شُرَّاح الأناجيل
عني الشُّراح الإنجيليون عناية دقيقة مضنية بترتيب الحوادث في سيرة السيد المسيح — عليه السلام — كما تستمد من روايات الأناجيل، ولكنَّهم لم يصلوا إلى ترتيب متفق عليه؛ لأنَّ سياق الحوادث مختلف في الأناجيل الأربعة، وبعض الأناجيل قد سجَّلت ما سمعه كتابها في أوقات متفرقة حسبما عرض لهم من مناسبات الرواية لا حسب تسلسل الأزمنة التي وقعت فيها الحوادث، فلم يتفق ترتيب الكتابة، وترتيب الحدوث.
على أنَّ حوادث السيرة فيها ما يظهر منه أنَّه مُقدمات، وما يظهر منه أنَّه نتائج لاحقة لتلك المُقدمات، فإذا حسبنا بعضها نتيجة لبعض على حسب المعقول من آثار الحوادث، أمكن على الترجيح مُتابعة السيرة المسيحية في خطوطها الكبرى، ولا يضيرنا بعد استقامة هذه الخطوط أنْ تختلف أوضاع الحوادث التي يُمكن أنْ تُضاف إلى كل فترة دون أن يتغير سياق السيرة كله، أو يتغير جوهر الموضوع الذي تدور الحوادث عليه.
كان لقاء المسيح ليُوحنا المعمدان مفرق الطريق في السيرة المسيحية.
ولم تَذْكُر لنا الأناجيل من أخبار نشأة المسيح — عليه السلام — قبل ذلك اللقاء غير حادثتين اثنتين، إحداهما حادثة السفر إلى مصر وهو رضيع، والأخرى حادثة السفر إلى بيت المقدس وهو في الثانية عشرة من عمره.
روى الحادثة الأولى إنجيل مَتَّى فقال: «إنَّ ملاك الرب ظهر ليوسف في حلم قائلًا: قُم وخذ الصَّبي وأمه واهرب إلى مصر؛ لأنَّ هيرود مزمع أنْ يطلب الصَّبي ليُهلكه. فقام وأخذ الصَّبي وأمَّه ليلًا وانصرف إلى مصر، وبقي فيها إلى وفاة هيرود.» ثُمَّ قال: «وقتل هيرودس جميع الصبيان الذين في بيت لحم وتخومها من ابن سنتين فما دونهما.»
ولم يذكر خبر هذه المذبحة في غير إنجيل مَتَّى، ولا يعرف الآن سبب وجود الأسرة في بيت لحم — وهي من الناصرة — لأنَّ الإحصاء الذي أشار إليه إنجيل لوقا وقال إنَّه سبب انتقال كلِّ أسرة إلى منيتها قد تقرر في السنة السادسة للميلاد، وحدثت من جرائه ثورة عنيفة على عهد والي سورية كرينيوس.
أمَّا الإنجيل الذي توسَّع في وصف طفولة السيد المسيح فهو إنجيل لُوقا الذي روى أخبار ختانه وتسميته والسفر به إلى بيت المقدس: «فلمَّا تمَّت ثمانية أيام ليختنوا الصَّبي سُمِّي يسوع.» وتمت أيام التطهير حسب الشريعة الموسوية «فصعدوا به إلى أورشليم ليقدموه للرب، ويقدموا ذبيحة: زوج يمام، أو فرخي حمام»، وهي القُربان المقبول من الفقراء.
قال إنجيل لُوقا: «وكان أبواه يذهبان كل سنة إلى أورشليم في عيد الفصح، فلمَّا كانت له اثنتا عشرة سنة صعدوا إلى أورشليم كعادة العيد، وبقي الصَّبي عند رجوعهما في أورشليم، ويوسف وأمه لا يعلمان، وإذ ظناه بين الرفقة، ذهبا مسيرة يوم، وكانا يطلبانه بين الأقرباء والمعارف، ولمَّا لم يجداه رجعا إلى أورشليم يطلبانه، فوجداه بعد ثلاثة أيام في الهيكل جالسًا في وسط المُعلِّمين يسمعهم ويسألهم، وكلُّ الذين سمعوه بُهتوا من فهمه وأجوبته، فلمَّا أبصراه دُهِشَا، وقالت له أمه: يا بُنيَّ لماذا فعلت بنا هكذا؟ فقال لها: «لماذا كُنتما تطلبانني؟ ألم تعلما حيث ينبغي أن أكون قيمًا لأبي.» فلم يفهما الكلام الذي قاله لهما، ثم نزل معهما، وجاء إلى النَّاصرة، وكان خاضعًا لهما، وكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والنَّاس.»
ولا يذكر الإنجيل شيئًا عن نشأة الصَّبي بعد ذلك إلى أنْ بلغ الثَّلاثين، وظهر يُوحنا «بمعمودية التوبة لمغفرة الخطايا»، وحينئذ جاء يسوع من الجليل إلى الأردن؛ ليعتمد منه — كما ورد في إنجيل مَتَّى — فمنعه يُوحنا قائلًا: أنا محتاج أنْ أعتمد منك، وأنت تأتي إليَّ؟ فأجابه يسوع: تسمح الآن؛ لأنَّه هكذا يُحمل بنا أن نستوفي كل بر. فسمح له، فلمَّا اعتمد يسوع، صعد للوقت من الماء، وإذا السَّماوات قد انفتحت له، فرأى روح الله نازلًا مثل حمامة، وآتيًا عليه، وصوت من السماوات يقول: هذا هو ابني الحبيب.
وفي إنجيل غير الأناجيل الأربعة المعتمدة — وهي إنجيل العبريين — رواية عن هذه الفترة من سيرته — عليه السلام — جاء فيها أنَّ أمه وإخوته قالوا له: إنَّ يُوحنا المعمدان يُوالي التعميد؛ لغفران الخطايا، فَهَلُمَّ بنا إليه ليعمدنا. فقال لهم: «أيَّ خطيئة جنيتُ حتى أذهب إليه لتعميدي؟! اللهم إلا أن يكون هذا القول الذي قُلت.»
وليس في الأناجيل، ولا في غيرها خبر عن تعليم السيد المسيح في طفولته قبل الثانية عشرة وبعدها، ولكنَّه بالقياس إلى نظام التربية في ذلك العصر يبدأ في مكتب ملحق بالبيعة في كلِّ قرية كبيرة يُشرف على بيعتها «حزان» أو «خزان» بمعنى الخازن والحارس، ويندر في المكتب حصول التلميذ على النُّسخ المخطوطة من الكتب الدينية غير نسخة البيعة المعدة للتِّلاوة منها في الصلوات، وللاستعانة بها على تعليم التلاميذ الصغار، ومعولهم جميعًا على الحفظ والاستظهار.
لقد كانت كلُّ أسرة يهودية تتمنى في ذلك العصر أن يخرج منها المسيح المنتظر، وقد سُمِّي الطفل يسوع أو «يهوشع» على هذا الأمل؛ لأنَّ الاسم مُركب من كلمتين تُفيدان معنى سعي «يهوا»، أو نجدة «يهوا»، أو خلاص «يهوا»، فتربَّى الطفل تربية دينية خالصة، ولا يصعب علينا تعليل سفر الأسرة إلى بيت لحم عند مولده؛ لأنَّها تنتظر المعجزة هناك، حيث ورد في أسفار من النبوءات أنَّ بيت لحم هي مولد المسيح الموعود؛ لأنَّها موطن داود.
ولا يبعد أنَّ الصَّبي المُبارك وكان في الثَّانية عشرة من عمره، قد وَعَى جميع الدُّروس التي يتعلمها الصغار في مدارس القرى، واستمع إلى شيء جديد من فقهاء الهيكل وأحباره، فتاقت نفسه إلى استيعابه، ونسي أهله وموعد عودتهم إلى قريتهم، وهو يتنقل بين دروس الفقهاء والأحبار.
ويغلب على الظَّن أنَّه كان على صلة وثيقة بيُوحنا المعمدان، وأنَّ يُوحنا قد رآه وعرفه، وعرف فضله وطهارة سيرته قبل أن يلقاه في الأردن عندما تصدَّى لرسالة التعميد، وهي بطبيعتها رسالة إعداد وتمهيد.
ومن البديهيِّ أنَّ كلمات يُوحنا مع الفتى ابن الثَّلاثين في ساعة التعميد لم تذهب بغير صداها في نفسه الواعية، فمن أيسر آثارها في مثل تلك النَّفس أن تُعزز فيها الأمل، وتدعم فيها اليقين، وتبعثها على التأمل فيما خلقت له، وفيما ترجوه ويرجى منها بين البشائر والنذر التي ترددت يومئذ في كل مكان، وعلى كل لسان.
وخلوة البرية هي إحدى نتائج التَّحية النَّبوية، وهي خلوة التَّجربة، والامتحان، والتساؤل، والاستيثاق التي عالجها كل نبيٍّ قبل أن يصدع بما أُمِرَ به، وقبل أن يستيقن أنَّ ما أُمِرَ به من عند الله.
ونعتمد في وصف هذه التجربة على رواية إنجيل مَتَّى حيث يقول: «إنَّه — عليه السلام — بعد أن صام في البرية أربعين ليلة، جاع أخيرًا، فتقدم به المجرب، وقال له: إن كُنتَ ابن الله فقل لهذه الحجارة تصير خبزًا. فأجابه: مكتوب أنَّه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكلمة تخرج من فم الله. ثُمَّ أخذه إبليس إلى المدينة المقدسة، وأوقفه على جناح الهيكل، وقال له: إنْ كُنتَ ابن الله فاطرح نفسك من علٍ؛ لأنَّك موعود أن يُوصى ملائكته بك ليحملوك على أيديهم، فلا تصطدم رجلك بحجر. قال يسوع: ومكتوب أيضًا ألا تُجرِّب الرب إلهك. ثُمَّ أخذه إبليس إلى جبل عالٍ، وأراه جميع ممالك العالم ومجدها، وقال له: أُعطيك هذه جميعها، إنْ سجدت لي. قال يسوع: اغْرُب عنِّي أيُّها الشَّيطان، فإنَّه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإيَّاه وحده تعبد.»
قال إنجيل مَتَّى بعد ذلك: ولمَّا سمع يسوع أنَّ يُوحنا أسلم لهيرود انصرف إلى الجليل، وَتَرَك النَّاصرة وسكن في كفر ناحوم، وابتدأ رسالته داعيًا إلى التوبة؛ لأنَّه قد اقترب ملكوت السَّماوات.
كان لقاء يُوحنا المعمدان مفرق الطريق في السيرة المسيحية كما أسلفنا، فكانت سيرة الفتى المؤمن قبل ذلك اللقاء تأهبًا واستعدادًا وأملًا، وكانت سيرته بعد اللقاء رياضة وامتحانًا وعزيمة، وردته كلمات النَّبي النَّذير إلى طويته يسبر أغوارها، ويمتحن صبرها، ويُسائلها، ويُسائل الغيب؛ ليهديه إلى كُنه رسالته، ومصدر بعثته، وتُوسوس له التجربة أنْ يطلب الآية، ويلمس الدَّليل، وكلُّ تجربة من هذه التجارب التي مثلتها بساطة الرِّواية الإنجليزية تدور على سرِّ الرِّسالة المسيحية وما أحاط بها في كُتب القُدامى من البشائر والمواعيد؛ ألم يكن رجاء النَّاس من المسيح الذي ينتظرونه أن يعمَّ الخير، ويبطل العناء في طلب الأرزاق، ويصبح الخبز لقي لمن يطلبه كحجارة الطريق؟ ألم يكن من مواعيد المسيح أن يُقبل على السَّحاب محمولًا على أجنحة الملائكة؟ ألم يكن من مواعيده ملك العالم بالتَّاج والصَّولجان؟ كل تجربة من هذه التَّجارب كانت هي التَّجربة التي تُساور ضميرًا مشغولًا بالرسالات المسيحية، واقفًا على قمة الإيمان وشفا الهاوية. وفي لحظة واحدة، تغريه من هنا رسالة جسد، وسلطان ومساومة على البراهين والآيات، وتعصمه من هنا رسالة روح، وقداسة ويقين لا يُساوم على البرهان.
أتكون كلمات يُوحنا للمسيح أول وحي نبوي بالرسالة المسيحية؟
واضح غاية الوضوح أنَّ هذه الكلمات الحية لم تطرق مسامعه إلا وقد فتحت في نفسه الصافية بابًا للتأمل والتساؤل، وأنَّ فترة الخلوة في البرية على أثر ذلك كانت فترة اعتكاف لاستخلاص الحقيقة من أعماق الضمير، والاستعانة بالصيام والتهجد على مُناجاة الغيب، والاستقرار على عزيمة خالصة للإقدام على خطوة حاسمة يريدها الله، ويبطل فيها الإبهام والإحجام.
وعندنا أنَّ أنفس خبر يُعين على التعريف بمنهاج الإيمان في نفس الرسول العظيم هو هذا الخبر عن تجربة الوحدة في البرية، فهو يُفسِّر لنا مواقف السيد المسيح جميعًا قبل الإقدام على خُطواته الحاسمة، أو يُفسِّر لنا منهاج الإيمان بدواعي العمل في ضميره السليم.
إنَّه إذا أقدم على أمر من الأمور الحاسمة أطال التَّفكير فيه، ولم يزل يُطيل التَّفكير فيه، ويقلب وجوه الروية والمُراجعة حتى يخطر له أنَّ العمل مرهون بانتظار آية يستوثق بها من إرادة الله، وعندئذ يُبادر إلى نبذ هذا الخاطر بغير هوادة؛ لأنَّ العامل الذي يتوقف عمله على انتظار آيةٍ ضعيفُ الإيمان، ومن كان قوام نفسه أنَّ مثقال حبَّة خردل من الإيمان ينقل الجبل من مكانه، ويخلع الشَّجر من منبته، فلن يكون إيمانه معتمدًا على آية يراها قبل أن يعمل عمله ويتجرد لمقصده، وبخاصة حين يبدو للنَّفس أنَّ الآية مُنتظرة لاتقاء الخطر، وضمان الأمان. فالخطر إذن أحبُّ من الشَّكِّ، وكل شيء إذن أسلم من الأمان الذي لا يأتي بضمان من البرهان.
وكلما بلغ السيد المسيح من تفكيره ورويته هذا الحدَّ الفاصل، فمنهاجه الجدير به هو استخارة الحوادث، واستلهام الغيب من هذا الطريق، ليفعل ما يتوقاه، ولا يَشترط شرطًا للوقاية، وليفعل الله ما يشاء، فما يجري بعد ذلك كله هو إرادة الله.
خرج السيد المسيح من العزلة إلى الرسالة، ولم يقل لأحد إنَّها رسالة مسيح، بل سكت عن ذلك حتى تسامع النَّاس بدعوته، وأصبح له أكثر من ثمانين تلميذًا يُبشِّرون برسالته، ويستمدون الهداية من وحيه.
واصطبغت رسالته الأولى في الجليل بصبغة مميزة وهي صبغة الرسالة القومية إلى إسرائيل، وحرص — عليه السلام — أشد الحرص ألا يُثير النَّاسَ على السلطان الحاكم، ولا يُثير السُّلطان الحاكم عليه، فكان يُؤثر المباعدة والتقية ما استطاع، حتَّى بلغ الكتاب أجله، وآن أن يمضي في خطوة أخرى بعد الخطوة الأولى التي انتقل بها من العُزلة إلى الدعوة بين بني إسرائيل، فهذه الخُطوة التَّالية هي الدعوة الإنسانية العامة، وهي استخارة للحوادث واستلهام للغيب في ميدان أوسع وأبقى، وعلى الصِّفة التي ثبتت له في طوية ضميره، وهداه إليها وحي الله، ولم يبقَ إلا أن تؤيدها حوادث القدر كيف شاء.
أما الصفة التي تثبت له — عليه السلام — في طوية ضميره، فقد تكررت في كلامه عن نفسه على صور شتى، فهو نور العالم وخبز الحياة، والكرامة الحقيقية، وهو ابن الله وابن الإنسان.
والأبوة الإلهية قد وردت في مواضع مُتعددة في كتب الأنبياء، فجاء في سفر التكوين أنَّ الملائكة أبناء الله، «وأنَّ أبناء الله رأوا بنات النَّاس حسنات فاتخذوا منهن زوجات» (٦ تكوين).
وورد في كلام موسى — عليه السلام — أنَّ بني إسرائيل جميعًا أبناء الله، حين قال لفرعون: «دع ابني يخرج.» ووردت بهذا المعنى في كُتب أخرى كسفر التثنية، حيث جاء فيه: «أنتم أبناء الله» (تثنية ١٤). وأشير إلى الشعب كله بأنَّهم أبناؤه وبناته (٣٢ تثنية). ووردت كذلك غير مرة في المزامير حيث قيل: «قدِّموا للرَّب يا أبناء الله» (٢٩). و«من يُشبه الرَّب بين أبناء الله» (٨٩).
وكذلك وردت في هوشع، وجاء فيه من خطاب الشعب: «أنتم أبناء الله الحي.»
أمَّا في العهد الجديد، فمُخاطبة الله باسم الأب وردت في الصلاة التي تبتدئ بدعاء الله «أبانا الذي في السَّماوات»، وحيث قال السيد المسيح للتلاميذ إنَّ «أباكم واحد هو الذي في السماوات»، حيث تكلم عن ولادة الروح وولادة الجسد، وكل ولادة للروح فهي بنوة لله.
أما ابن الإنسان فقد وردت في كتب العهد القديم باللغة الآرامية وباللغة العبرية، وهي بالآرامية «بارناشا»؛ من بار بمعنى ابن، وناش بمعنى إنسان، وهي بالعبرية «ابن آدم»، وتُطلق في كلتا اللغتين على الإنسان الخالص، أو على الإنسان من حيث هو نوع يُقابل أنواع الأحياء.
وقد وردت تسعين مرة في سفر حزقيال، حيث يخاطب «يهوا» ذلك الرسول فيناديه بابن الإنسان.
ووردت مرة في سفر دنيال بلسان جبريل، وهو يخاطب النبي باسم ابن الإنسان (٨).
ووردت في هذا السفر باللغة الآرامية حيث يتكلم عن مخلوقات بصور الحيوانات، ثم يُنبئ عن رسول يأتي في صورة إنسان رآه النبي في رؤى الليل «على سحاب كابن إنسان» جاء بسلطان لن يزول.
أمَّا في كُتب العهد الجديد، فقد وردت في مواضع بمعنى «الإنسان»، منها قول السيد المسيح في إنجيل مَتَّى: «كل خطيئة وتجديف يُغفر للنَّاس، ومن قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأمَّا من قال على الروح القُدس فلن يُغفر له، لا في هذا العالم، ولا في العالم الآتي» (١٢).
وقد جاءت أحيانًا مرادفة لضمير المتكلم «أنا» حين يتكلم السيد المسيح عن نفسه، فجاء في (لوقا ١٢): «كل من اعترف بي قدام النَّاس يعترف به ابن الإنسان قدام ملائكة الله.» وجاء في (مَتَّى ١٠): «كل من يعترف بي قدام النَّاس أعترف أنا أيضًا به قدام أبي الذي في السَّماوات.»
وورد في (مَتَّى ١٦): «إنَّه لمَّا جاء يسوع إلى نواحي قيصرية فيلبس سأل تلاميذه قائلًا: من يقول النَّاس إنِّي أنا ابن الإنسان؟»
وورد في (مُرقس ٨): «ثم خرج يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية فيلبس، وفي الطريق سأل تلاميذه قائلًا: من يقول النَّاس إنِّي أنا؟»
فهي في بعض الأناجيل مرادفة أو بديل من ضمير المتكلم حين يتكلم السيد عن نفسه، ولا بد أن يُلاحَظ هنا أنَّ التَّلاميذ قد عرفوا استخدامها في هذا السياق، فلم يُنادوا السيد المسيح قط باسم ابن الإنسان.
وقد وردت حينًا بمعنى يُشبه معناها في نبوءة دنيال حيث قال: «كما يُجمع الزوان، ويُحرق بالنَّار، هكذا يكون في انقضاء العالم، ويُرسل ابن الإنسان ملائكته، فيجمعون من ملكوته جميع المعاثر والآثمين» (مَتَّى ١٣).
وهي إشارة كإشارة دنيال إلى يوم الدينونة، وصيغتها بالآرامية واحدة في الموضعين.
هذه هي الأسماء التي تَسمَّى بها السيد المسيح في إبان دعوته الأولى أو عند نهايتها، وفي أثناء هذه الدعوة كان يُدعَى بالمُعلِّم الصالح أحيانًا فيقول: «لماذا تدعونني صالحًا؟ ليس أحد صالحًا إلا واحدًا، وهو الله.»
وعند نهايتها سأل تلاميذه عمَّا يقوله النَّاس عنه، فلما قال له بطرس: إنَّك أنت المسيح ابن الله باركه، ثُم َّأمرهم بالكتمان.
وغني عن القول أنَّ هذه الأسماء إنَّما كانت تفهم كما تعود قراء الكتب الدينية أنْ يفهموها في ذلك الحين، ولم يوصِ السيد المسيح تلاميذه أنْ يفهموا منها غير ذلك حين يذكرون «ابن الله» أو «ابن الإنسان».
•••
لو جرت الأمور في مجراها الذي استقامت عليه الدعوة في الجليل من بعد الرسالة المسيحية، لمضت هذه الرسالة في طريقها سنوات دون أن تشتبك في حرب صراح مع دولة الكهانة في بيت المقدس.
ولكنَّ الحوادث حكمت حكمها في السَّنة التي تحسب الآن سنة ثلاثين للميلاد، وحان موعد عيد الفصح، وزيارة بيت المقدس، كما جرت عادة الأسر اليهودية، ومنها أسرة السيد المسيح: أمه وإخوته وذوو قرباه.
وكان — عليه السلام — يُجاري أسرته في هذه الشعائر التي لا ضير فيها، ولم يكن يُضيِّق على النَّاس في المحافظة على المأثورات التي تعودوا أن يحتفلوا بها، ويفرحوا فيها بالاجتماع، وتبادل التهنئات، وإنَّما كان يُنكر من المأثورات ما كان فيه حجر على الضمائر، أو مُفاخرة بالتَّقوى الكاذبة والنفاق المكشوف، وفيما عدا هذا كان يُشارك أسرته في أفراحها القومية، ويذهب إلى الهيكل، ويأمر بشراء القربان، بل يأمر بسداد الفرضة التي كانت تُفرض على كلِّ رأس من رءوس بني إسرائيل.
وفي سنوات مضت زار بيت المقدس، ولم يُذكر قط أنَّه تخلف عنه في إحدى السنوات منذ بُشِّر برسالته في الجليل، وكان يذهب مع أصحابه القلائل، ثُمَّ يعود إلى الجليل دون أن يحس زيارتهم سدنة الهيكل، وذوو الشَّأن في العاصمة الدينية، ودون أن يشتبك الفريقان في نضال.
لكن كيف يكون الذَّهاب إلى بيت المقدس في هذه السَّنة؟
إنَّه لا يذهب إلى العاصمة هو وأصحابه كما كانوا يذهبون في السَّنوات الماضية.
إنَّهم يُعدُّون الآن بالألوف في أنحاء الجليل، وإذا قدرنا أن نيفًا وثمانين مسيحيًّا يُعدون من التلاميذ، فالمسيحيون الذين لا يُعدون منهم قد يبلغون عشرة أضعاف هذا العدد أو يزيدون.
فكيف يذهب هؤلاء المئات مع معلمهم إلى بيت المقدس خفية يتسللون إليها، ولا يُعلنون ولاءهم للمعلم الذي يحج معهم إلى المدينة؟ ولماذا هذا التَّسلل وهذا الاختفاء؟
هنا موقف من المواقف التي نُسميها مواقف استلهام الغيب واستخارة الحوادث.
أيذهب إلى بيت المقدس مع مئات التلاميذ والأتباع مُنكرًا لرسالته حذرًا من إعلانها مع هذا الجمع الذي لا يسهل معه التخفي والاستتار؟!
وماذا يقع من أثر التخفي والاستتار في نفوس المؤمنين برسالته الروحية إنْ لم تقل برسالته المسيحية؟!
أيؤمن أحد منهم أنَّ رسالة روحية أو مسيحية تعم العالم في الخفاء، وتستتر لسبب من الأسباب، فضلًا عن السبب الذي يسبق إلى الأذهان لأول مرحلة، وهو الحذر والاتقاء؟!
وجب الذهاب إلى بيت المقدس، ووجبت العلانية، ولا محيد عن الواجبين، ولتكن الآية الإلهية ما تُسفر عنه الحوادث بعد حين.
وأدل شيء على الموقف الأخير في الرِّسالة المسيحية كان على منهاج السيد المسيح في أمثال هذه المواقف — موقف استخارة الحوادث — أنَّه — عليه السَّلام — سهر ليلة الوداع يُصلِّي ويُناجي ربَّه قائلًا: «اعبر عنِّي هذه الكأس يا أبتاه، كما تريد أنت لا كما أريد.» ثم أيقظ تلاميذه النيام، وقال لهم: «اسهروا وصلوا لئلا تدخلوا في تجربة، أما الروح فنشيط، وأما الجسد فضعيف.»
وقد أعد عدته لمواجهة أعدائه حيث لا بد أن يُواجهوه، وأعدَّ العدة لاستبقاء عزيمة تلاميذه، فطفق يُهيئ أذهانهم لاحتمال ما يُلاقونه من بلاء، وصرف عن أذهانهم أنَّها غزوة فتح تنجلي عن غلبة عاجلة على دولة الكهانة الدُّنيوية، فليوطنوا أنفسهم إذن على أسوأ ما يكون، بل لا ييأسوا إذا غلبهم الضعف فتفرقوا عنه، ولا يُخامرهم الظَّن أنَّهم إذن قد خسروا المعركة، وانهزموا هزيمة الضياع، فهذا الضَّعف مقدور يتبعه لا محالة نصر قريب.
وتروي الأناجيل أنَّه — عليه السلام — دخل إلى بيت المقدس على ظهر أتان، كما جاء في بعض النبوءات عن مركب المسيح الموعود، وأنَّهم كانوا يحملون السعف أمامه، ويفرشون ثيابهم تحت أرجل مطيته، ويهتفون بهُتاف النَّصر الذي يحفظه اليهود منذ الطفولة، ويتغنون به في المواكب والمحافل لذكرى داود، وذكرى مجده المستعاد إلى آخر الزمان.
ويُفهم من وصايا السيد المسيح أنَّه ظلَّ في بيت المقدس يرعى للكهان والفقهاء مكانتهم، ولا يُقلقهم على ما هم حريصون عليه من حقوقها ودعاواها، ففي إحدى هذه الوصايا يقول مُخاطبًا الجموع والتلاميذ: «على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون، فكلُّ ما قالوا لكم أنْ تحفظوه فاحفظوه وافعلوه، ولكن حسب أعمالهم لا تعملوا؛ لأنَّهم يقولون ولا يفعلون.»
ولم تُسمع منه في رواية الأناجيل كلمة واحدة يغير بها ما اختطه لنفسه في حكمته المأثورة عمَّا لقيصر وما لله، فكل ما سمع منه في بيت المقدس يُعيد ما أسلفه من بيان الملكوت الذي يدعو إليه، وأنَّه من غير هذا العالم، ولا شأن له بسلطان التِّيجان والعروش.
•••
إلا أنَّه من اللحظة الأولى في بيت المقدس لمس مكامن الأشراك التي تُرصد له في كلِّ خُطوة، وعرف من الأسئلة التي كانت تنهال عليه أنَّ القَوم يأتمرون به لإهلاكه، إذ كانت هذه الأسئلة جميعًا تنزع إلى هدف واحد، وهو استدراجه إلى كلمة تثبت العصيان والتَّمرد على الدولة، أو كلمة تثبت «الكفر» ونقض الشريعة، وكانت أجوبته كلها على ما تعودوه في مواضع العنت والإحراج تستند إلى حُجَّته، وتستقيم مع غايته ورسالته، وتُخجل من يُحاول إحراجه، وتهتك ما يستره من حجب الرياء، ولا يبعد أنَّه قد سمع من بعض رؤساء الهيكل تفصيل المؤامرة المحبوكة؛ لأنَّ أحدهم وهو «نيقوديموس» كان يزوره ليلًا، ولعله واحد من كثيرين.
ثُمَّ حدث ما لا بد أن يحدث في عيد كذلك، بين أُناس متنمرين، وأناس متجردين لدعوة جديدة يتطوعون لنشرها ويتحمسون لصاحبها، فاشتبك السيد المسيح وسماسرة الهيكل في معركة أدبية لم تلبث أن انقلبت إلى معركة يدوية، فقلب — عليه السلام — موائد الصيارفة، وباعة الضحايا، وصاح بهم وبسماسرة الهيكل يذكرهم أنَّهم في بيت الله، وأنَّهم نقلوه من معبد صلاة وطهارة إلى مغارة لصوص.
وكانت هذه هي الوقعة الفاصلة على ما يظهر، وربما سعى إليها السيد المسيح تقريرًا للموقف على وجه من الوجوه، فامتلأت الصدور الموغرة، واتخذت من درء الفتنة ذريعة إلى العمل العاجل، وبدأ العمل على النَّحو الذي تفرقت فيه أقوال النَّقلة والرواة.
وهنا ينتهي دور التَّاريخ ويبدأ دور العقيدة.
فليس للتَّاريخ كلمة راسخة في خبر من الأخبار التي أعقبت حادثة الهيكل، وحركت كُهانه للبطش والنكاية.
ففي حادثة الاعتقال لا يدري مُتتبع الحوادث من اعتقله ومن دلَّ عليه، وهل كان معروفًا من زيارته للهيكل أو كان مجهولًا لا يهتدي إليه بغير دليل.
وفي حادثة المحاكمة يجري الخبر على أنَّه حُوكم باللَّيل وصدر الحكم في يوم واحد، ويجري نظام القضاء الموسوي على تحريم المحاكمة الليلية، وإسقاط كلِّ حكم يصدر في قضايا الدَّم بعد جلسة واحدة في يوم واحد، ولا ينفذ الحكم في هذه القضايا إلا إذا صدر بالإجماع.
وفي حادثة التنفيذ يجري الخبر على أنَّه قد تَمَّ على الرَّغم من إعلان الحاكم الروماني براءة المحكوم عليه، ويقول إنجيل يُوحنا إنَّ تسليمه للتنفيذ كان في نحو الساعة السَّادسة، ويقول إنجيل مرقس إنَّها كانت الساعة الثالثة فصلبوه.
ومن الأخبار عن يوم التنفيذ أنَّ الأرض زُلزلت، وأنَّ القُبور تفتَّحت، وَخَرَج منها القديسون يمشون بين النَّاس.
وروى نَقَلَة الأخبار أنَّ القبر فُتح في اليوم التَّالي فلم تُوجد فيه جثة، وأنَّ السيد المسيح ظهر للتلاميذ مرات، وقال لهم لمَّا توهموا أنَّه طيف: «جسوني وانظروا، فإنَّ الروح ليس له لحم وعظام.» «وسألهم أعندكم هنا طعام؟ فناولوه جزءًا من سمك مشوي، وشيئًا من شهد عسل، فأخذ وأكل» (٢٤ لوقا).
ومن الأخبار التاريخية خبر لا يصح إغفاله في هذا الصدد؛ لأنَّه محل نظر كبير، وهو خبر الضَّريح الذي يُوجد في طريق «خان يار» بعاصمة كشمير، ويُسمونه هناك ضريح النَّبي، أو ضريح عيسى، وروى تاريخ الأعظمي الذي دُوِّن قبل مائتي سنة أنَّ الضَّريح لنبيٍّ اسمه «عوس آصاف»، ويتناقل أهل كشمير عن آبائهم أنَّه قَدِم إلى هذه البلاد قبل ألفي سنة، وينقل المولوي محمد علي في ترجمته للقرآن الكريم عن كِتَاب عربيٍّ يُسمَّى «إكمال الدين» محفوظ من ألف سنة عن اسم «عوس آصاف» مذكور فيه، وإنَّه قال عنه إنَّه رحالة ساح في بلاد كثيرة، وإنَّ كتاب «برلام ديو شافاط» في صفحة ١١١ يذكر عن عوس آصاف أنَّه صاحب «بُشرى»، وأنَّهم يحفظون مثلًا من أمثاله في تعليمه يُشبه مثل السيد المسيح عن الزارع والبذور.
ولقد أورد المولوي محمد علي هذا التعليق في تفسير الآية الكريمة: وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَىٰ رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (المؤمنون: ٥٠).
وأورد تعليقًا يقرب منه في تفسير قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ (آل عمران: ٥٥).
وغيرهما من الآيات القرآنية التي تناولت حياة عيسى ابن مريم — عليه السلام.
•••
وبعد فهذا الكتاب مقصور على غرض واحد؟ وهو جلاء العبقرية المسيحية في صورة عصريَّة، نفهمها الآن كما نفهم العبقريات على أقدارها وأسرارها، وقد قلَّ فيها نظير هذه العبقرية العالية في تواريخ الأزمان قاطبة، ولا يزال هذا الغرض المجيد مُتسعًا للتوفية والتجلية من نواحٍ عدة، فإنْ كُتب لنا أنْ نوفق لزيادة شيء إلى هذه الذخيرة القدسية، فذلك حسبنا وكفى، ولا حاجة بنا في هذه الصفحات إلى إثارة الجدل في مسائل لا ترتبط بالمقصد الذي قصدناه، وقصرنا الرسالة عليه.
ولا نستطيع كما أسلفنا أنْ نُقرِّر على وجه التحقيق من النَّاحية التَّاريخية كيف كانت نهاية السيرة المسيحية، ولكنَّنا نستطيع أنْ نُقرِّر على وجه التحقيق أنَّها انتهت في موعدها حيث أسلمها التَّاريخ إلينا، فقد كان ذلك الجيل آخر جيل قُدِّمت فيه دولة العصبية الدينية التي تحتكر هداية الله ورحمته لسلالة واحدة من أبناء آدم وحواء، وأول جيل عمَّت فيه الدَّعوة إلى هداية إلهية تُحيط بكل من يهتدي من بني الإنسان، فلم تنقضِ أربعون سنة حتى تداعت ديانة الأثرة العصبية، وتداعى الهيكل الذي اعتصمت به وتجددت فيه، ثُمَّ قامت للضمير الإنساني دعوة حيَّة تبسط نورها كما ينبسط نور الشمس لكل ناظر وكل مُتطلع، ولحكمة ما ألهم داعيها أنْ يتسمَّى كلَّما تكلَّم عن نفسه بابن الإنسان.