آداب حياة
كان «أوريجين» فيلسوفًا ملحوظ المكانة في تاريخ الفلسفة والديانة المسيحية، ويرى الكثيرون أنَّه أكبر المفكرين الدينيين الذين نبغوا بين القرن الثاني والقرن الثالث للميلاد، ومن لم يره كذلك فلا خلاف عنده في حسبانه بين ثلاثة أو أربعة من كبار المفكرين في عصره، غير مستثنى منهم أساتذته الأولون.
هذا الرجل قرأ في شبابه قول السيد المسيح إنَّ أُناسًا يخصيهم الله، وأُناسًا يخصيهم النَّاس، وأُناسًا يخصون أنفسهم في سبيل الله، فحمله على معناه الحرفي وَجَبَّ نفسه ليقدم بعد ذلك على تعليم النساء وهو آمن، ولكنَّه أدرك خطأه بعد ذلك، وعدل عن هذا الفهم الحرفي لأقوال السيد المسيح.
إلا أنَّ ثبوت هذه الرواية في سيرة رجل من أعلام زمانه يبطل العجب من روايات كثيرة بقيت بين أخبار الدعوة المسيحية في عصرها الأول، فقد كان الرجل يفقأ عينه إذا علم أنَّها نظرت إلى امرأة نظرة اشتهاء، وكان يمسخ جسده مسخًا إذا راودته الشهوات، حتى ليتساقط منه الدود وهو بقيد الحياة، فإذا كان شاب في ذكاء «أوريجين» وقوة فطنته يفهم العظات المسيحية على هذا الوجه، فلا عجب أنْ يشيع هذا الفهم بين طائفة من البسطاء الذين لا يبلغون مبلغه في الفطنة والدراية.
لكن «أوريجين» نفسه قد عدل عن خطئه بعد زمن كما أسلفنا، وسبقه وجاء بعده أُناس من طبقته أيقنوا أنَّ السيد المسيح قصد المعاني، ولم يقصد الحروف حين أوصى بكفِّ الأعضاء عن نزغات الجسد، فلم يعنِ بفقء العين إلا ما نعنيه بقطع اللسان حيث نريد به السكوت أو الإسكات، ولم يعن بقمع الجسد إلا ما نعنيه بقمع الرياضة والتربية، وكان كلمنت الإسكندري يقول بحق إنَّ السيد المسيح لا يعني بنبذ المال أن نرفضه بتاتًا في جميع الأحوال، إلا لم يكن الإحسان فضيلة من أكبر الفضائل في الوصايا المسيحية، وجاء القديس أوغسطين بعد ذلك فنفى أنَّ الدين يوجب الزهد على كل أحد، مع استحسانه الزهد لمن يقدر عليه.
وفي اعتقادنا أنَّه لا محل للخلاف على الوصايا التي وجهها السيد المسيح لتلاميذه ورسله المتجردين لنشر الدعوة، فإنَّ كل دعوة في عصر المسيح، أو في عصرنا هذا، وفي جهاد الدِّين أو جهاد الدنيا؛ تحتاج من الدعاة إلى شلِّ ذلك التجرد ومثل ذلك الانقطاع عن الشواغل الأخرى، ونظام فرق الفداء في الجيوش الحديثة معلوم لا خلاف عليه، وأول أحكامه أنْ يُفكر «الجندي المجاهد» في الموت قبل تفكيره في الحياة.
إنَّما الخلاف على الوصايا حين تتجه إلى غير التلاميذ والرسل: إلى أبناء الدُّنيا الذين يعيشون فيها، ويعملون لأنفسهم، ولمن يعولونهم من أبنائهم وذويهم، فهل يطلب من هؤلاء جميعًا أن ينقطعوا عن دنياهم، ويرفضوا حياتهم، ويتشبهوا بالطير والنبات في اعتمادهم على الغذاء والكساء؟
أقول حقًّا إنَّنِي أفهم وصايا السيد المسيح جميعًا، ولا أجد في فهمها صعوبة على الإطلاق، إذا أنكرنا الجمود على الحروف والنصوص كما كان ينكرها — عليه السلام — وإذا علمنا أنَّه — عليه السلام — قد قال كل شيء حين قال، ولخص حكمته كلها في هذا المقال: «ليس الإنسان للسبت، وإنَّما السبت للإنسان.»
لقد كان هَمُّ السيد المسيح في الإصلاح النفسي تغيير البواعث لا تغيير المقادير.
كان هَمُّه أن ينقل الآداب من محور إلى محور، ولا قيمة للمسافات ولا للأبعاد إذا كان انتقال المحور هو المقصود.
كانت العروض هي المحور الذي تدور عليه حياة الأمم والآحاد في عصره، فوجب أنْ يكون الجوهر الصميم هو محور الحياة.
كانت «الأشياء» مقدمة على النَّفس الإنسانية، فوجب أنْ تكون النَّفس الإنسانية مقدمة على الأشياء.
وجب أن يكون ربح النفس الإنسانية هو الغنيمة الكبرى؛ لأنَّ من رَبحها فلا جناح عليه أن يخسر العالم.
وإذا كان «الحطام» هو محور الحياة فسيان الكثير والقليل: سيان من يطلب الدِّرهم الواحد، ومن يطلب ملايين الدراهم، فكلاهما مداره خطأ وسعيه عقيم.
إذا كانت «الشهوة» هي محور الحياة، فسيان من يشتهي بعينه ومن يقوم ويقعد ويسهر وينام في طلب اللذة والغواية، فكلاهما فارغ لهذا المحور الذي يدور عليه.
ولكنَّنا ننقل المحور، أو ننقل القبلة كما أسلفنا في فصل سابق، فينتقل كل شيء، ويتغير اللباب الأصيل من كل خلق.
إذا أصبح كسب النفس الإنسانية — كسب المحور — هو غاية الحياة، فالذي يملك الملايين زاهد كالذي يملك العشرات أو الذي لا يملك شيئًا من الأشياء.
إذا تغير المحور، فمسافة الفرسخ والميل كمسافة الشبر والقيراط.
وإذا بقي المحور، فالبعيد كالقريب، والقريب كالبعيد.
وتغيير المحور هو الذي عناه السيد المسيح.
وتغيير المحور لازم في ذلك العصر، لازم في هذا العصر، لازم في كل زمن ينحرف فيه الاتجاه عن سوائه، ولهذا كانت رسالة السيد المسيح نموذجًا للرسالات، ولم تكن آخر الرسالات في الحياة الإنسانية.
لهذا نعتقد أنَّ السيد المسيح كان يُغيِّر المحور تغييرًا آخر لو أنَّه حضر الدنيا بعد عصره ببضعة أجيال، ورأى النَّاس يغرقون في تعذيب الجسد، ويفرحون بإطعامه للدود، وهم بقيد الحياة.
بل لا حاجة بنا إلى الفرض هنا، أو الاحتمال الذي يقبل الخلاف، فإنَّ المسيح قد غَيَّر المحور هذا التغيير في زمانه؛ غيره حين قَبِل إنفاق الدنانير في عطر تمسح به قدماه، وحين قبل أنْ يشهد الأعراس، ويضرب المثل لأتباعه في أفراح الحياة، وفي بَرَاءة كل فرح يأتي من القلب، ويسر الجسد، ولا يحزن الروح.
وما كان الإصلاح في الدعوات الكبرى قط مسألة مقادير ومسافات: أنت تنهك نفسك لتكنز مليونًا، فحسبك أن تنهك نفسك لتكنز عشرة آلاف، ولا تزيد.
أنت تتهالك على جميع اللذات في جميع الأوقات، فتهالك عليها أيامًا في الأسبوع، أو تهالك على بعضها دون سائرها في جميع الأيام.
أنت مشغول الذهن بالعدوان والبغضاء، فاشتغل بهما قليلًا، ولا تجعلهما شغلًا شاغلًا بغير انقطاع.
كلا، لم يكن الإصلاح في الدعوات الكبرى قط مسألة مقادير ومسافات، وإنَّما كان على الدوام مسألة «محور» ينتقل، أو مسألة «باعث» يتغير، وعلى الدنيا بعد ذلك أن تعرف شأنها في مسافاتها ومقاديرها، حتى يبلغ بها الانحراف غايته فتعود أو يُعاد بها إلى محورها الذي انحرفت عنه أو إلى محور جديد.
إنَّنا لا ننصف السيد المسيح، بل ننصف أنفسنا حين نعتقد أنَّه كان يُدرك ما يقول وهو يقول: «من أخذ منك رداءك فأعطه قميصك مع الرداء.»
أترى السيد المسيح كان يفوته أنَّ الرِّداء والقميص اللذين يُعطيهما المعطي هما الرداء والقميص اللذان يأخذهما الآخذ أو يسلبهما السالب؟
كلا، ما كان يفوته ذلك ولا ريب، ولا أدنى ريب.
ولكنَّ النَّفس الإنسانية هي المقصود، وليس المقصود هو الرداء أو القميص.
المقصود هو أنْ ترفع النَّفس الإنسانية فوق أشيائها، بمثل من الأمثلة، يصح أن يكون هذا المثل، ويصح أن يكون مثلًا سواه!
فليكن العطاء حبًّا وطواعية؛ لأنَّ من يُعطي مجبرًا، أو يعطي ما لا يهمه أن يعطيه، يفقد شيئًا ولا يملك نفسه.
وليس كذلك من يعطي لأنه يريد العطاء: إنَّه يكسب ما أعطاه ولا يضيعه؛ لأنَّ غنى النَّفس يُقاس بما تعطيه، وغنى الجسد يُقاس بما يأخذه، ومن كان لا يُبالي أن يُعطي العالم كله ليربح نفسه فأخلق به أن يربح نفسه بقليل من العطاء.
أراد السيد المسيح أن يعبد الإنسانُ سيدًا واحدًا، ولا يعبد سيدين، وهذا كل ما أراد.
فمن يملك أموال الدنيا غيرَ عابد للمال فلا جُناح عليه.
ومن يعبد الله، ويستعبد المال فلا جناح عليه.
ومن حاول غير ذلك فهو غير مُستطيع، وليس قصاراه أنَّه غير مشكور أو غير مأجور.
ونحسب أنَّ النَّهي عن عبادة سيدين قد أقام الحد واضحًا سهلًا بين ما هو مباح وما هو محظور في طلب الدنيا ومتاعها وزينتها. فلا حرج على إنسان يملك المال العريض، وهو لا يعبد المال، ولا يقدم نفسه قربانًا على هيكله. ولا نجاة لإنسان يملك درهمين، ولا ينالهما بغير عبادة المال.
ويحسن بنا على الجملة أنْ نذكر أنَّ السيد المسيح لم يقصد إقامة مجتمع في مكان مجتمع. ولكنَّه قصد إلى تهذيب آداب إنسانية يعتصم به ضمير الفرد وضمير الأمة، وأقامها على أساس واضحٍ في وصايا متعددة لا تضارب بينها.
فالجسم أفضل من الطعام واللباس.
والإنسان أفضل من السبت.
وغنيمة النفس أربح من غنيمة العالم.
ومملكة الضمير في قرارة كل إنسان أبقى من ممالك العروش والتيجان.
وبساطة الإيمان أصلح من حذلقة العلماء والحفاظ، ولولا هذه الحذلقة لما استعصى على أحد أن يفهم ما يسمع من وصايا السيد المسيح، وما جرى مجراها في كل زمن، فمِن دأب الحذلقة على الدوام أن تجتهد لكيلا تفهم، وليس من دأبها أن تجتهد مرة لكي تفهم، وعندها في كل آونة سبب لتعطيل كل فهم، وسبب لتعطيل كل عمل، وسبب للظهور يصرفها آخر الأمر عن بواطن الأمور. وهذه الحذلقة التي حالت بين المتحذلقين قديمًا، وبين كل عمل بكل وصية، فليس عندها مستمع لنبي ولا لحكيم.
إنَّ الحذلقة هي التي أبت أن تفهم حين قال القائل: إنَّ العصفور المبكر يجد الدودة قبل غيره. أفليس في هذا الكلام شيء يفهمه السامع؟ بلى، وفيه نُصح لمن يريد أن يسمع ويعمل، ولكنَّ الحذلقة هي التي قالت في جواب تلك النصيحة: إنَّ الدودة لو لم تبكر قبل العصفور لما أكلها العصفور.
إنَّ الحذلقة تقول هذا؛ لأنَّها لا تعمل، فهل تراها كسبت شيئًا حين خسرت العمل؟ كلا! فإنَّ سخريتها تستقيم إذا كان التَّأخير أسلم للدود من التبكير، ولكنَّهما يستويان على الأقل، إنْ لم يكن التأخير خليقًا أن يُعرِّض الديدان لمئات المناقير، ومئات العيون، بدلًا من فرد منقار، وفرد عين!
كذلك يقول السيد المسيح: من طلب منك رداءك فأعطه قميصك مع الرداء، فتقول الحذلقة: ولماذا يحق للطالب أن يملك القميص والرداء معًا، ولا يحق لمن يُعطيهما أن يحتفظ بهما في حوزته؟!
أفليس في قول السيد المسيح ما يفهم؟ بلى، فيه ما يفهم، وما يصحح فهمًا على ضلال، ولكنَّ الحذلقة لا تريد أن تفهم، ولا أن تعمل، ولا تريد إلا ظهورًا «على حساب» الفهم والعمل، كما يقولون. ولولا ذلك لما غاب عنها أنَّ الجديد في الأمر هو امتحان المعطي الذي يُقتدَى به في الإحسان، وإنَّ طالب الرفد لا خلاف عليه، ولا على قيمة عمله من الفضيلة، وإنَّما الخلاف الذي يحتاج إلى جديد هو قيمة الإعطاء من فضيلة السماحة والإيثار.
لقد كانت الدنيا تدور على محور الشره، والشر، والبغضاء، والنفاق، فحسنٌ — ولا شك — أن تدور على غير ذلك المحور، وإذا انتقلت منه إلى محور القناعة والخير والحب والصدق، فلا مشاحة في قياس المسافات، ولا تقدير المقادير.
بل نقول إنَّ الرسالة كاملة وافية، ولو لم يكن هذا الانتقال إلى حين وفي حيز محدود، فإنَّما العبرة بإضافة هذه القيم الجديدة إلى حساب الإنسانية، وشأن الإنسانية بعد ذلك وما تستطيع، وشأن الرسل بعد ذلك وما يستطيعون من تجديد الرسالة كُلَّما انحرفت الجادة، أو احتاج ضمير الإنسان إلى محور جديد.