الباب الأول
(ك١ ب١) أخذ فيلوبون يثبت أن هذا الكتاب متصل جدَّ الاتصال بكتاب السماء،
ودليله الأصلي في ذلك أن كتاب السماء ينتهي بجملة فيها أداة استدراك لا يوجد
معادلها إلا في هذا الكتاب. وهذا الدليل ليس قاطعًا جدًّا، ولكن من المحقق أن
مواد الكتابين مرتبط بعضها ببعض أفضل ارتباط، وأن أرسطو بعدما درس السماء
والخواص العامة للأجرام اللامتغيرة التي تؤلفها أمكنه أن يفكر في إتمام هذه
الدراسة بدراسة الأجسام التي من شأنها في الطبيعة أن تتولَّد وتهلك تابعة في
ذلك قوانين منتظمة. الصلة اللغوية بين الكتابين موجودة كما نبَّه إليه فيلوبون،
ولكن الصلة المنطقية بينهما هي أيضًا أحق.
***
لأجل أن ندرك الكون والفساد في الأشياء التي تتولد وتهلك بالطبع يلزمنا — كما هو
الحال في البقية — أن نقدر على حدة عللها ونسبها، وسننظر أيضًا عند معالجة النمو
والاستحالة ما هي كل واحدة من هاتين الظاهرتين، ونبحث ما إذا كان طبع الكون وطبع
الاستحالة هما واحدًا بعينه أو هما متميزان بالحقيقة كما هما متميزان بالاسم الدال على
كليهما؟
١
من القدماء من رأوا أن ما يسمى كونًا مطلقًا ليس إلا استحالة، والآخرون منهم رأوا
أن
كون الأشياء واستحالتها ظاهرتان مختلفتان؛ فالذين يزعمون أن العالم كُلٌّ ذو صورة واحدة
ويجعلون الأشياء كلها تخرج من مبدأ واحد بعينه هؤلاء يلزمهم بالضرورة أن يروا الكون
مجرد استحالة، وأن يفترضوا أن ما يولد بالمعنى الخاص إنما هو يستحيل. وعلى ضد ذلك الذين
يسلمون بأن المادة تتألف من أكثر من عنصر واحد كأمبيدقل وأنكساغوراس ولوكيبس. هؤلاء يجب
أن يكون لهم رأي مضادٌّ للأول تمامًا.
٢
ومع ذلك فإن أنكساغوراس في هذا قد نكَّر التعبير الخاص وغلب في لغته الخلط بين ولد
وهلك وبين تغير. على أنه يعترف بتعدد العناصر كما يفعل فلاسفة آخرون. كذلك قال أمبيدقل
إن عناصر الأجسام كانت أربعة، وإنه بإضافة العنصرين المحركين يكون المجموع ستة عناصر.
أما أنكساغوراس فإنه ارتأى أنها غير متناهية في العدد كما كان يرى لوكيبس وديمقريطس.
والواقع أن أنكساغوراس كان يعتبر عناصر الأجسام المركبة من أجزاء متماثلة؛ المتشابهة
الأجزاء، مثل العظم واللحم والنخاع وجميع المواد الأخرى التي كل جزء منها مرادف
للكل.
٣
ويزعم ديمقريطس ولوكيبس أن جميع الأجسام مركبة في البداية من أجزاء لا تتجزأ أو ذرات،
وهي غير متناهية لا في عددها ولا في أشكالها، وأن الأجسام لا تختلف في أصلها بعضها عن
بعض إلا بالعناصر التي تتركب منها وبوضع هذه العناصر وترتيبها.
٤
ويظهر هنا أن أنكساغوراس من رأي معارض لرأي أمبيدقل؛ لأن هذا الأخير يقول بأن النار
والماء والهواء والأرض هي الأربعة العناصر، وأنها أبسط من اللحم أو العظم أو أي عنصر
آخر من العناصر المتشابهة فيما بينها أو الأجسام المتشابهة الأجزاء. ولكن أنكساغوراس
على الضد من ذلك يزعم أن الأجسام المتشابهة الأجزاء هي بسيطة، وأنها هي العناصر
الحقيقية بينما أن الأرض والنار والهواء مركبة، وأن جراثيم العناصر منتشرة في كل
مكان.
٥
على ذلك متى أدَّعي أن جميع الأشياء تخرج من عنصر واحد لا غير لزم ضرورة اعتبار كون
الأشياء وفسادها كمجرد استحالة، فيكون إذن الموضوع للظواهر دائمًا واحدًا ودائمًا هو
بعينه. فإنما على موضوع من هذا القبيل يمكن أن يقال إنه يُعاني استحالة، ولكن متى سلَّم
بأنواع متعددة للجواهر وجب التسليم أيضًا بأن الاستحالة تخالف الكون؛ لأن كون الأشياء
وفسادها حينئذ يحصلان باتحاد العناصر أو بافتراقها.
٦
وفي هذا المعنى أمكن لأمبيدقل أن يقول:
ليس لشيء من طبع ثابت، وما الكل إلا اختلاط وافتراق.
هذا تعبير — كما يرى — يلائم تمامًا فرض هؤلاء الفلاسفة، وتلك هي أيضًا طريقة
تعبيرهم. وإذن فإن هؤلاء الفلاسفة أنفسهم مضطرون إلى الاعتراف بأن الاستحالة أمر مخالف
للكون، ومع ذلك فإن من المحال أن توجد استحالة حقيقية على حسب المبادئ التي يقررونها.
على أنه من السهل الاقتناع بصحة الرأي الذي نقرره هنا. فالواقع أنه كما أن الجوهر في
حال السكون نجده يعتريه في ذاته تغير في العظم يسمى النمو والنقص كذلك أيضًا، يمكننا
أن
نشاهد فيه الاستحالة.
٧
ولكن من جهة أخرى ليس أقل من ذلك في باب المحال إيضاح الاستحالة على حسب ما يقوله
الذين يسلمون بأكثر من عنصر واحد؛ لأن التأثُّرات التي تجعلنا نقول بوجود الاستحالة هي
فصول للعناصر، أريد أن أقول، الحار والبارد، والأبيض والأسود، والجاف والرطب، واللين
والصلب، وجميع الخواص الأخرى المشابهة كما يقوله أيضًا أمبيدقل: الشمس في كل مكان بيضاء
مملوءة بالحرارة، وفي كل مكان المطر ينشر غشاءه وبرده.
٨
إنه يقرر المميزات عينها لسائر الأشياء، وينتج من ذلك أنه إذا كان الماء لا يخرج من
النار، ولا الأرض من الماء؛ فإن الأسود لا يمكن أن يخرج من الأبيض، ولا الصلب من اللين.
وهذا التدليل بعينه قد ينطبق على جميع التغيرات الأخرى، وهذا بالضبط إذن ما كان يعني
بالاستحالة.
ولكن أليس من البين أنه يلزم دائمًا افتراض وجود مادة واحدة لا غير لأجل الأضداد،
سواء أتغيرت بالنقلة في الأين أم تغيرت بالنمو أو النقص أم تغيرت بالاستحالة؟ يلزم ألا
يكون إلا عنصر واحد ومادة واحدة بعينها لأجل جميع الكيوف التي تتبدَّل بعضها ببعض. وإذا
كان العنصر واحدًا فهناك أيضًا استحالة.
٩
وعلى ذلك يظهر لنا أن أمبيدقل يناقض الحوادث الأكثر واقعية ويناقض نفسه معًا؛ لأنه
يزعم معًا أن العناصر لا يمكن أن يجيء بعضها من البعض الآخر، بل على الضد يأتي منها
سائر الأشياء، وفي الوقت عينه بعد أن ردَّ إلى الوحدة الطبيعية كلها كاملة ما عدا
التنافر، قد استخرج بعد ذلك كل شيء من الوحدة التي تخيلها. فعلى رأيه الأشياء بانفصالها
عن هذه الوحدة العنصرية بواسطة بعض فصول وبعض تغايير، فهذا الشيء بعينه صار ماءً وآخر
صار نارًا. وبهذه المثابة يسمي الشمس بيضاء حارة والأرض كثيفة صلبة. ولكن متى محيت هذه
الفصول، ويمكن أن تُمحَى ما دامت متولدة في وقت بعينه، أمكن للأرض بالبداهة أن تلاقى
إذن من الماء كما يمكن أيضًا للماء أن يأتي من الأرض. كذلك الحال بالنسبة لجميع الأشياء
الأخرى التي جرى عليها التحول والتغير، لا في الزمن الذي يتكلم عنه فقط، بل التي تتغير
أيضًا في هذا اليوم.
١٠
زد على ذلك أن في مذهب أمبيدقل توجد مبادئ منها يمكن أن تتولد الأشياء وتنفصل من
جديد، وعلى الخصوص متى سلمنا بالتنازع الأبدي المتبادل بين التنافر والعشق، فانظر كيف
أن الأشياء فيما يظهر تتولد إذن من مبدأ واحد؛ لأن النار والماء والأرض وهي لا تزال
مجتمعة لم تكن لتكون كل العالم، ولكنه بهذه النظرية لا يعرف إن كان يلزم الاعتراف بأن
لهن مبدأً واحدًا أو مبادئ متعددة، وأعني بهن الأرض والنار والعناصر التي من هذا
القبيل؛ ذلك بأنه في الواقع من جهة ما يُفتَرض كمادة مبدأ منه تأتي الأرض والنار
متغيرتين بالحركة المتحصلة فإنه لا يوجد إذن إلا عنصر واحد لا غير، ولكن من جهة أن هذا
العنصر عينه هو متحصل من اجتماع هذه الجواهر التي تتَّحِد ينتج أن هذه الجواهر قبل
اجتماعها هي ذواتها أشد عنصرية وسابقة بطبيعتها.
١١
ولكن يلزمنا في دورنا أن نتكلَّم بطريقة عامة على كون الأشياء وفسادها على معناهما
المطلق، وسنعيد البحث فيما إذا كان هذا الكون أو لم يكن، وسنقول كيف يكون هو. ثم نتكلم
أيضًا على الحركات البسيطة كالنمو والاستحالة.
١٢
هوامش