دعوة المسيحية
تواريخ الأديان جميعًا تثبت الحقيقة الواضحة التي لا مغزى لكتابة التواريخ مع الشَّكِّ فيها، ونعني بالحقيقة الواضحة اطِّراد السنن الكونية في الحوادث الإنسانية الكبرى، فلا يحدث طور من أطوار الدين أو الدنيا إلا سبقته مقدماته التي تُمهد لحدوثه، وجاء سريانه في العالم على وفاق لوازمه ودواعيه.
وليست المسيحية شذوذًا عن هذه القاعدة، بل هي من أقوى الظواهر التي تُؤيدها وتسري في مسراها، وسنراها، وسنرى بعد الإحاطة بالفصول السابقة، والفصول التالية أنَّ الصلة لم تنقطع كل الانقطاع بين العصرين، وأنَّ العصر القديم كان يلتفت بنظره شيئًا فشيئًا إلى وجه العصر الحديث، وسنرى غير مرة في هذا الكتاب أنَّ الدعوة المسيحية جاءت في إبانها وفاقًا لمطالب زمانها.
وليس أقرب إلى جلاء هذه الحقيقة من تلخيص صُورة العصر كلِّه في كلمات معدودات نحصر بها آفاته البارزة، ونهتدي بهذه الآفات إلى علاجها الموكول إلى العقيدة.
فما هي آفة العصر التي برزت في التاريخ، واتفقت عليها أوصاف المؤرخين الذين توقعوا الانقلاب فيه من طريق الدين، أو من غير طريق الدين؟
كانت له آفتان بارزتان: إحداهما تحجر الأشكال والأوضاع في الدين والاجتماع، والأخرى سوء العلاقة بين الأمم والطوائف مع اضطرارها إلى المعيشة المشتركة في بُقعة واحدة من العالم المعمور، وعلى الخصوص تلك الأقاليم التي نُسميها اليوم بالشرق الأدنى.
تحجرت الأشكال والأوضاع، وغلبت المظاهر على كل شيء، وتهافت النَّاس على حياة القُشور دون حياة اللباب، فكل معاني الحياة عندهم سمت وزينة وأبهة ومحافل وشارات، وانتقلت الحضارة من الداخل إلى الخارج أو من النفس إلى الجسد، كما يحدث دائمًا في أعقاب الحضارات، تبدأ في عالم الفكر والوجدان، ثُمَّ تستفيض العمارة فتميل إلى التجسم والتضخم، وتفقد من قوة النفس والضمير بمقدار ما تكسب من مظاهر المادة والمال.
تجمعت الثروة والكسل في ناحية، وتجمعت الفاقة والجهد المرهق في ناحية أخرى؛ فغرق السادة في الترف، وغرق العبيد والأرقاء في الشقاء، وفسدت حياة هؤلاء وهؤلاء!
وتحجر نظام المجتمع فأصبح أشكالًا ومراسم خلوًا من المعنى والغاية، وتحجَّرت معه الشرائع والقوانين، فلم يكن غريبًا أن تنقش على حجارة، وأن يرتفع ميزانها في يدي عدالة معصوبة العينين، وأن تفرغ الكفتان فتستويان؛ لأنهما فارغتان!
وتحجَّرت العقائد الوثنية في الدولة الرومانية، وتحجرت العقائد الكتابية بين بني إسرائيل، فأصبح فرق الشعرة بين النصين يُقيم الحرب الحامية على قدم وساق، وأصبحت التقوى علمًا بالنصوص، وبحثًا عن مراسم الشريعة، وغلب المظهر وإن اختلفوا على اللفظ والتأويل.
أشكال وقشور، لا جوهر هناك ولا لباب.
وساءت العلاقة بين الأمة والأمة وبين الطائفة والطائفة، وبلغ الحس بسوئها غايته؛ لأنَّ الذين يُعانون من سوئها يعيشون في نطاق واحد، ويخضعون لحكم واحد، فلا فكاك منه بحال.
دنيا آفتها مظاهر الترف ومظاهر العقيدة، ومن وراء ذلك باطن هواء وضمير خواء، فلا جرم يكون خلاصها في عقيدة لا تؤمن بشيء كما تؤمن ببساطة الضمير، ولا تعرض عن شيء كما تعرض عن المظاهر، ولا تضيق بخلاف كما تضيق بالخلاف على النصوص والحروف وفوارق الشعرة بين هذا التأويل وذلك التحليل.
عقيدة قوامها أنَّ الإنسان خاسر إذا ملك العالم بأسره وفقد نفسه، وأنَّ ملكوت السماء في الضمير، وليس في القصور والعروش، وأنَّ المرء بما يضمره ويفكر فيه، وليس بما يأكله وما يشربه وما يلبسه وما يقيمه من صروح المعابد والمحاريب.
هل كانت للدنيا آفة غير آفة المظاهر والتناحر على المظاهر؟
وهل كان لتلك الآفة خلاص غير ذلك الخلاص؟
وهل كانت المسيحية إلا العقيدة التي تدعو إلى خلاصها من حيث يُرجى، وهيهات لها في غيره خلاص؟
وتقطعت الأسباب بين الأمم وبين الطوائف وبين الآحاد، واتَّسم العصر كله بالعصبية في السائد والمسود والحاكم والمحكوم.
الروماني سيد العالم بحقه، والإسرائيلي سيد العالم بحق إلهه، واليوناني والآسيوي والمصري كل منهم سيد الأمم، وكل منهم مثال الهمجية، والمولى يخرج العبد من زمرة الآدميين، والعبد يمقت السيد مقت الموت، أو يفضل الموت على الرِّق الذي يجمع عليه بين الذل والألم والجوع، وأبناء الأمة الواحدة طوائف تشيع بينها التهم وتعمها البغضاء.
ويأتي إلى هؤلاء البشير المنظور، فماذا يقول لهم إن لم يقل لهم إنَّ الله رب بني الإنسان، وإنه هو ابن الإنسان، وإنَّ الحب أفضل الفضائل، وأفضل الحب حب الأعداء، وإن الكرم أن تُعطي فوق ما تسأل، وأن تُعطي بغير سؤال، وإن ملكوت السماوات لا تفتحه الأموال، وإن ما لقيصر لقيصر وما لله لله، وإنَّ المجد الذي يتنازعه طلابه لا يستحق أن يُطلب، وإنَّ المجد الذي يستحق أن يُطلب لا موضع فيه لنزاع.
ولم يأت هذا البشير فضولًا على غير انتظار: أبناء قومه موعودون به في ذلك الزمن، وأبناء الأقوام ينتظرون شيئًا لا يعرفونه، ولكنَّهم يعرفون أنَّ زمانهم لا يُطاق، وأنَّ حالهم لا بد لها من تحويل.
أفلست العبادات، وجاء أحد المعبودين — قيصر رومة — فأحرق الأسفار والنبوءات، ولم يبقَ منها إلا ما هو أقرب إلى الفنِّ في محراب أبولون إله الفنون.
أمَّا العبادة التي لم تفلس، فقد كان رأس مالها كله نسيئة منتظرة، وهذه علامات السداد يستبشر بها المصدق، ولا يمجدها المنكِر، وإنَّما هو خلاف على العلامات، وعلى مصداقها من العيان والسماع.
لقد كانت الدعوة طباق الزمن، وقد بدأت في أوانها لم تتقدم ولم تتأخر، وكفى بذلك بُرهانًا على موقعها الصحيح من التاريخ، فقد كان بلاء النَّاس أنَّهم خربوا باطنهم وعمَّرُوا ظاهرهم، فَجَاءَهم الرجاء الذي يصلح لذلك البلاء؛ بشارة لا تبالي أن يخرب ظاهر الدنيا كله إذا سلم للإنسان باطن الضمير.
وهذه هي دعوة السيد المسيح كما ساقها الغيب وترقبها العالم الذي سيقت إليه، ولو لم تكن هي طلبته يومئذٍ لما استولت عليها أربعة قرون.
وقد لقيت الدعوة أشد ما يلقاه دين من مقاومة، فلا يفهم من هذا أنَّها شاعت في العالم الإنساني على الرغم منه أو على غير حاجة منه إليها، فإنَّما الدين المطلوب هو الدين الذي تعلو أسباب قبوله على أسباب رفضه، وليس هو الذي يقبله النَّاس جميعًا طائعين مستسلمين كأنَّه غني عمَّن يدعو إليه، وما من دعوة قط تستغني من مبدأ الأمر عن الدعاة.
ولقد تصدَّى رسول الإخاء والسلام لدعوته، وهو يعلم أنَّها أخطر الدعوات، وأنَّها أخطر جدًّا من دعوة البغضاء والقسوة؛ لأنَّ الذي يدعو إلى الإخاء يدعو إلى اقتلاع جذور البغضاء، والذي يدعو إلى السلام يدعو إلى تحطيم سلاح الأقوياء، وليس اقتلاع جذور البغضاء بالأمر الهين، وليس تحطيم سلاح الأقوياء علالة حالم، وليس السبيل إلى ذلك سبيل الرضا والوفاق.
لهذا كان يقول: «جئت لألقي على الأرض نارًا فحبذا لو تضطرم.» وكان يسأل تلاميذه وسامعيه: «أتحسبونني أتيت لأمنح الأرض سلامًا؟» ثُمَّ يُبادر فيقول: «كلا! وإنَّما هو الصدام والانقسام خمسة في البيت ينقسم ثلاثة منهم على اثنين، واثنان على ثلاثة؛ ينقسم الأب على ابنه والابن على أبيه، وتنقسم الأم على بنتها والبنت على أمها، وتنقسم الحماة على الكنة، والكنة على الحماة.»
ولقد كان كلام كهذا يُقال على ألسنة بني إسرائيل كما قال ميخا: «ما في النَّاس من مستقيم، كلهم يكمن للدماء، وينصب الشباك … لا تأتمنوا صاحبًا، لا تثقوا بصديق، وأوصد فمك عن تلك التي تضطجع في حضنك، إنَّ الابن بأبيه مُستهين، وإنَّ البنت على أمها ثائرة … والكنة على الحماة، وللإنسان من أهل بيته أعداء.»
ولكنَّ هذه الأقوال وما شاكلها كانت وصفًا لما هو حادث، ولم تكن نبوءة عمَّا سيحدث من الشر في سبيل الخير، ومن البغضاء في سبيل الإخاء، ومن الحرب سعيًا إلى السلام.
وقد صحت نبوءة الرسول في بني قومه فناصبوه العداء؛ لأنَّه يبسط الدعوة إلى الإخاء، ويعم بها «طيور السماء» وهم رمز للطراق في جميع الأرجاء.
ومن الواضح أنَّه كان يؤثر قومه بالخير لو استمعوا إليه واتبعوه، ولكنَّهم مدعوون إلى وليمة يرفضونها، فمن حضرها بغير دعوة فهو أولى بها، وكذلك ضرب لهم المثل بوليمة العرس، وقد أرسل الداعي عبده في طلب ضيوفه «فقال هذا: إنِّي اشتريت حقلًا، وعليَّ أنْ أخرج فأنظره … وقال ذاك: إنِّي اشتريت أزواجًا من البقر، وسأمضي لأجربها … فغضب السيد وقال لعبده: اذهب عجلًا إلى طرقات المدينة وأزقتها وهات إليَّ من تراه من المساكين … فَعَاد العبد وقال لسيده: قد فعلتُ كما أمرتَ، ولا يزال في الرحبة مكان. قال السيد: فادع غيرهم من أعطاف الطريق وزواياه حتى يمتلئ بيتي؛ فلن يذوق عشائي أحد من أولئك الذين دعوت فلم يستجيبوا الدعاء.»
ويمكن أنْ يُقال في وصف تلك الدعوة العامة كثير لا يُحصى على حسب النظرة التي ينظر بها القارئ إلى كلام المسيح في الأناجيل.
يمكن أنْ يُقال إنَّها دعوة إلى حينٍ ينتهي وشيكًا بانتهاء العالم كله في أمد قريب، ويمكن أن يُقال إنَّها دعوة ملكوت يدوم ولا يُعرف له انتهاء.
ولكنَّنا على التحقيق نُطابق جوهرها كله إذا وصفناها بأنها «تغيير وجهة» وافتتاح قبلة، ولا سبيل إلى الجمع بين الوجهتين، ولا إلى التردد بين القبلتين، فلن يخدم أحد سيدين.
قبلة الروح أو قبلة الجسد.
معبد الضمير أو معبد الصخر والخشب.
هنا أو هناك …
فالمهم هو الاتجاه أين يكون، وإلى أي أمد يدوم، وكل ما يلي ذلك من تفصيل فهو خطوات الطريق تتسع أو تضيق وتسرع أو تتريث متى استقبل السالك قبلته وأدار ظهره لما وراءه، ولا بد من المفترق الحاسم بين القبلتين، ولا بد من خيرة بين السيدين!