تجارب الدعوة
استوفت الدعوة تجربتها في فترة قصيرة لم تطل أكثر من ثلاث سنوات، ولكنَّها كانت كافية؛ لأنَّها كانت في الواقع تجربتين ودعوتين، قام بهما رسولان مختلفان في الطبيعة والطريقة؛ وهما يوحنا المعمدان (يحيى المغتسل) وعيسى ابن مريم.
كان يُوحنا المعمدان مثال الناسك الصارم الذي لا يُحابي ولا يتردد، يُنذر كثيرًا ويُبشر قليلًا، ويضع الفأس على أصل الشجرة، ولا يُبالي أن يُلقي بها حطبًا في الأتون.
ولد لشيخين كبيرين بعد يأس، كلاهما من سلالة الكهانة أبناء هارون: وهما زكريا وأليصابات.
وفي إنجيل لوقا شرح لقصة هذا المولد في شيخوخة الأب والأم، جاء فيه أنَّ زكريا كان يتولى الخدمة الدينية في نوبته، فأصابته القرعة لدخول الهيكل وإطلاق البخور، فطال مكثه في المحراب، وجمهور المصلين يترقب ويتعجب، حتى عاد إليهم صامتًا لا يتكلم، فعلموا أنَّه قد حلَّت به الرؤيا داخل المحراب، ثُمَّ رُوِي أنَّه بصر على يمين المذبح بملك واقف، فاضطرب وَعَرَتْه رجفة، فقال له الملك: «لا تخف يا زكريا، إنَّ الله قد أجاب سؤالك، وستلد امرأتك ولدًا وتسميه يوحنا، وتفرح به، ويفرح به كثيرون؛ لأنَّه يُولد من بطن أمه ممتلئًا بالروح القدس، ويرد بني إسرائيل إلى إلههم، ويتقدم بروح إيليا (إلياس) وقوته …»
وقد ذكرت قصة زكريا في سورة آل عمران من القرآن الكريم: هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ ۖ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ۖ إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ * فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَىٰ مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ * قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ ۖ قَالَ كَذَٰلِكَ اللهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۖ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا ۗ وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ.
وذكرت في سورة مريم: كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ ۖ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَىٰ لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا * قَالَ رَبِّ أَنَّىٰ يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا * قَالَ كَذَٰلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا * قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً ۚ قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا * فَخَرَجَ عَلَىٰ قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * يَا يَحْيَىٰ خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ۖ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا * وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً ۖ وَكَانَ تَقِيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا * وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا.
وقد نشأ الطفل منذورًا للبتولة، وذلك معنى وصفه في القرآن الكريم بالحصور، وكان عليمًا بالكتب الدينية، يسمعها من أبويه ويتلوها في خلواته، وكان كثير العزلة شديدًا على نفسه في تهجده ونسكه، فلمَّا ظهر بالدعوة رآه الناس في ثوب خشن من الوبر يلف حقويه بمنطقة من الجلد، يصوم أكثر الأيام، ويقتات من الجراد والعسل البري، ويهيب بالنَّاس في صوت قوي صارم: توبوا واستعدوا، قد وضعت الفأس في رأس الشجرة، وكل شجرة لا تأتي بثمر جيد تقطع وتُلقى في النار. صوت صارخ في البرية كما قال الأنبياء الأقدمون.
ولم يكن يتقي حرجًا في كلامه عن ذي خطيئة أو دنس، فراح ينحى بهذا الصوت القوي الصراح على الملك هيرود؛ لأنَّه تزوج من هيرودية أخته وزوجها لا يزال بقيد الحياة، فلما اعتقله الملك وجيء به إلى حضرته، لم يسكت ولم يكفف عن التنديد به وبأخته، وأمره بتطليقها فرارًا من غضب الله.
وقد تنكَّر الكهان والفقهاء للرسول الثائر قبل أن يتنكر لهم، كما يفعل الدينيون «المحترفون» عادة بالوعاظ الذين لا ينتسبون إليهم، ولا يعيشون في زمرتهم، فكان يُوحنا يصيح بهم: «يا أولاد الأفاعي، لا يهجسن بأخلادكم أنَّكم تنتسبون إلى إبراهيم، إنِّي أقول لكم إنَّ الله قادر أن يُخرج من هذه الحجارة أبناء لإبراهيم.»
وكانت هذه أول صيحة من ذلك الرسول الثائر سمع فيها الناس أنَّ الخلاص نعمة يُسبغها الله على من يشاء، ولا يخص بها أبناء سلالة دون سائر السلالات البشرية، وكانت علامته على قبول المسيحيين لدعوته أن يذكر اسم الله، ويرشهم بالماء، ويمسح على رءوسهم، فهم بعد ذلك أهل للدخول في زمرة التائبين، وطلاب الخلاص، ولو لم يكن لهم نسب في آل يعقوب وإبراهيم.
هذه الدعوة الصارمة لم تلبث أن اصطدمت بعماية الشهوات، وعناد الغرور، ولكنَّها لم تذهب سدًى بين الدهماء التي لا تضلها أهواء السيادة، وبقي اسم يُوحنا مقدسًا محبوبًا، يخاف الأدعياء أن يجترئوا عليه، فلمَّا أراد الكتبة، والنامسيون أن يحرجوا السيد المسيح بالأسئلة والمعميات رد عليهم حرجهم وقال لهم: أجيبوني «أولًا» هل كانت رسالة يُوحنا من السماء أم من النَّاس؟ فلم يستطيعوا جوابًا؛ لأنهم إذا اعترفوا برسالته اتهموا أنفسهم، وإذا أنكروها غضب الشعب عليهم، فصمتوا مفحمين.
وليس أدلَّ على مكانة يُوحنا من ثناء يوسفوس المؤرخ الكبير عليه، وهو شديد الحذر من إغضاب ذوي الرأي والسلطان، فقد قال عنه: «إنَّه كان إنسانًا صالحًا أوصى اليهود أن يبر بعضهم ببعض، وأن يتقوا الله.» وهذه شهادة من المؤرخ يردد بها شهادة قومه، وهي شهادة للرسول، وشهادة على أنفسهم، وقد باءت دعوة الرسول الصارم بإحدى التجربتين اللتين مرت بهما دعوة الخلاص في عصره، فخرج الرسول الصارم من الدنيا، وهو يعلم أنَّ دعوة الخلاص ضائعة إذا انحصرت في قبيل واحد، وأنَّ الخلاص مرهون بمن يطلبه، ويخشى من فواته، ولو لم يكن من ذلك القبيل.
•••
وللسيد المسيح طبيعة أخرى غير طبيعة يحيى بن زكريا، فلم يكن متأبدًا، ولا نافرًا من النَّاس، بل كان يمشي مع الصالحين والخاطئين، وكان يشهد الولائم والأعراس، ولم يكن يكره التحية الكريمة التي تصدر من القلب، ولو كانت فيها نفقة وكُلفة، ووبَّخ تلاميذه مرة لأنَّهم تقشفوا وتزمتوا فاستكثروا أن تريق إحدى النساء على رأسه قارورة طيب تُشترى بالدنانير، وقالوا: لماذا هذا السرف؟ لقد كان أحرى بهذا الطيب أن يُباع ويعطى ثمنه للفقراء، فقال لهم — عليه السلام: «ما بالكم تزعجون المرأة؟ إنَّها أحسنت بي عملًا، وإنَّ الفقراء معكم اليوم وغدًا، ولست معكم في كل حين.»
هذه السماحة قد اصطدمت بعماية الشهوات وعناد الغرور، كما اصطدمت بهما تلك الصرامة، وقد أحصى السيد المسيح على عصره هذه الصدمة، وتلك الصدمة، فقال: «إنَّ يُوحنا جاءهم لا يأكل ولا يشرب، فقالوا به مس شيطان، ثم جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فقالوا إنَّه إنسان أكول شريب محب للعشارين والخطاة.»
رسالة قد استوفت تجربتها بل تجربتيها، وخرجت من التجربتين معًا إنسانية عالمية تُنادي من يستمع إليها، وتعرض عمَّن أعرض عن دعوتها بل دعوتيها: دعوة الغيرة الصارمة الأبية، ودعوة الغيرة السمحة الرضية، ولو قُدِّر لها أنْ تعيش في قبيل واحد لاستمع لها ذلك القبيل فانعزلت معه، فلم يسمع بها العالمون.