونه مسيحًا، ويعرفونه بشهرته الغالبة.
أما المؤرخ الروماني تاسيتس الذي كتب تاريخه حوالي سنة (١١٥ ميلادية)، فأقدم ما ذكره عن السيد المسيح لا يرجع إلى أقدم من سنة أربع وستين ميلادية، ولم يذكره مباشرة، بل أشار إلى اسمه في سياق الكلام على حريق رومة، حيث قال إنَّ الإمبراطور نيرون أقلقه اتهام النَّاس إياه بإحراق المدينة، فألقى التهمة على طائفة العامة الذين يسمون بالمسيحيين، ويُنسبون إلى المسيح الذي حكم عليه بونتياس بيلاطس بالموت في عهد القيصر طيبريوس.
ولا يُعرف الآن عَلامَ استند تاسيتس في رواية هذه النسبة، ولكنَّها كانت على كل حال رواية شائعة بين أناس كثيرين لم يشهدوا عصر المسيح.
وأيًّا كان مستند هذا المؤرخ فلا يُستفاد من روايته إلا أنَّ العاصمة الرومانية كان فيها أُناس يعرفون باسم المسيحيين عند منتصف القرن الثاني للميلاد، وأنَّه كان يحسب أنَّ الزعيم كرستس كان يُحرض أتباعه بنفسه في ذلك التاريخ.
وقد عاش في عصر السيد المسيح نفسه كُتَّاب ومؤرخون من اليهود، مثل الفيلسوف فيلون، الذي سبق ذكره، والمؤرخ جستس الطبري الذي عاش في الجليل أيام الدعوة المسيحية، وكَتَب تاريخ قومه عن عهد موسى إلى نهاية القرن الأول للميلاد، ولم ترد في تاريخه إشارة مباشرة أو غير مباشرة إلى الدعوة المسيحية.
تلك خُلاصة الحجة التي تقوم على خلو التواريخ من ذكر الدعوة المسيحية في عصرها.
أما الحجة الأخرى، وهي حجة التَّشابه بين القصص المروية عن السيد المسيح، والقصص المروية عن الأرباب في العبادات الشرقية القديمة؛ فهي تعتمد على تفصيلات كثيرة تُحيط بأخبار المعجزات والشعائر في ديانات الأقدمين من المصريين والبابليين والفرس والهنود والكنعانيين، وأكثر النُّقاد المتشبثين بهذه الحجة من علماء المقابلة بين الأديان المطلعين على أديان المشرق في لغاتها، ويغلب عليهم ترجيح القول بأنَّ أخبار المسيح بقية من بقايا الديانات الشمسية يدل عليها عدد «اثني عشر» الذي يُشير إلى البروج، ويُشير إلى عدد التلاميذ، ويدل عليها الاحتفال بالميلاد في يوم الاعتدال الخريفي على حساب الأقدمين، والاحتفال بيوم الأحد الذي اعتقدوا قديمًا أنَّه يوم الشمس، ويُعرف حتى اليوم في اللغات الأوربية بهذه النسبة، وذلك عدا المشابهة في اسم الأم، والولادة في المذود، وركوب «الحمار ابن الأتان»، وغير ذلك من الشعائر والمعجزات.
والغريب في شأن هؤلاء العلماء أنَّهم لم يكلفوا أنفسهم تفسيرًا مقبولًا لوجود المسيحيين بهذه الكثرة بعد جيل واحد من عصر الميلاد، فإنَّ التفسيرات التي فرضوها تتسع لشكوك كثيرة كلها أغرب من القول بشخصية المسيح التاريخية، ولا يكفي أن يُقال إنَّ أخبار المعجزات والشعائر قديمة لتفسير الدعوة المسيحية بغير داع، وبغير محور معلوم تدور عليه، وقد تُوفي بولس الرسول في نحو سنة سبعة وستين ميلادية، وعاش قبل ذلك نحو ثلاثين سنة يُبشِّر باسم المسيح، ولم يكن قد طال العهد بتاريخ الدعوة، ولم يحدث خلال ذلك ما يفسر تكوينها من المعجزات والشعائر التي ظلت قبل ذلك مئات السنين متواترة على الألسنة، وكان تواترها قديمًا أقوى وأشيع من تواترها بعد تقادم العهد وتتابع السنين.
وكل ما يُفهم من سكوت المؤرخين المعاصرين على سبيل الجزم أنَّ المؤرخين لم يُدركوا خطرها، ولم يميزوها من الحركات المتفرقة التي كانت تختلج بها طوائف اليهود على صفة عامة، ويعزز هذا أنَّ الطائفة الجديدة لم تذكر باسم خاص في الأناجيل جميعًا غير ثلاث مرات، فذكر أتباع السيد المسيح باسم المسيحيين في الإصحاح الحادي عشر من أعمال بولس الرسول، حيث قيل إنَّ التلاميذ دعوا «مسيحيين» لأول مرة في مدينة «أنطاكية»، ثُمَّ جاء في الإصحاح السادس والعشرين على لسان الملك أغريباس أنَّه قال محتجًا: «أهون بما تقنعني به أن أصير مسيحيًّا.» وجاء في الإصحاح الرابع من رسالة بطرس: «إنْ عُيرتم باسم المسيح فطُوبى لكم … إنَّ أحدكم لا يتألم لأنه قاتل، أو سارق، أو فاعل شر، أو صاحب فضول، فإنْ تألَّم لأنَّه مسيحي فلا يخجل.»
وجُملة ما يُؤخذ من الكلمة في هذه المواضع الثلاثة أنَّها كانت نسبة ازدراء وتعيير على ألسنة أعداء المسيحيين، وليس من الصعب أنْ يضيع الكلام عن طائفة لا عنوان لها بين ما يكتب عن جماهير ذلك الزمن في غمار التواريخ، وبخاصة إذا كانت لم تبلغ من الخطر ما يدركه مؤرخ الحوادث الكبرى، وكان من همِّ أولئك المؤرخين أن يستصغروا شأنها؛ لأنَّها طائفة مغضوب عليها في مراجع الدين ومراجع الدولة؛ فالهيكل ينكرها، والحكومة الرومانية تترفع عنها، ولم يحدث قبل ذلك أنَّ طائفة من طوائف فلسطين جمعت بين غضب السلطتين، وهي مع ذلك غير معروفة بعنوان تدور عليه الأخبار!
•••
ويبدو لنا أنَّ نَشوة العلم الجديد — علم المقابلة بين الأديان — هي التي دفعت أصحابها في القرن الثامن عشر إلى تحميل المشابهات والمقارنات فوق طاقتها، فإننا نرى أمامنا في هذا العصر أنَّ هذه المشابهات لا تنفي ولا تثبت، بل لعلها إلى الإثبات أقرب منها إلى النفي على الإجمال.
نحن نرى في هذا العصر أنَّ أتباع الطرق الدينية يتنافسون؛ فيَنسب كلٌّ منهم إلى وليه المختار كراماتِ جميع الأولياء الآخرين؛ لأنَّه يؤمن بتلك الكرامات، ولا يشك في وقوعها، ولكنَّه يعتقد أنَّ وليًّا واحدًا هو الجدير بإتيانها، وهو الولي الذي اصطفاه وفضله على غيره من الأولياء.
ونحن نرى في هذا العصر وفي جميع العصور أنَّ المشهور في صفة من الصفات تُضاف إليه نوادر تلك الصفة وعجائبها، ويُصبح علمًا لتلك الصفة في كل ما يُروى عنها وينسب إليه، فالمشهور بالكرم تنسب إليه المكارم جميعًا بغير سند، والمشهور بالشجاعة يذكر بعد ذلك كأنَّه هو صاحب تلك النادرة، أو صاحب نادرة مثلها، إن لم تكن تفوقها وتزيد عليها في بابها.
وينبغي أن نذكر أنَّ المسيحية وجدت قبل أن تقترن بها تلك المراسم والتقاليد، وأنَّ المسيحيين الأوائل أعرضوا عن كثير منها واستنكروه ومنعوه، ومنهم من كان يحرم الاحتفال بمولد للمسيح في يوم كائنًا ما كان، وعلى رأسهم أوريجين الفقيه العظيم، وقد مضت ثلاثة قرون قبل أن تحتفل كنيسة من الكنائس المعتمدة بعيد الميلاد في تاريخ من التواريخ، ثم اختلفت الكنائس فاحتفلت الكنيسة الشرقية بالميلاد في السادس من شهر يناير، واحتفلت به الكنيسة الغربية في الخامس والعشرين من شهر ديسمبر، ويرجح أنَّها اختارت هذا اليوم لتصرف المسيحيين عن حضور المحافل الوثنية التي كانت تتخذه عيدًا للشمس، وتُعلن فيه الأفراح بانتصار النور على الظلام؛ لأنَّ الاعتدال الخريفي هو الموعد الذي يقصر فيه الليل ويطول النهار.
ولا خلاف في تكرار العدد «اثني عشر» في كثير من الديانات، ولكن تكراره هذا لا يستلزم أن يكون كل معدود به خرافة أو أسطورة غير تاريخية، وقد كان خليقًا بأصحاب المقارنات والمقابلات أن يذكروا هذه الحقيقة بصفة خاصة، إذ أقرب المؤرخين إليهم سوتنيوس صاحب تاريخ «القياصرة الاثني عشر»، وكلهم من «الشخصيات التاريخية».
وفي تاريخ الإسلام تفصيل مذهب الشيعة الإمامية، وهم يدينون بالولاء لاثني عشر إمامًا معروفين بأسمائهم، ليس منهم من يمكن أن يقال فيه إنَّه «شخصية غير تاريخية».
وقد تعب أصحاب المقارنات والمقابلات كثيرًا في اصطياد المشابهات من هنا وهناك، ولم يكلفوا أنفسهم جهدًا قط فيما هو أولى بالجهد والاجتهاد، وهو استخدام المقارنات والمقابلات لإثبات سابقة واحدة مطابقة لما يفرضونه عن نشأة المسيحية، فمتى حدث في تاريخ الأديان أنَّ أشتاتًا مبعثرة من الشعائر والمراسم تلفق نفسها، وتخرج في صورة مذهب مستقل دون أن يعرف أحد كيف تلفقت وكيف انفصلت كل منها عن عبادتها الأولى؟ ومن هو صاحب الرغبة أو صاحب المصلحة في هذه الدعوة؟ وأي شاهد على وجوده في تواريخ الدعاة المعاصرين لسنة الميلاد؟ وكيف برز هذا العامل التاريخي الديني الخطير على حين فجأة قبل أن ينقضي جيل واحد؟ ولماذا كان يخفي مصادر الشعائر والمراسم الأولى، ولا يُعلنها إلا منسوبة للسيد المسيح؟
إنَّ استخدام المقارنات والمقابلات في تحقيق هذه المسابقة أولى بمؤرخي الأديان من كل ما جمعوه أو فرقوه؛ لينتهوا به إلى فرض منقطع النظير.
•••
على أنَّ صناعة النقد التاريخي تتهم نفسها بالعجز البالغ، إذا لم تستطع أن تعتمد على الكلام المروي في تقرير «شخصية القائل» وتحقيق مكانه من التاريخ، وبين أيدينا كلام السيد المسيح كما روته الأناجيل ينبئنا في هذه الناحية عن كثير.
فمهما يكن من فصل القول في استقلال كل إنجيل أو اعتماد بعضها على بعض، فهناك علامات واضحة لا يمكن أن يقصدها كُتَّاب الأناجيل؛ لأنَّها علامات نفهمها الآن وفاقًا لما درسناه من تطور الدعوة المسيحية، ولم يكن لها محل في رءوس الرواة المشاهدين أو الناقلين.
فإنَّ روايات الأناجيل تُطابق التطور المعقول من بداية الدعوة إلى نهايتها، ومن التطور المعقول أن تبتدئ الدعوة قومية عنصرية، ثم تنتهي إنسانية عالمية، وأن تبتدئ في تحفظ ومحافظة، ثم تنتهي إلى الشدة والمخالفة، وأن تبتدئ بقليل من الثقة في شخصية الداعي، ثُمَّ تنتهي بالثقة التي لا حد لها في نفوس الأتباع والأشياع، وهكذا كانت الدعوة المسيحية كما روتها الأناجيل دون أن يتعمد كُتَّابها تطبيق أحوال التطور، أو تلتفت أذهانهم إلى معنى تلك الأحوال.
وربما كان أوضح من هذا في الإبانة عن شخصية الداعي أنَّ أقواله تتضمن نقدًا لجميع المذاهب التي كانت شائعة في عصره، وأنَّ هذه الأقوال تُشير إلى وجهة نظر واحدة لم يكن لها وجود في غير تلك الشخصية.
فالأقوال المسيحية تنتقد الفريسيين، ولكنَّها لا تصدر في نقدهم عن وجهة نظر الصدوقيين أو السامريين.
وتنتقد أصحاب النصوص، ولكنَّها لا تصدر في نقدهم عن وجهة نظر الإباحيين والمتحللين.
وتنتقد الآسين المتعصبين، ولكنَّها لا تدين بآراء الفلاسفة أو الأبيقوريين والرواقيين.
وتنتقد السامريين، ولكنَّها لا ترفض السامرية بتاتًا ولا ترفض غيرها من النِّحل كل الرفض من جانب محدود.
وتستشهد بأقوال موسى وإبراهيم والأنبياء، ولكنَّها لا تتقيد بكل قول منها تقيد المحاكاة، ولا تقتدي بها اقتداء التابع للمتبوع.
وإذا جمعنا وجوه النقد جملة واحدة أمكن أن نردها كلها إلى وجهة نظر متناسقة، وقوام شخصي مرسوم، وقد يقع فيها الاستثناء حيث ينبغي أن يقع؛ لأنَّ التناسق الذي يجري مجرى الأعمال الآلية وتيرة واحدة لا يوافق طبيعة الدعوات الحية المتقدمة، ولا سيما الدعوات في عصر الهدم والبناء والمراجعة والتثبيت.
هذه علامات «موضوعية» لها شأنها الأكبر في الإبانة عن شخصية السيد المسيح، وأصدق تلك العلامات، بعد هذا كله أنَّ الدعوة جاءت في إبانها وفاقًا لمطالب زمانها، بحيث تكون الغرابة أن يخلو الزمن من رسول يقول بالدعوة ويصلح لأمانتها، لا أن يوجد الرسول ونستغرب أن يكون، ولو أنَّ مؤلفًا بعد ذلك العصر أراد أن يخلق رسولًا يوافق رسالته المنشودة، لوقف به الخيال دون ذلك التوفيق المطبوع.