النبوة بين بني إسرائيل
من تمام العلم باستعداد عصر الميلاد لدعوات النبوءة أنْ نلمَّ بأحوال النبوءة في الشعب الإسرائيلي منذ تكاثر عدده، وتنوعت أعمال الرئاسة والتعليم بين قبائله وأسباطه، فإنَّ أحوال النبوءة في ذلك الشعب لم تكن على الصورة التي تسبق إلى خواطرنا من النظر في تواريخ كبار الأنبياء، وتواريخ الفترات التي مضت بين عهودهم في الأمم المتعددة.
فنحن اليوم نستهول دعوة النبوءة، ونعلم عن يقين أنَّ الذي يقدم على ادعاء النبوءة في عصرنا هذا يقدم على خارقة مستغربة، ويعرض نفسه لاتهام المتدينين قبل المنكرين والملحدين؛ لأنَّ أتباع الأديان يؤمنون بختام النبوءات، أو يؤمنون بأنَّ النبي الجديد ينتقص عقائدهم، ويزعم لنفسه أنْ يُعلمهم ما لم يعلموه من كتبهم وأقوال أنبيائهم، أمَّا المنكرون والملحدون، فهم لا يقبلون دعوى النبوءة في هذا العصر، ولا في غيره من العصور.
ونحن اليوم نعلم أنَّ الفترة بين إبراهيم وموسى، وبين موسى وعيسى، وبين عيسى ومحمد — صلوات الله عليهم — قد طالت حتى حسبت بمئات السنين، ففي اعتقادنا على الدوام أنَّ ظهور الأنبياء حادث جلل لا يتكرر في كل جيل، ولا يراه الإنسان في عمره مرتين.
ونحن اليوم نعلم من تواريخ كبار الأنبياء أنَّهم أقدموا على مصاعب تخفيف المقدمين عليها، وشقوا بدعوتهم طرقًا لا يسهل تذليلها؛ لأنَّهم حطموا آلهة، وسفهوا أحلامًا، وغيَّروا العقائد التي درجت عليها الأمم عصورًا بعد عصور، وأقاموا عليها سلطان ذوي السلطان، كما أقاموا عليها شرائع الحاكمين والمحكومين، كذلك صنع محمد، وكذلك صنع موسى — عليهما السلام — فمن تولى الهداية إلى دعوة على هذا النحو فهو متعرض للعدوان والبغضاء، مقتحم على الناس طريقًا لا يقبلون اقتحامه من أحد، ولا يرون أحدًا يقتحمه عليهم إلا أعنتوه، وأقاموا له العراقيل.
أما أحوال النبوءة في بني إسرائيل فينبغي أن نتصورها على غير هذا النحو؛ لأنَّها تُخالفه من جملة وجوه.
فأول ما هنالك من الفوارق أنَّ الأنبياء في بني إسرائيل لم يكن وجودهم نُدرة، ولم يكن بينهم فترة، أو لم يكن حتمًا لزامًا أنْ تكون بينهم فترة، فقد يوجد منهم في العصر الواحد أربعمائة نبي، كما جاء في سفر الملوك الأول، حيث جمع ملك إسرائيل «الأنبياء نحو أربعمائة رجل وسألهم: أأذهب إلى رامة جلعاد للقتال؟»
وخير ما ورد في وصف مكان الأنبياء بين بني إسرائيل قول النبي «محمد» — صلوات الله عليه: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل».
فقد كان عمل النبي في شعب إسرائيل كعمل العالم الفقيه في الأمة الإسلامية، ولم يكن من المستغرب أن يسمع بهم الخاصة أو العامة في وقت من الأوقات، ولم يكن قيامهم إنكارًا لقيام الأنبياء من قبلهم، بل هو تفسير للكتب والنذر، وحضٌّ على اتباع السنن التي رسمها لهم من قبل إبراهيم وموسى ويعقوب وغيرهم من الأنبياء السابقين، بل كانوا يعلمون من كتب العهد القديم أنَّ الله وعد إسرائيل «أن يقيم أنبياء مثله ويجعل كلامه في أفوههم (١٨ تثنية)، وأنَّ بعض هؤلاء الأنبياء قد يتحدث إلى النَّاس بكلام غير كلام الوحي فعليهم أن ينبذوه»، «وإن قلت في قلبك كيف تعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب فاعلم أنَّ ما تكلم به النبي باسم الرب، ولم يحدث ولم يصر، فهذا كلام لم يتكلم به الرب … فلا تخف منه.»
بل يجوز أحيانًا أنْ تصدق الأقوال والعلامات، ولا يجوز للشعب أن يستمع إلى وصايا الأنبياء إذا دعوه إلى عبادة رب غير إله إسرائيل، فإذا قام في وسطك نبي أو صاحب رؤيا وأعطاك آية أو أعجوبة، فلا تسمع لكلام ذلك النبي أو صاحب الرؤيا إنْ دعاك إلى عبادة آلهة أخرى لم تعرفها وتعبدها ولو صدقت الأعجوبة أو الآية … (١٣ تثنية).
ولم تكن النبوءة بإذن من ذوي السلطان، أمراء كانوا أو كهانًا أو شيوخًا مُطاعين في القبيلة، بل يمتلئ يقين الإنسان بالإيحاء إليه فيمضي في تبليغ وحيه ولا يقوى أحيانًا على كف لسانه كما قال أرميا: «قد أقنعتني يا رب فاقتنعت، وألححت علي فغلبت، صرت أضحوكة وهزءًا … وكلمة الرب جللتني بالعار والسخرية … فقلت لا أذكره، ولا أنطق باسمه بعد، فكان في قلبي كأنه نار محرقة محصورة في عظامي … فلم تكن لي طاقة بالسكوت» (٢٠ أرميا).
وكثيرًا ما كان النبي ينحى على زملائه في عصره ويخالفهم في تفسير النذر من ربه، كما قال أرميا: «من عند أنبياء أورشليم خرج نفاق إلى الأرض كلها … فلا تسمعوا كلام الأنبياء الذين يتنبَّئُون لكم، فإنهم يُبطلون عملكم ويتكلمون برؤيا قلوبهم.»
أو كما قال ميخا لملك إسرائيل: «هو ذا الرب قد جعل الروح كذلك في أفواه جميع أنبيائك هؤلاء.»
قال هذا فتصدى له صدقيا بن كنعانة «وضرب ميخا على الفك وقال له: من أين عبر روح الرب مني ليكلمك؟»
وكان المعهود في الأنبياء كما روت كتب التوراة أنْ يطلب أنبياء إسرائيل حالة الكشف كما يطلبها المتصوفون والنساك فيما علمناه من أخبارهم المتواترة، فمنهم من يصوم ويتهجد ويمسك عن فضول العيش، ويلتمس المنازه والأنهار، كما قال دنيال: «لم آكل طعامًا شهيًّا، ولم يدخل في فمي لحم ولا خمر، ولم أَدَّهِن حتى تمت ثلاثة أسابيع، وفي اليوم الرابع والعشرين من الشَّهر الأول، إذ كنت إلى جانب النهر العظيم دجلة، رفعت عيني ونظرت.»
بل منهم من كان يستعين بالسماع؛ ليشعر بصفاء الروح، ويستلهم الغيب، كما جاء في سفر صمويل الأول: «إنَّك تُصادف زمرة من الأنبياء يهبطون من الأكمة، أمامهم رباب ودف وناي وعود، وهم يتنبئون فيحل عليك روح الرب» (٩ صمويل أول).
أو كما جاء في سفر الملوك الثاني: «فقال اليشع حي رب الجنود … الآن فأتوني بعواد … فلمَّا ضرب العواد بالعود كانت عليه يد الرب.»
ولكنَّ الأغلب مع هذا أنَّهم كانوا يرتادون الخلوات، وينقطعون في جوانب الأنهار «عند نهر خابور انفتحت فرأيت رؤى الله» (حزقيال).
ولا يمتنع عندهم أن يلهم الله بالرؤيا الصالحة أو الدليل البيِّن إنسانًا من غير الأنبياء، ومن غير شعب إسرائيل، كما ألهم أبيمالك وبلعام، ولكنَّهم يلهمون ليعرفوا بأنفسهم حق الأنبياء والمرسلين.
وكان الغالب على سامعي النبوءات أنْ يطلبوا آية يعلمون بها أنَّ المُتكلِّم ينطق بوحي من الله، ولكن طلب الآية لم يكن عندهم دليلًا على اليقين والإيمان، وربما أذن للنبي أنْ يطلب الآية، ويُمعن في طلبها، فنرى من الأدب ألا يجرب ربه بدليل هذه الآيات (٧ أشعيا).
على أنَّهم كانوا يلجَئون إلى الأنبياء يستشيرونهم قبل الحرب، أو الرحلة، أو الإقامة؛ لعلمهم أنَّهم أقرب إلى الله، وأدنى أن يطلعوا على الغيب المحجوب عن أنظار الدنيويين المنغمسين في هموم الحياة، ومن هؤلاء الأنبياء من كان يستمع الوحي صوتًا عاليًا، ومن كان يحسه إلهامًا، أو هدية، أو رؤيا صالحة، وغالبًا ما كانوا يقصرون رسالتهم على النذير بالعقاب كلما خرج الشعب على الأقدمين وانحرف عن سواء العبادة كما تلقاها آباؤهم من الأنبياء السابقين، فلم تكن النبوءة اقتحامًا ولا بدعة مستغربة، ولم يكن فيها خطر على النبي إلا حين يتصدى للملوك والأمراء، فيأخذ عليهم مخالفة الشريعة، أو مخالفة المأثور عن السلف، ومن هؤلاء الملوك والأمراء من كان يعمد إلى التنكيل بالنبي في هذه الحالة؛ ليثبت للناس كذبه وأنَّه لم يأت من عند الله، إذ كان موت النبي الكاذب إحدى العلامات على بطلان دعواه.
ولعلنا نصف الحالة حق وصفها حين نقول: إنَّ القوم كانوا يبحثون عن الأنبياء، ويترقبونهم، ولا يعتبرون ظهورهم خارقة يستهولونها، أو يستغربون تكرارها، وأنَّ الإنسان المتهيئ للنبوءة كان يخشى أن يسكت عن الدعوة متى جاشت ضمائره بحوافزها، وألحت عليه أيامًا بعد أيام، حتى يصبح السكوت في حكم سريرته عصيانًا لأمر الله ونكولًا عن إرادته، ومتى استقر في سريرته أن طلب الآية تجربة لله، وضعف في الإيمان، فأسلم الأمور عنده حيث تجيش نفسه بروح الله أن ينذر ويبشر، وعلى الله بعد ذلك أن يثبت نبوءته، وأن يهديه ويهدي الناس إليه كما يشاء.
وفي عصر الميلاد، ذلك العصر الذي ترقبت فيه النفوس بشائر الدعوة الإلهية من كل جانب، كما يترقب الراصدون كوكبًا حان موعد طلوعه؛ لا جرم تتفتح الآذان لصوت المبشر الموعود، ولا جرم كذلك أنْ يكون البرهان المطلوب منه على قدر الرجاء في الخير المنتظر، وأن يمتحنه الناس، فيعسروا غاية العسر في امتحانه، خوفًا من سهولة الدعوى على الأدعياء، وخوفًا من بطلان الرجاء في إبان اللهفة على الرجاء، فهو رجاء عظيم يُعلِّقه المرتجون على برهان عظيم.