صورة وصفية
من أقدم الصور الوصفية التي حُفظت للسيد المسيح، صورة تداولها المسيحيون في القرن الرابع، وزعم رواتها أنَّها كُتبت بقلم ببليوس لنتيولس صديق بيلاطس حاكم الجليل من قبل الدولة الرومانية، رفعها إلى مجلس الشيوخ الروماني في عصر الميلاد، وجاء فيها: «إنَّه في هذا الزمن ظهر رجل له قوى خارقة يُسمَّى يسوع، ويدعوه تلاميذه بابن الله، وكان للرجل سمت نبيل وقوام بين الاعتدال، يفيض وجهه بالحنان والهيبة معًا، فيُحبه من يراه ويخشاه، شعره كلون الخمر منسرح غير مصقول، ولكنَّه في جانب الأذن أجعد لمَّاع، وجبينه صلت ناعم، وليس في وجهه شية، غير أنَّه مشرب بنضرة متوردة، وسيماه كلها صدق ورحمة، وليس في فمه ولا أنفه ما يُعاب، وعيناه زرقاوان تلمعان، مُخيف إذا لام أو أنب، وديع محبب إذا دعا وعلَّم، لم يره أحد يضحك، ورآه الكثيرون يبكي، وهو طويل له يدان جميلتان مستقيمتان، وكلامه متزن رصين لا يميل إلى الإطناب، وملاحته في مرآه تفوق المعهود في أكثر الرجال.»
إلا أنَّ هذه الرواية مشكوك فيها وفي أسنادها التاريخية، ومثلها جميع الروايات التي تداولها النَّاس في ذلك العصر أو بعده، ومنها ما لا يُعقل، ولا يظن به إلا أنَّه مدسوس من أعداء المسيحية في العصور الأولى، كقول بعضهم إنَّه كان قميئًا أحدب دميم الصورة، فإنَّ الشريعة الموسوية كانت تشترط في الكاهن سواء الخلق، وسلامة الجسم من العيوب، ولا ترسم لخدمة الدين من يعيبه نقص أو تشويه، فمن غير المعقول أن يتصدى للرسالة من يُعاب بالحدب والدمامة والقماءة معًا، وأن يخلو الكلام المنسوب إلى خصومه أو أنصاره من الإشارة إلى ذلك في معرض المذمة، أو معرض العجب، ومداراة العيوب الجسدية بالمحاسن الروحية.
نعم إنَّ الأنبياء في بني إسرائيل لم يكن لهم راسم يرشحهم للنبوة بشروط معلومة كشروط الكهانة، ولكن اتصاف النبي بالدمامة والحدب لا يبقى في طي الكتمان مع التحدث عنه وعن المشوهين وأصحاب الآفات الذين يبْرئهم، ويساقون إليه ليشفيهم من الشوهة والآفة.
وليس في الأناجيل إشارة إلى سمات السيد المسيح تصريحًا أو تلميحًا يفهم من بين السطور، ولكن يؤخذ من كلام نثتائيل حين رآه لأول مرة أنَّه رائع المنظر ملكي الشارة، إذ قال له: «أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل.» وأراد المسيح أنْ يُفسِّر ذلك بأنَّه تحية يجيب بها الفتى على تحيته، ولكنَّها على أية حال تحية لا تُقال للأحدب، ولا للدميم المشنوء.
غير أنَّنا نفهم من أثر كلامه أنَّه كان مأنوس الطلعة يتكلم فيوحي الثقة إلى مستمعيه، وذلك الذي قيل عنه غير مرة إنَّهم أخذتهم كلماته لأنَّه «يتكلم بسلطان»، وليس كما يتكلم الكتبة والكهان.
وقد كان ولا ريب فصيح اللسان سريع الخاطر، يجمع إلى قوة العارضة سرعة الاستشهاد بالحجج الكتابية التي يستند إليها في حديث الساعة كلما فُؤجئ باعتراض أو مكابرة، وكانت له قدرة على وزن العبارة المرتجلة؛ لأنَّ وصاياه مصوغة في قوالب من الكلام الذي لا ينظم كنظم الشعر، ولا يُرسل إرسالًا على غير نسق، ويغلب عليه إيقاع الفواصل، وترديد اللوازم، ورعاية الجرس في المقابلة بين الشطور.
وذوق الجمال باد في شعوره كما هو باد في تعبيره وتفكيره، والْتِفاته الدائم إلى الأزهار، والكروم، والجنائن التي يكثر من التشبيه بها في أمثاله، عنوان لما طبع عليه من ذوق الجمال والإعجاب بمحاسن الطبيعة، وكثيرًا ما كان يرتاد المروج والحدائق بتلاميذه، ويتخذ من السفينة على البحيرة — بحيرة طبرية — منبرًا يخطب منه المستمعين على شاطئها المعشوشب، كأنَّما يوقع كلامه على هزات السفينة، وصفقات الموج، وخفقات النسيم، ولم يؤثر عنه أنَّه ألف المدينة والحاضرة كما كان يألف الخلاء الطلق؛ حيث يقضي سويعات الضحى والأصيل أو سهرات الربيع في مناجاة العوالم الأبدية على قمم الجبال، وتحت القبة الزرقاء.
وقد أطبقت روايات الأناجيل على أنَّه كان عظيم الأثر في نفوس النِّساء، يتبعنه حيث سار ويصغين إليه في محبة ووقار، ومن عظماء الرجال من تتعلق بهم نظرات النساء؛ كأنَّهنَّ مأسورات مسحورات، ومنها من تتعلق بهم نظرات النساء؛ لأنَّهم يلعجون أفئدتهن بخوالج اللحم والدم ونزعات الغرائز والأهواء، ولكنَّ الرجل العظيم الذي يجتذب إليه قلوب النساء لأنَّه يشيع فيها السكينة، ويبسط عليها الطمأنينة، ويفعمها بحنان الطهر والقداسة، ويريحها من وساوس الضعف والفتنة؛ أعظم في نفوسهن أثرًا من كل عظيم، وهو الذي من أجله ينسين الجسد، ويرتفعن بحبهن له فوق مناط الظنون.
لهذا لا نستغرب أنْ يُقال إنَّ قرينة بيلاطس كانت تُحذِّر قرينها أن يمس ذلك الإنسان الصالح، وأن تغلب محبة التقوى على محبة الدنيا في نفوس تبعته، وهجرت زينة الحياة، ومنهن الغواني اللواتي تستدعيهن الحياة كل يوم بداع مطاع.
وقد وصف نفسه بأنَّه «وديع متواضع الفؤاد»، وقال إنَّ الوداعة مفتاح السماء فلا يدخلها غير الودعاء، وتمثلت الوداعة في كثير من أقواله وأفعاله، ومنها الرحمة بالخاطئين والعاثرين، وهي الرحمة التي تبلغ الغاية حين تأتي من رسول مُبرأ من الخطايا والعثرات.
إلا أنَّ هذا الرسول الوديع الرحيم كان يعرف الغضب حيث تضيع الوداعة والرحمة، وكانت شيمته في رسالته شيمة الرسل جميعًا حين تعلو عندهم أواصر الروح على أواصر اللحم والدم، وتتقدم حقوق الهداية على حقوق الآباء والأمهات، «من هي أمي ومن هم إخوتي؟ من يصنع مشيئة أبي في السماوات هو أخي وأختي وأمي»، «من ليس معي فهو عليَّ، ومن لا يجمع معي فهو يفرق»، «وإن كان أحد يأتي إليَّ ولا يبغض أباه وأمه وامرأته وأولاده وإخوته، حتى نفسه، فما هو بقادر أن يكون لي تلميذًا.»
وهذه وأشباهها من الشروط الصارمة التي كان يفرضها على مريديه، هي الشروط التي لا غنى عنها لكل دعوة مستبسلة أمام السيطرة والجبروت، ومهما يكن فيها من أساليب المجاز والكناية، فالقول الصراح الذي لا خلاف عليه أنَّ التجرد من أواصر المنافع والشهوات أول الآداب التي يتأدب بها الجنود في كل ملحمة: جنود الحرب في ميادين الصراع على فتوح الحكم والسياسة، فما بالنا بجنود الحرب في فتوح الروح ومطالب الكمال.
ولقد كان — عليه السلام — يأمرهم أنْ يقدموا على المخاطر في سبيل الحق والهداية، ولكنَّه كان يُقيم لهم حدود المخاطرة حيث يجب الإقدام على الموت وجوبًا لا مثوية فيه، فالخطر على الروح إذا كان موت الروح في الحسبان، فإن لم يكن خطر على الجسد ولا على الروح فلا خير في المخاطرة، وكونوا بسطاء كالحمائم، وحكماء كالحيات.
وفي إنجيل مرقس أنَّ السيد المسيح نجا بنفسه إلى جانب البحر حين علم أنَّ الفريسيين والهيروديين يأتمرون به لإهلاكه، وفي سائر الأناجيل أنَّه كان يشكو حزنه وبثه حين أحدق به الخطر، وأنَّه كان يدعو الله أن يُجنبه الكأس التي هو وشيك أن يتجرعها، وأنَّه كان يقول لتلاميذه: «نفسي جد حزينة. امكثوا ها هنا واسهروا.» وأنَّه كان يعتب عليهم حين يراهم نيامًا على مقربة منه، وهو يُعاني برحاءه وأشجانه، ويقول لهم: ما قدرتم أن تسهروا معي ساعة واحدة؟ ثم قال لهم آخر الأمر وقد حم القضاء: الآن ناموا واستريحوا!
فليس الإقدام على الجهاد أنْ تتجرد النفس من طبيعتها في وجه المخاوف والمتالف، وليس محظورًا على النفس في سبيل ذلك الجهاد أنْ تأخذ بالحيطة، أو تلوذ بمن تحب، وتستمد العون من عواطف المحبين، وإنَّما المحظور عليها أنْ تخشى الخطر على الجسد حيث تجب الخشية على الروح، وفي غير ذلك لا خشية ولا مخاطرة ولا ملام.
ومن تحصيل الحاصل أنْ يُقال إنَّ السيد المسيح خُلق على فطرة أمثاله من أصحاب الرسالات الكبرى الذين لا ينقطعون لحظة عن الرياضة الروحية، وهذه الرياضة الروحية هي التي تجعلهم منذ صباهم عرضة للقلق، والتنقيب في أعماق ضمائرهم، لعلهم يعرفون مداهم من الاقتراب أو الابتعاد عن طريقهم إلى الله، فهم يُشرفون على النُّور حينًا، ويحتجبون عنه حينًا، ويعودون إلى طواياهم في كل حين يُحاسبونها على إشراقه أو احتجابه، ويستبشرون تارة؛ لأنَّهم يلمحون معالم الطريق، وينحون على أنفسهم باللائمة تارة؛ لأنَّهم يتهمونها بالزيغ عن الجادة والانحراف عن السواء، وفيما بين هذا القلق وتلك البشارة تنمو النفس على الرياضة، وتتهيأ للثبات والاستقرار، وتتخذ العدة لليقين والإيمان.
لا ريب أنَّ هذه الرياضة هي التي عناها كُتَّاب الأناجيل بفترة التجربة في البرية حيث تعيش الشياطين، وما للشياطين هنا من وساوس غير وساوس القلق وصراع الفتنة وغواية الطمع بين الإقدام والإحجام، حيث تطمئن النفس ساعة، ثُمَّ تمتحن هذه الطمأنينة بالتجربة ساعة أخرى، ثم تعاف التجربة؛ لأنَّها تسليم بالشك حيث ينبغي التسليم بالثقة؛ لأنَّ رسالة الله حقيقة بكل فداء، وأهل لكل ثمن وكل جزاء، ولكن من لك أيها الضمير؟! إنك أنت المختار لرسالة الله. أوَتطلب البرهان؟! فمن أين لك أن تجمع بين طلب البرهان، وبين صدق الإيمان؟!
وقد تغلب المسيح على هذه المحنة كما تغلب عليها الأنبياء المرسلون بعد قلق وجهاد وصبر أليم، ونحسبه بعد ذلك كان يُعالج القلق من هذا القبيل بالتسليم للواقع، وكان يستلهم الحوادث إرادة الغيب حيث تحتجب عنه هذه الإرادة، فيترك الحوادث تمضي ويمضي معها، وينتظر ما تحكم به المقادير، وفي هذه المواقف يُخيفه أن يحجم ويتهم ضميره بالإحجام مخافة العواقب، فذاك مسعاه إلى بيت المقدس في أخريات رسالته مرتين: مرة وهو يدخلها بين الترحيب والتهليل، ومرة وهو يدخلها بين النذر والشباك، وخيانة الأصحاب، ودسيسة الأصدقاء.
كانت هذه الخطوات من خطوات التسليم الذي ينطوي فيه حب الاستلهام والاستطلاع خيرًا من طلب البرهان، وخيرًا من النكوص، ما لم يكن هنالك برهان، وما قال قائل في أمثال تلك المواقف: «ليفعل الله ما يشاء» إلا وهو يترك للمقادير أن تظهر من مجرى الحوادث حيث تجري بها مشيئة الله.
في لحظات كهذه اللحظات يغوص الإنسان كله في أعماق ضميره، ولعل لحظة من تلك اللحظات هي التي قال فيها الناظرون إليه إنَّه غائب عن نفسه، أو هي التي صمت فيها لا يحير جوابًا؛ لأنَّه هو يترقب جواب الغيب المنظور مما عسى أن يكون عمَّا قريب، أو هي التي أقدم فيها لا يُبالي بسلامته وعاقبة أمره، ولم يكن فكره قاصرًا عن استطلاع العواقب جميعًا في موقف من تلك المواقف الحاسمة، ولكنَّ المشكلة الكبرى كلها في استطلاع العواقب، فهل تراه لا يقدم على العواقب إلا بضمان من البرهان؟
إنَّ أعمال أصحاب الرسالات لا تُفهم على حقيقتها ما لم نفهم معها هذه القاعدة الأساسية في طبيعة الرسل، وهي أنَّ الشَّكَّ أخوف ما يخافونه، وأنَّ استبقاء الإيمان غاية ما يبتغونه، وكثيرًا ما يقدمون على جسام الأمور؛ لأنَّ التسليم أقرب إلى الإيمان، ولأنَّ الإحجام شك، أو انتظار برهان، والشك وانتظار البرهان يستويان في بعض الأحيان.
وقد تواترت الروايات على أنَّ السيد المسيح كان يبتهل إلى الله في أُخريات رسالته قائلًا: «اللهم جنبني هذه الكأس، لكن كما تريد أنت لا كما أريد.»
وفي هذا الابتهال مفتاح كل عمل أقدم عليه بعد ذلك، أو أقدم عليه في مثل هذا الموقف فإنَّه لم يتجنب الكأس كما يُريد، بل ترك لله أن يُجنبه إياها كما أراد، وموضع الشبهة في نفسه الشريفة أنَّ السلامة هي ما يُريده، وأنَّ النُّكول هو طريقه إلى اجتناب الكأس، فليكن مسيره إذن في غير هذه الطريق، ولكنَّ التسليم هو طريق الإيمان.