ردٌّ وتعقيب
وعندنا أنَّ المؤلفين أصحاب هذه النظرية في غنى عن العناء والعنت في تأويل الكلمات أو التنقيب عن الصحائف المطوية، إذا كان قصاراهم أن يثبتوا أنَّ الدعوة المسيحية ابتدأت بتوجيه الخطاب إلى الأمة التي تدين بالتوراة وتترقب ظهور المسيح المخلص من بين أبنائها، وأنَّهم كذلك في غنى عن العناء والعنت إذا أرادوا أن يثبتوا أنَّ القائمين بدعوة الأمم قد اتخذوا لهم أسلوبًا في الدعوة غير الذي يتفاهم عليه بنو إسرائيل الذين يقرءون الكتب ويعتقدون بما فيها من النبوءات، وأنَّ رسل الدعوة المسيحية إلى الأمم قد وصفوا السيد المسيح بصفات لم يتصف بها السيد المسيح في كلامه الذي نقلته عنه الأناجيل.
كل أولئك لا حاجة بهم إلى العناء والعنت لاستنباط الأدلة عليه من مضامين الأقوال أو طوايا الصحف المنسية، ولكنَّ هؤلاء المؤلفين أصحاب هذه النظريات يكلفون براهينهم عنتًا شديدًا إذا حاولوا أن ينكروا أنَّ دعوة الأمم قد بدأت في عهد السيد المسيح، وأنَّ التلاميذ والرسل تعلموا منه أنْ يشملوا الأمم بدعوته، ولا يقصروها آخر الأمر على بني إسرائيل، فلم تتواتر أخبار الأناجيل على شيء كما تواترت على هذه الأخبار في مواضعها وفي مناسباتها المعقولة، ولم تأتِ الأناجيل في هذه الأخبار إلا بالنتيجة الطبيعية التي يعززها سياق الحوادث، ويستلهم منها منطق الأشياء كما نقول في مصطلحاتنا الحديثة. وماذا كان السيد المسيح صانعًا بعد رفض القوم دعوته وإصرارهم على رفضها إلا أنْ يتجه برسالته إلى غيرهم، أو أنْ يكفَّ عن هذه الرسالة ويعدل عنها بتاتًا، فيعدل عنها التلاميذ والرسل، ولا يتجهوا بها إلى الأمم ولا إلى إسرائيل؟
ولا يفوتن المؤلفين أصحاب هذه النظرية أنَّ الرسل الذين بشروا الأمم بالمسيحية هم الدعاة الذين احتملوا أشد العذاب في سبيلها، وهم الذين صمدوا لها بعد أنْ تفوقَ دعاة المسيحية في بيت المقدس، ومن يفعل ذلك لا بد أن يكون معتقدًا لما يدعو إليه، ولا يكون مبلغه من العقيدة أنَّه يحتال لاجتذاب السامعين إليه بأسلوب غير الأسلوب المألوف عند بني إسرائيل. فكيفما كان مرجع هذه العقيدة، فالرسل الذين أعلنوها بين الأمم قد صدقوها قبل أن يدعوا الناس إلى تصديقها، وقد اطمأنوا إليها قبل أنْ يروضوا النَّاس على ابتغاء الطمأنينة فيها.
وبعد فنحن لا نستغرب الضجة التي أثارها المؤلفون بما ابتدعوه معتمدين على أسانيدهم التاريخية، أو على طريقتهم في تكملة التاريخ بتنسيق الصور الفنية من وحي القريحة أو من وحي الخيال، إلا أنَّنا نعود إلى أنفسنا فلا نرى أنَّ هؤلاء المؤلفين قد أطلعونا على رأي طارئ يدعونا إلى تعديل شيء جوهري في الصورة التي أوضحت أمامنا لرسالة السيد المسيح عندما استجمعنا خواطرنا ومعلوماتنا لتأليف هذا الكتاب، ويسرنا أنَّنا نُعيده اليوم في طبعته الثانية كما بدأناه في طبعته الأولى بغير تعديل يُذكر إلا ما كان من قبيل المطبعيات والتصحيفات. ويسرنا قبل ذلك أنَّنا لقينا من قرائنا عرفانًا مشكورًا نغتبط به، ويغتبط به كل من مارس التأليف في هذا الموضوع الجليل على التخصيص، ولا نعلم أنَّ منهجنا في الكتابة عن «السيد المسيح» قد لقي من أحد استنكارًا يحسبه الكاتب أو القارئ في حساب النقد المفهوم، وكل ما هنالك أنَّ بعضهم ظنَّ أنَّ التأليف عن السيد المسيح يقتضي منا أنْ ندين بالمسيحية أو ندين بجميع مذاهبها في وقت واحد، ولم يقل أحد إنَّنا إذا كتبنا عن برهما وجب أن نكون برهميين، أو كتبنا عن أديان الأمم وجب أنْ ننتقل فيها من دين إلى دين، ولو وجب ذلك على باحث لما كتبت تواريخ الأديان، ولا تواريخ الدعاة إليها ممن يتفقون في الملة الواحدة، أو لا يتفقون، بل لو وجب ذلك لما كتب عن الشرق إلا المشارقة، ولا كتب عن أوربة إلا الأوربيون، ولا كتب عن الماضي إلا من كان فيه، ولا عن المستقبل إلا مولود من بنيه، ولا وجوب لشرط من هذه الشروط المفروضة في حكم من أحكام النقد المفهوم.
وإنصافًا لكثرة القراء الغالبة، نقول إنهم من الوفرة بحيث تحسب هذه القلة إلى جانبها بحساب النسبة إلى الألف؛ لأنَّها أندر من أنْ تحسب النسبة إلى المائة، وإنَّما تصادفها على نسبة متفاوتة في شعب شتَّى من المطالعات التاريخية الدينية، فربما كتبنا عن الخلفاء الراشدين كلامًا لم يعجب أفرادًا من الشيعة، أو كتبنا عن معاوية بن أبي سفيان كلامًا لم يعجب أفرادًا من غيرها، ولكن العبرة من وراء هؤلاء بالقراء الذين يقرءون ما يوافقهم وما يخالفهم ولا يرضيهم من الكاتب أن يعطيهم نسخة مكررة مما في ضمائرهم وخواطرهم، وبين أيدي هؤلاء القراء قدمنا الطبعة الأولى من هذا الكتاب، ونقدم الآن طبعته الثانية على بركة الله.