الحياة الفكرية في عصر الميلاد
كانت المذاهب الفكرية التي يتحدث بها المثقفون شائعة في بلاد الجليل، حيث ولد السيد المسيح، وحيث اختلط الغربيون والشرقيون كثيرًا قبل عصر الميلاد ببضعة قرون، وأكثرها الفيثاغورية والأبيقورية والرواقية، وهي التي تعنينا فضلًا عن شهرتها؛ لأنَّها هي المذاهب التي تتصل بالسلوك والاعتقاد، ومنها مذهبان ظهرا بين اليونان في عصر يُشبه عندهم العصر الذي وُلد فيه السيد المسيح، وهما الأبيقورية والرواقية، فإنَّ هذين المذهبين — على تناقضهما — رد فعل لحالة واحدة غمرت البلاد اليونانية بعد انتصارها على الدولة الفارسية، وهي حالة الترف والبذخ واللهو والطغيان من جانب السادة، وحالة النقمة من جانب العبيد والمسخرين.
وهذه المذاهب الثلاثة تتلاقى في غاية واحدة هي طلب السكينة والراحة، إلا أنَّ الفيثاغورية التي ظهرت قبل عصر الترف والسلطان، كانت أقرب إلى الروحانية والمزج بين عقائد الأمم المختلفة من اليونان والمصريين والفرس والهنود، وهي جميعًا أقرب إلى النشأة الشرقية؛ لأنَّها نشأت بين قبرص وآسيا الصغرى.
وقد كان أتباع فيثاغوراس طائفة تجتمع في «أخوة» ذات شعائر وصلوات، بعضها معقول وبعضها من قبيل المحظورات والمحرمات التي تشيع بين القبائل البدائية، وتستوجب عندها عادات مقدسة، أو امتناعًا عن بعض العادات، وقد كانوا يعتقدون في رئيسهم فيثاغوراس أنَّه ابن الإله «أبولون»، وأنه لم يمت، وسيبعث بعد حين؛ لأنهم يُؤمنون كأهل الهند بتناسخ الأرواح، وأنَّ الروح في الجسد غريبة تلتمس الفكاك، ولا فكاك لها بغير صالح الأعمال، وهم يحرمون أكل الحيوان، ويحرمون كذلك أكل الفول، ويستحسنون اجتناب البقول على العموم، ومن محرماتهم العجيبة ألا يأكلوا من رغيف صحيح، وألا يلتقطوا شيئًا وقع على الأرض، ولا يقطعوا الزهر من الشجر، ولا ينظروا في المرآة إلى جانب النور، ومنهم من كان يعظ الحيوانات؛ لأنَّهم يؤمنون أنَّهم يُخاطبون أرواحًا تسكنها إلى حين، وعندهم أنَّ الناس درجات؛ بشر وأنصاف من بشر وآلهة، وفيثاغوراس أحد هؤلاء.
وكان فيثاغوراس يقبل الرجل والنساء في أخوته، ويوجب المشاركة في الأقوات والمقتنيات التي تصل إلى أيدي الجماعة، ويؤمن أتباعه بعد موته بأنَّه يُلهمهم الكشوف العلمية، ويلقنهم عظات الحكمة والخلائق الحسنة، وأنَّ الحياة كانت «فرجة» عنده، وهي كذلك عند من يشبهونه، فالعالم في رأي الفيثاغوريين كساحة الألعاب الأولمبية، يقصدها أناس للتكسب وهم أخس الزائرين، ويقصدها أناس للمباراة وهم فوق ذلك، ويقصدها أناس للفرجة وهم أرقى منهم جميعًا، وكذلك الفلاسفة الذين يزورون العالم للتأمل والنظر هم أرفع المتكسبين والمتنازعين على جوائز الميدان.
وقيل إنَّ لهم أغراضًا سياسية، وإنَّهم كانوا يتآمرون على الدولة في اجتماعاتهم السرية، وقد عاش فيثاغوراس في القرن السادس قبل الميلاد، وساح في بقاع العالم المعمور كله، وبقيت نحلته، أو أخوته في جميع الأقطار، ولا سيما الأقطار التي أقام فيها اليونان المستشرقون.
أما الأبيقورية والرواقية فقد ظهرتا في عصر واحد، وانتشرتا بين المثقفين في جميع أنحاء العالم المعمور، ويبدو عليهما أنَّها متناقضتان، ولكنهما في الواقع متقاربتان أو يمكن أن تتقاربا عملًا على حسب التفسير والسلوك في المعيشة.
نشأ أبيقور بين القرن الرابع والقرن الثالث قبل الميلاد، ووُلِد — على القول الأشهر — في جزيرة ساموس على مقربة من شواطئ آسيا الصغرى، ولاذ بآسيا الصغرى مع أهله هربًا من الاضطهاد، وقد أقبل على دراسة الفلسفة وهو في نحو الرابعة عشرة، وافتتح مدرسته في حديقته المشهورة بأثينا سنة ٣١١ قبل الميلاد، وهو في نحو الثلاثين.
وإذا قيست فلسفة أبيقور على معيشته الشخصية فهي حياة نساك متقشفين؛ لأنَّه كان يقضي معظم أيامه على الخبز والماء، أو على الخبز والجبن، لكن اسمه اقترن باللذات والشهوات؛ لأنَّه كان يُعلِّم تلاميذه أنَّ السرور هو غاية الحياة، وأفضل السرور ما لم يعقب ألمًا ولا ندمًا، ولهذا كان يجتنب الشهوات البهيمية، ويجعلها من قبيل السرور «المتحرك»، وهو السرور الذي يقترن بالجهد ويعقب الندامة والعناء، وقد كان يقسم السرور إلى نوعين: سرور متحرك، وسرور مستقر أو ساكن، وأفضلهما كما تقدم سرور السكينة والاستقرار، ويعني به سرور التأمل والراحة والقناعة.
وكان أبيقور يقبل في مدرسته العبيد والراقصات والمأجورات، ولا يرى حرجًا في طلب السرور، حيث يوجد بريئًا من الألم والندم، بل لا يرى كيف يتخيل الحكيم «الخير» إذا أخرج من حسابه مسرات الذوق والنظر والسماع، ومن أعرض عن سرور يستطيعه في غير ألم ولا ندم فهو أحمق وليس بحكيم.
وقد أنحى أبيقور على الديانات اليونانية وغيرها من ديانات زمانه أنَّها محشوة بالخرافات والأكاذيب، وعلَّم تلاميذه أنَّ الآلهة موجودة، ولكنها مشغولة بسعادتها عن شئون الدنيا، فلا قدر لها فيها ولا قضاء، ولا فرق عنده بين الأرباب والمخلوقات إلا في لطافة المادة ونقاوة التركيب، فكلها من المادة وليس لغير المادة وجود.
ومن هنا كان يقبل كل تفسير لظواهر الوجود يرجع بها إلى الأسباب الطبيعية، ويرفض كل ما كان مرجعه إلى الأرباب والغيوب، ويواجه الموت نفسه على مذهبه في السرور والألم، فإن لم يكن في الموت مسرة فهو خلاص من آلام الحياة، ولهذا شاع مذهب أبيقور في عصور الشك والسآمة وفقدان اليقين والإيمان بالعناية، وفضله المكذبون بالديانات على مذهب الرواقيين؛ لأنَّ الأبيقورية — خلافًا للرواقية — لا تعفي أصحابها من التكاليف، ولا تفرض على عقولهم أو ضمائرهم واجبًا يثقل على كواهلهم، ولكنَّها مع هذا كانت تجمع قواعدها ووصاياها في أصول منظومة أشبه بالأوراد الدينية، التي يستظهرها المريد ويترسمها ترسم الإيمان والعبادة.
•••
وإذا أردنا تلخيص المذهب الرواقي في كلمتين اثنتين، فهاتان الكلمتان هما الصبر والعفة.
الصبر على الشدائد، والعفة عن الشهوات، ولا سعادة للإنسان من غير نفسه وضميره، فمن راض نفسه على مغالبة الألم والحزن، وقمع الشهوة والهوى، فقد بلغ غاية السعادة المقدورة لأبناء الفناء، وهم يؤمنون بالقدر ويعتقدون أنَّ الكون كله نظام متناسق يجري على حسب المشيئة الإلهية، والوحي والرؤيا والفأل وطوالع النجوم من وسائل العلم بأسراره وخفاياه، ويلتقي الإنسان بالعقل مع الآلهة، وبالجسد مع الحيوان الأعجم، وفضيلته الإنسانية هي أنْ يطيع العقل، ويعصي الجسد، وعصيانه الجسد هو مقاومة الشهوات، وطاعته العقل هي طلب المعرفة، وسعادة الإنسان كلها هي السعادة التي تتهيأ له من الاستغناء عن الشهوة، وتحصيل العلم، فما زاد على ذلك من السعادة فهو وَهْمٌ لا يدرك، أو هو فضول لا خير فيه.
وقد نشأ الرواقيون الأول ماديين يُؤمنون بأنَّ الوجود كله أصل واحد، ولكنَّهم تدرجوا في الروحانية، وانتهى خلفاؤهم في عصر الميلاد وما بعده إلى الإيمان بحرية الروح في مواجهة المادة، فالإله الأكبر «زيوس» لا يستطيع أن يجعل الجسد حرًّا من قيود المادة، ولكنَّه يُعطينا قبسًا من روحه الإلهية نصبح بنعمته إخوانًا، لا يفرق بينهم وطن ولا جنس ولا لغة، وأينما يكونوا فهم مع الله، لا حاجة بهم إلى هيكل أو معبد، فإنما القداسة في النفس التي تعبد، وليست القداسة في مكان للعبادة يصنعه البناء والحداد، ومن صلواتهم الصلاة المشهورة التي أثرت عن زعيمهم كليانتس قبل الميلاد (٣١٠–٣٣٠) حيث يُناجي زيوس قائلًا: «اهدني يا زيوس. أيها القدر، خذ بيدي إلى حيث أردت أن ترسلني، خذ بيدي أتبعك غير ناكص ولا وجل، فإن خامرني للريب فأحجمت وتريثت فمن اتباعك لا مهرب لي ولا نجاة.»
ويتبع الرواقي طريق القدر؛ لأنَّه هو الخير وليس هو الضرورة وكفى، فإنَّ الإله الأكبر لا يريد شرًّا ولا يخلقه، وما هذه الشرور التي في الدنيا إلا نقائض محتومة يستلزمها وجود الخير، ولا يعقل الخير بغيرها، فلا محل للراحة بغير التعب، ولا محل للشبع بغير الجوع، ولا محل للرحمة بغير القسوة، وإذا كانت القسوة رذيلة فالرحمة التي تسلم النفس للحزن والغم ليست بالفضيلة الإلهية، وإنما تكون الرحمة فضيلة إذا تبصرت كما يتبصر الإله في قضائه، فتنكر القسوة، ولا تخضع للحزن والغم بغير حيلة، فإنَّ الحكيم يحمل في حكمته ترياق كل سم، ودواء كل بلاء.
وقد أخذ الرواقيون من الهند — بسبيل فيثاغوراس على ما يظهر — أنَّ العالم ينقضي ويعود في دورات أبدية لا تعرف لها نهاية، واعتقد بعضهم أنَّ أراوح الحكماء تبقى في كل دورة إلى نهايتها، ثم يشملها ما يشمل العالم كله من حريق النار الأبدية، وهي النَّار التي تطهر جميع الموجودات لتخلص من أوشابها، ثُمَّ تعود دواليك في وجود بعد وجود، وعالم بعد عالم، وقيامة بعد قيامة.
ويتفق مؤرخو الفلسفة على قوة الأثر الذي أعقبته المذاهب الرواقية في العالم الروماني إلى أقصى أطرافه، وتظهر قوة هذا الأثر وسعة مداه من اتساعه لتبشير الملوك والأرقاء بعد ظهور إمامه الأول — زينون — بنحو أربعة قرون، فكان من أئمته العبد الرقيق إبيكتيتس (٦٠–١٠٠ بعد الميلاد) والإمبراطور الكبير ماركس أورليوس (١٢١–١٨٠ بعد الميلاد)، وفاخر بالانتماء إلى هذا المذهب قادة ورؤساء من الذين زاروا الشرق وأقاموا فيه.
أما فلسطين خاصة حيث ولد السيد المسيح، فقد كان هذا المذهب ومذهب الأبيقوريين يتقاسمان فيها أفكار المتدينين وغير المتدينين، وتغلغل المذهبان بين الطوائف الإسرائيلية؛ كأنهما زيان من أزياء الثقافة التي يتراءى بها أدعياء العلم والمدنية، فكان الصدوقيون يميلون إلى الأبيقورية، وكان الفريسيون يأخذون بالحكمة الرواقية على كراهتهم للتشبه بالأجانب، ولكنَّ شيوع الأقطاب الشرقيين بين الرواقيين كان يصبغ نحلتهم بالصبغة الوطنية التي لا يتحرج الفريسيون من محاكاتها تمشيًا مع نزعتهم إلى التجديد.
وقد كان فيلون رواقيًّا على حافة الأبيقورية، فقال في كلامه عن إبراهيم مفسرًا اسم إسحاق: «إن معنى إسحاق في لغتنا الضاحك، ولكنَّ الضحك هنا غير الضحك الذي يأتي من سرور الجسد، فهو سرور المعرفة الصالحة، هذا هو الفرح، هذا الفرح الذي روي لنا أنَّ الحكيم إبراهام قدمه قُربانا إلى الله، مُبينا ذلك في هذا الرمز أنَّ الفرح على صلة وثيقة بالله وحده، إذ الإنسان عُرضة للحُزن والخوف من الشرور الحاضرة والمتوقعة، وليس الحزن ولا الخوف من طبيعة الله.»
ومذهب فيلون في الصلاة أنَّ الإنسان يُصلِّي شكرًا لله على ما في الكون كله وخلائقه كلها، ومنها بنو آدم جميعًا رجالًا ونساءً ويونان وبرابرة، ومنها ذات المصلى جسدًا وروحًا ومنطقًا وعقلًا وحسًّا، فإنَّ الصلاة على هذا المثال جديرة أن تُستجاب.
وينقسم الإنسان عند فيلون إلى ثلاثة أقسام: وليد الأرض، ووليد السماء، ووليد الله؛ فوليد الأرض من يطلب متاع الجسد، ووليد السماء من يطلب متاع الفكر، ووليد الله من تَجرَّد عن الدنيا، وأقبل بجملته على عالم فوق هذا العالم معصوم من الفناء براء من المادة، في زمرة الهداة والمرسلين.
وليس فيلون من دعاة العزلة في الصوامع؛ لأنَّ اختلاف المكان لا يصنع شيئًا، وإنَّما الخير كله من الله حيث كان، وهو كائن في كل مكان يهدي ركاب الروح إلى حيث يشاء.
كذلك لم يكن يستعظم ضحية القرابين كما قال في كلامه عن الشرائع الخاصة: «إنَّ الله لا يفرح بالضحايا ولو حُسبت بالمئات؛ لأنَّه مالك كل شيء، ومُعطي النَّاس كل شيء ومن عطاياه تلك الضحايا، وقد يكون التقرب بخبز الشعير أقوم عنده من التقرب بالنفائس والذخائر، بل من تقدم إليه بنفسه لا يحتقب شيئًا غير الصدق وخلوص النية، أكرمُ عنده ممن يبذل الأموال ويسيء الأقوال والفعال.»
وقد كان فيلون عالميًّا يُخاطب بني الإنسان كافة، وكان يقول إنَّ إسرائيل إنَّما سمي بهذا الاسم لأنَّه ينظر إلى الله، فكل ناظر إلى الله إسرائيل. ولكنَّ هذه الدعوة العالمية لم تصرفه قط عن العصبية القومية، ولم ينسَ قط في كلامه عن بني إسرائيل أنَّهم هداة الأمم، وأنَّهم أحق عشائر الإنسان بإعجاب جميع العشائر، فإنَّ الآثينيين يرفضون شعائر اللقدمونيين، كما يرفض اللقدمونيون شعائر الآثينيين، ولم يعهد في المصريين أنَّهم يأخذون بتقاليد السيثيين، أو في السيثيين أنهم يأخذون بتقاليد المصريين، وأهل أوربة يعرضون عن عادات أهل آسيا، وأهل آسيا يعرضون عن عادات أهل أوربة، ولكن اليوم السابع الذي يستريح فيه اليهود مرعي الحرمة عند جميع الأقوام، ويوم الكفارة من كل سنة أقدس من الشهر الحرام في عرف الإغريق؛ إذ هو شهر يبطل فيه القتال، ولكنَّه يغري الناس بالإفراط في الشراب والطعام وشهوات الأجسام، وشتان هذا من موسم الصيام عند بني إسرائيل.
يقول هذا عن قومه، في كلامه عن حياة موسى — عليه السلام — ولكنَّه يقول في كلامه عن الشرائع الخاصة إنَّ إسرائيل بين الأمم كاليتيم المضيع بين الغرباء، لا يأخذ بناصرهم أحد إذا تألبت الأقوام وتعصبت العشائر، وذنبهم عند النَّاس أنَّهم يدينون أنفسهم بالفرائض الصارمة، ويتزمتون في المعيشة، والصرامة ثقيلة على الطباع، والتزمت بغيض إلى النفوس. ومع هذا يقول لنا موسى إنَّ يُتْمَ إسرائيل يستجلب لها شفقة الله مُدبِّر الكون الذي وقعت إسرائيل من نصيبه، وفرزت من العالم كما تفرز بواكير الثِّمار هدية للخالق والأب الرحيم.
•••
تلك غاية الشوط الذي انتهى إليه فيلون في زمنه، ولا يُعتبر فيلون من الأئمة ذوي الأتباع في الديانة الموسوية، ولكنَّه يُعتبر نموذجًا صالحًا لتلك الديانة كما يفهمها الحكيم المطلع المتدين في أوائل عصر الميلاد.