ملكوت السماوات
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَٰكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَن يَشَاءُ ۚ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ
هذه آية كريمة لها مرجع من تاريخ كل دعوة، ولا سيما الدعوات الدينية الكبرى، وما من شيء هو أدعى إلى التدبر الطويل من المقابلة بين مقاصد أصحاب الدعوات، وبين الغايات التي تنتهي إليها دعواتهم على غير قصد منهم، بل على خلاف ما قصدوا إليه، ثُمَّ يمضي الزمن، وتنطوي المقاصد والغايات، فيبدو أنَّ طريق الدعوات كان أهدى من طريق أصحابها، كأنَّما الدعوات والدعاة معًا وسيلة مُسخَّرة تسير في عنان الحكمة الأبدية، دون أنْ يعلم الدعاة أو يعلم المستجيبون لها إلى أين تسير، وإلى أين يسيرون.
ماذا لو أنَّ أهل مكة عقلوا فاستجابوا إلى الدعوة المحمدية، ولم يدخل المسلمون مكة دخول الغالبين المنتصرين؟
إنَّ الهجرة من مكة إلى المدينة كانت فاتحة الفتوح الإسلامية، فلو أنَّها ارتفعت من تاريخ الإسلام لَتغير ذلك التاريخ، ولكنَّه لا يستفيد — فيما نعتقد — بزوال ذلك الحادث الذي كان محسوبًا من العقبات، بل أكبر العقبات في صدر الإسلام.
وماذا لو أنَّ بني إسرائيل في عصر السيد المسيح قبلوه وصدقوه، وفتحوا له أبواب الهيكل مرحبين مؤمنين؟
كان غاية الأمر أنَّ نبيًّا من الأنبياء يُضاف اسمه إلى أسماء الأنبياء في كتاب العهد القديم، وتبقى إسرائيل في عزلتها كما كانت، ويبقى العالم كله كما كان من هذه الناحية، وتبقى الناصرة كما كانت في التاريخ: منسية لا تُذكر، أو تذكر كما تُذكر أصغر القرى التي تحكمها رومة الخالدة؛ رومة القياصرة والجبارين المتألهين.
فمما لا ريب فيه أنَّ السيد المسيح قد أراد إسرائيل بدعوته الأولى، ومن البديه أن يُريدهم قبل أن يُريد أحدًا غيرهم؛ لأنَّهم عشيرته الأقربون، ولأنَّهم أصحاب الكُتب التي تُبشر بالخلاص، وتترقب الرسول المخلص من وراء الغيب.
وقد كان السيد المسيح يعظ التلاميذ ويقول لهم: ماذا تركتم للأمم؟ لأنَّهم أبناء أمة أولى بها أن تستمع إلى الحق من أبناء الأمم كافة، وهم غير مختارين.
وقد كان يُرسل التلاميذ للدعوة، وينهاهم أن يدخلوا السامرة، ويُحذِّرهم على العموم أنْ يطرحوا اللآلئ تحت أقدام الخنازير.
وعلى رفقه في الخطاب كان ينتهر المرأة الفينيقية التي أرادت منه كرامة من تلك الكرامات التي يخص بها أبناء يعقوب؛ لأنَّه ليس بالحسن أن يُؤخذ الخبز من أبناء البيت ليُلقي به إلى الكلاب.
وكان هذا الإيثار بديهًا كما قلنا من وحي الفطرة ووحي الكُتب والدِّراسة، وكان كذلك حكمة من حكم الدعوة التي يُراد لها النَّجاح، فإنَّ المُساواة بين العشيرة الأقربين، وبين الغرباء الموتورين كانت خليقة أنْ تُقصي الأقربين، ولم يكن يقينًا، ولا شبيهًا باليقين، أن تُدني إليه أحدًا من أولئك الغرباء الموتورين الذين يُحاربونه، ويُحاربون قومه، ويُبادلونهم سوء الظن وتارات الانتقام؟
فماذا لو استجاب المدعوون إلى الدعوة على أحسن حال وأيسر احتمال؟ ماذا لو استجابوا بغير عناد وبغير استشهاد؟!
إن استجابوا جميعًا إلى الدعوة، فقد دخلت الدعوة في نطاق «العصبية العنصرية»، ولم يتغير بها شيء في غير ذلك النِّطاق المحدود.
وإنْ لم يستجيبوا جميعًا، واستجابت منهم فئة من فئات شتى، فغاية الأمر أنَّها فِرقة تُضاف إلى فرق الفريسيين والصدوقين والآسين والغلاة، بل قد حدث فعلًا أنَّ فئة من بني إسرائيل قبلت المسيحية على أنَّها «طائفة يهودية» سُميت بالطائفة «الأبيونية»؛ أي طائفة الفقراء والدراويش، ثُمَّ ذهبت هذه الطائفة في الغمار، فلا هي إلى اليمين ولا إلى اليسار، ولم يبقَ لها نصيبٌ في تاريخ اليهود، ولم يبقَ لها نصيبٌ في تاريخ المسيحيين!
بل حدث فعلًا أنَّ كنيسة مسيحية يهودية هجرت بيت المقدس إلى شرق الأردن، واعتزلت كنائس إسرائيل، وأقامت شرقًا حيث تحرم الإقامة على سائر إسرائيل، وظلت ردحًا من الزمن لا هي إسرائيلية خالصة، ولا هي مسيحية خالصة، ثم ذهبت في الغمار كما ذهب الأبيونيون.
لقد مرَّ بنا المثل الذي ضربه السيد المسيح للمدعوين المتخلفين: مثل الأمير الذي أَوْلَمَ الولائم، وأَرْسَل إلى الصفوة المختارين من الأقرباء والصحاب يدعوهم أنْ يفرحوا معه، ويشاركوه في طعامه وشرابه، فلم يجبه منهم أحد، وتعلَّل كل منهم بعلَّة تُؤخره إلى ما بعد يوم الوليمة، فأقسم لا يحضرنها أحد بَلَغَتْه الدعوة، وليملأنها بمن حضر، ومن لم يحضر، ومن تزويه الأزقة، أو تقذف به الطريق، وأبى أن يبقى مكان على المائدة خلوًا من ضيف، وأصبح كل طارق ضيفًا مقبولًا على الرُّحب والسَّعة، وكذا تعمر وليمة السماء التي يتأخر المدعوون إليها، ويتقدم إليها من هم أحق بها؛ لأنَّهم يشتهون ما يعافه المدعوون المتبطرون.
قال السيد المسيح لمن دعاهم وألحف في دعواهم فأنكروه، وألحفوا في إنكاره: «إنَّ الحجر الذي رفضه البناءون صار على رأس الزاوية. إنَّ ملكوت الله يُنتزع منكم، ويُوهب لأمة تُؤتيه ثماره. من سقط على ذلك الحجر رضه، ومن سقط الحجر عليه سحقه. هناك يكون البكاء وصرير الإنسان. هناك يدعى الكثيرون، ولا ينتخب إلا القليلون.»
ومنذ استحكمت النبوة بينه وبين الجامدين والمتعصبين قلَّت وصاياه التي يخص بها «الأمة»، ويفردها بين الأمم، وكثرت في وصاياه الآداب الإنسانية التي يستحق بها الإنسان ملكوت السماوات، فردًا فردًا، كائنًا ما كان شأن الأمة التي ينتمي إليها، وفَهِم السامعون من الملكوت أنَّه حقٌّ لمن يقصده من بني الإنسان أجمعين.
غير أنَّ ملكوت السماوات لا يُفهم على صورة واحدة من روايات الأناجيل المتعددة، بل لا يذكر بلفظ واحد في جميع الأناجيل، فإنَّ مُرقس ولوقا يذكرانه باسم ملكوت الله، ومَتَّى يذكره باسم ملكوت السماوات، ويتفق أحيانًا أن يذكر في جميع الأناجيل باسم ملكوت ابن الإنسان.
كذلك يبدو من بعض الأقوال أنَّه حاضر على الأبواب، وإنَّ من الأحياء السامعين من لا يذوق الموت حتى يرى ابن الإنسان آتيًا في ملكوته (١٦ مَتَّى).
ويبدو من أقوال أخرى أنَّ المدى بعيد، وأنَّ الضلال في دعواه طويل الأمد: «لا يضلنكم أحد، فإنَّ كثيرين سيأتون باسمي فيضل بهم كثير، وسوف تسمعون بحروب وأنباء، ولا يحين الحين بعد، بل تقوم أمة على أمة، ومملكة على مملكة، وتحدث مجاعات وأوبئة وزلازل في أماكن شتى، وهذه كلها بوادر الأوجاع، ويسلمونكم يومئذ إلى الضيق فتُقتلون، وتبغضكم جميع الأمم في سبيلي، ثم يأتي أنبياء كذبة كثيرون ويضلون كثيرين، وتفتر محبة كثيرين، ولكنَّ الصابرين إلى المنتهى ينجون، ويُنادَى ببشارة الملكوت هذه في أنحاء المسكونة شهادة لجميع الأمم» (٢٤ مَتَّى).
وأحيانًا يأتي الكلام عنه كأنَّه قريب، ولكنه مُفاجئ مجهول الموعد: «اسهروا إذن؛ لأنَّكم لا تعلمون في أيَّة ساعة يأتي ربكم، ولو عرف رب البيت في أي هزيع يأتي السارق ما سرق، فاستعدوا أنتم كذلك؛ لأنَّه في ساعة لا تخطر لكم يأتي ابن الإنسان.»
ومن النبوءات ما يقول إنَّ ابن الإنسان نفسه لا يعلم باليوم والساعة (١٣ مُرقس)، وإنَّ بوادره وشيكة أنْ تظهر في هذا الجيل.
ويُشار إلى الملكوت أحيانًا بمعنى مشيئة الله وأوامره وفرائضه: «اطلبوا أولًا ملكوت الله وبره» (٦ مَتَّى)، «وقد أعطى لكم أنْ تعرفوا ملكوت السماوات» (١٣ مَتَّى).
وأحيانًا يُطلق على الرسالة التي يتعلمها التلاميذ من السيد المسيح: «أجعل لكم ملكوتًا كما جعل لي أبي.» ويقول لوقا: «إنَّ التلاميذ والأتباع كانوا يحسبون والسيد المسيح ذاهب إلى بيت المقدس أنَّ ملكوت الله عتيد أن يظهر في الحال» (١٩ لوقا).
وقد رأينا في كتب التعليقات والتفسيرات أنَّ هذه الصفات المتعددة تستغرب وتثير البلبال بين ذوي الآراء، كأنَّها أمر غير منتظر في تقديرهم، وهي في اعتقادنا أقرب شيء إلى البداهة وطبائع الأمور.
فيجب أنْ نُقدِّر أولًا أنَّ السيد المسيح قد أشار حتمًا إلى الملكوت الذي يفهم كل سامع أنَّه هو العالم الآخر، وأنَّه يأتي في نهاية هذا العالم، وأنَّه إذا أشار إلى ذلك الملكوت رجع السامعون بالبداهة إلى النبوءات التي جعلت له علامات، وإلى كلام المفسرين والمترقبين الذين قرنوا تلك العلامات بنهاية الألف الرابعة، أو نهاية الألف السادسة، واختلفوا هل يأتي المسيح المرتقب ثم تعود، أو ينتهي العالم الأرضي بمجيئه، ولا يكون مرجعه بعد ذلك في هذا العالم الأرضي المعهود؟!
وطبيعي جدًّا أنْ يتكلم السيد المسيح عن ملكوت السماوات بهذا المعنى، وأنْ يرجع السامعون إلى تلك النبوءات، ولا موضع للاستغراب في هذا الصدد، بل الغريب أنْ يخلو كلام السيد من هذا النذير، سواء ظهر في ذلك الوقت، أو ظهر بعده في زمن تتطلع فيه الأنظار إلى النهاية، وإلى تحقيق النذر، والبشائر، والعلامات.
فإذا أدخلنا هذا الملكوت بهذا المعنى في تقديرنا، فليكن في الحساب أنَّه بابٌ من أبواب اللبس بينه وبين الملكوت بمعانيه الأخرى، ولا سيما الملكوت الذي تقوم عليه رسالة السيد المسيح خاصة، كما هو الواقع في جميع الرسالات.
ففي رسالات الأنبياء الداعين إلى العالم الآخر جميعًا ملكوت رضوان يتحقق في السماء، وملكوت يعمل له النَّاس في هذه الحياة، أو رسالة يستمعون لها في هذا العالم، فيستحقون بها الملكوت في العالم الآخر.
هذا الملكوت أيضًا — ملكوت الرسالة المسيحية، أو ملكوت ابن الإنسان — يقع في البال حتمًا أنَّ السيد المسيح قد تكلَّم عنه، ووصف لأتباعه مطالبه ووصاياه.
ولا بد من لبس هنا مع اللبس الذي يحدث من توجيه المعنى حينًا إلى ملكوت القيامة، وتوجيهه حينًا إلى الملكوت قبل يوم القيامة.
أما اللبس في فَهْمِ الملكوت الذي يدور على الرسالة المسيحية — أو رسالة ابن الإنسان — فمرجعه من جهة إلى تطور الدعوة على حسب قبول المستمعين لها، فالملكوت في الدعوة التي يخص بها الإسرائيليون غير الملكوت في الدعوة التي لا يخصون بها، بل لعلهم يطردون منها، وتعم الأمم أجمعين.
ومرجع اللبس من جهة أخرى إلى سمو الرسالة على مدارك السامعين، ولا مناص من هذا اللبس إذا دعي السامعون إلى رسالة أسمى جدًّا مما ترقبوه وتطلعوا أن يفهموه.
ولا نرى أنَّ المسافة الشاسعة بين نفس السيد المسيح، وبين نفوس التلاميذ والأتباع، قد برزت في موضع من المواضع بروزها في الأسئلة التي توالت منهم عليه، وفي الحيرة التي دلَّت عليها هذه الأسئلة، حتى نيقوديموس عضو المجمع الأعلى لم يفهم معنى الملكوت الذي يستدعي من الإنسان أن يولد ولادة ثانية، ويدخل إليه إنسانًا جديدًا كما يدخل الطفل الوليد إلى هذا العالم، وحتى بعد بلوغ الدعوة ختامها، ظلَّ التلاميذ يحسبون أنَّ الملكوت يأتي بدولة بني إسرائيل: «فسألوه قائلين: يا ربِّ! هل في هذا الوقت ترد الملك إلى إسرائيل؟ فقال لهم: ليس لكم أنْ تعرفوا الأزمنة والأوقات التي أودعها الأب سلطانه، لكنَّكم ستنالون قوة مَتَى حلَّ عليكم الروح القدس، وستكونون شهداء لي في أورشليم، وفي اليهودية جميعًا، وفي السامرة، وإلى أقصى المسكونة.»
ونعود فنقول إنَّ اللبس طبيعي جدًّا في هذا الموقف بين مقصد المتكلم، ومدارك السامعين، وإنَّ هذا التفاوت البعيد هو الذي يُؤدِّي بنا إلى فهم الملكوت كما أراده السيد المسيح؛ لأنَّه ملكوت لم يكن في طاقة التلاميذ أنْ يخلقوه ويصوروه، وكلُّ ما في استطاعتهم أنْ يذكروا له أوصافًا متفرقة سمعوها فسجلوها والتقطوها كما يلتقط السامع ألفاظًا من لغة لا يفهمها، فإذا أمكننا بعد ذلك أن نُخرج تلك الألفاظ مُفردات مُتناسقة مفهومة على صورة واحدة، فتلك هي الآية على صحة تلك الصورة، وإنَّها هي الوصف المقصود.
والأناجيل قد ذكرت وصفًا متناسقًا للملكوت في مواضع شتَّى: ذكرت مملكة ليست من هذا العالم، وذكرت مملكة قائمة في ضمير الإنسان في كل زمان، إذا ربحها فهو الغانم، وإذا خسرها فالعالم كله لا يجديه، وذكرت مملكة لا يدخلها الإنسان إلا بنفس طاهرة صافية كنفس الطفل البريء، وذكرت مملكة لا يفتحها السيف؛ لأنَّه ما بالسيف يُؤخذ فبالسيف يضيع. «ولمَّا سأله الفريسيون متى يأتي ملكوت الله؟ أجابهم: إنَّه لا يأتي بمراقبة، ولا يقول قائل هو ذا ها هنا، وهو ذا هناك؛ لأنَّه هو الآن في داخلكم» (١٧ لوقا).
فالذين استغربوا الأوصاف، ولم يروا فيها إلا التناقض والشكوك! ماذا يصنعون بهذه الصورة المتناسقة؟ وعلى أيَّة صورة كانوا ينتظرون أنْ تأتي غير هذه الصورة مع التفاوت بين مدارك المعلم ومدارك التلاميذ، ومع حضور الملكوت في أذهان السامعين بمعنى القيامة، ووروده أحيانًا في كلام السيد المسيح بهذا المعنى؟ بل كيف كانوا ينتظرون أنْ تأتي على غير هذه الصورة مع تطور الدعوة تطورًا لا بد منه بين كلام موجه إلى أمة خاصة، وكلام موجه إلى جميع الأمم؟
إنَّ الخُلاصة المغربلة موجودة بين السنابل والحبوب، ولكنَّ العيب في الغربال الذي لا يعمل عمله، وفي حامل الغربال الذي ينسى أنَّ الغربال لازم، وأنَّ موضع لزومه على التخصيص.
إذا جاءنا رجل لا يعرف اللغة الصينية، ووضع أمامنا خطوطًا وأشكالًا، وتسنى لنا أنْ نُخرج من تلك الخطوط والأشكال كلمات تتم بها جملة مفهومة، فتلك آية الآيات على صدق الصورة المنقولة، وتلك الصورة إذن أحق بالاعتماد عليها من كلام الناقل الذي يستطيع أن يزيد على الكلام أو ينقص منه، أو يدخل عليه التحوير والتبديل حسب هواه.
تحولت الدعوة من خاصة إلى عامة، ومن أمة واحدة إلى سائر الأمم، بل إلى «الإنسان» فردًا كان، أو عنوانًا يشمل كل إنسان.
وحدث هذا التحول والعالم الإنساني متهيئ للدعوة الجديدة من أعماق وجدانه، وإنْ لم يكن يسيرًا عليه أنْ يفهمها حق فهمها، أو يسبر أغوارها.
والعالم الإنساني يتهيأ لهذه الدعوات على حسب حاجته إليها، ولا يلزم على الدوام أن يفهمها كما يلزم أن يحتاج إليها، أو إلى شيء من قبيلها.
مثله في ذلك مثل التربة التي ينفعها المطر؛ لأنَّها مُهيأة له متعطِّشة إليه، ولا محل هنا للحديث عن الفهم وسبر الأغوار.
كانت العلاقة العالمية، أو العلاقة الإنسانية قد وجدت من وراء أسوار الأمم والأقوام، ولكنَّها قد وجدت في بقاع من الأرض، ولم تُوجد في سرائر الضمير، ولعل النَّاس قد اختبروا منها أضرار العداء والبغضاء وكبرياء الجنس ونفور العصبية، قبل أن يختبروا منها مزايا الوحدة، ويتطلعوا من ورائها إلى الأخوة والصفاء.
بل تحطمت أسوار الأمم والأقوام أمام وطأة الشقاء قبل أنْ تتحطم أمام دعوة الأخوة والصفاء، فاتسعت رقعة العالم المتوحد لأُناس من جميع العصب والسُّلالات، لا يشعرون بينهم بوحدة غير العبودية والضَّنك، إمَّا في ربقة الرق الصراح، أو في ربقة أخرى لا تقل عنها في القوة والنِّقمة، وهي ربقة الحرمان والقنوط.
وقد كان من العسير أن يتمخض العالم الوثني عن رسول يجمع الأقوام إلى دين واحد؛ لأنَّ تاريخ الوثنية لم يعهد فيه أن يخرج للدنيا رسلًا تملؤهم الحماسة الروحية، وتفيض منهم على من حولهم فضلًا عن البعيدين عنهم، ولم يعرف التاريخ قط داعية وثنيًّا تجرد للتبشير والإنذار غير حافل بالموت، ولا مُرتدع بما يلقاه من زواجر الإرهاب والوعيد، وكل ما يحدث في الأديان الوثنية أنْ تغلب الدولة التي تدين بها على الشعوب المقهورة، فتحملها على طاعة أربابها كما تحملها على طاعة قوانينها وأحكامها، وتفرض عليها العبادات التي تتصل بالشعائر العامة، والمحافل الرسمية، ثُمَّ تترك لها بعد ذلك ما يروقها أن تعبده من الأرباب والأصنام.
أما الحماسة الروحية التي كانت لازمة لتوحيد العقيدة في العالم الإنساني، فلم تعهد قط في غير الأديان الكتابية، أو الأديان الإلهية، ولم يكن لها رسل قط غير الرسل المؤمنين بإله أعظم من الدنيا، وأعظم من الدول، وأعظم من كل موجود.
ولحكمة من الحكم الخالدة، وُجد هذا الرسول مطرودًا في قومه، ولم يُوجد بينهم مقصور الدعوة عليهم، فوجد فيه العالم بغيته في ساعة الحاجة إليه، وإنَّها لآية من الآيات التي يطول عندها تدبر الباحثين والمؤرخين؛ لأنَّها من التوفيقات التي يكون القول بالمصادفة فيها أصعب وأعجب من القول بالتدبير والتقدير.
وتم على يد هذا الرسول نقيض ما يتم على أيدي الوثنية في صولتها وسلطانها، فإنَّ الوثنية تتغلب؛ لأنَّها دين الدولة الغالبة، أمَّا هذه الرسالة — رسالة الملكوت السماوي — فقد نشأت في عشيرة قبيلة ذليلة، تحكمها تارة دولة الرومان الغربية، وتحكمها تارة أخرى دولة الرومان الشرقية، فلم يمضِ غير أجيال معدودات حتى غزت الدولتين، واستولت على العاصمتين، وصحَّ ما رووه عن جوليان — سواء قاله أو لم يقله — فانتصر «الجليلي» بملكوته السماوي على ممالك القياصر، وضم القياصر إلى حاشيته، فمنه يأخذون ما أخذوه باسم قيصر، وما أخذوه باسم الله!