الباب السابع
نأتي إلى ما يختص بالعناصر التي منها الأجسام مركبة. جميع الفلاسفة الذين يقبلون
عنصرًا مشتركًا أو الذين يقبلون أن العناصر تتغير بعضها إلى بعض يجب عليهم بالضرورة أن
يعترفوا أيضًا بأنه إذا تحقق أحد هذين الفرضين تحقق الثاني على السواء. ولكن هؤلاء
الذين لا يريدون أن العناصر يمكن أن يتوالد بعضها من بعض ولا أن يأتي كل واحد من كل
واحد إلا أن يكون كما يجيء اللبن من حائط، هؤلاء إنما يقررون نظرية باطلة؛ لأنه حينئذ
كيف يجعل من هذه العناصر العظام أو اللحوم أو أي جوهر آخر مشابه.١
في الحق أن هذه الصعوبة تبقى، وإلى هؤلاء الذين يقبلون أن العناصر تتوالد يمكن أن
توجه إليهم مسألة كيف تبلغ هذه العناصر أن تكون شيئًا مغايرًا لها أنفسها؟ مثال ذلك إذا
كان من النار يأتي الماء وإذا كان من الماء تأتي النار؛ فذلك لأن بينهما موضوعًا
مشتركًا. ولكن من العناصر يخرج في الحق أيضًا اللحم والنخاع، فكيف تتكون هذه
الجواهر؟٢
بأي وجه يمكنها أن تتكون على حسب نظريات هؤلاء الذين يتبعون مذهب أمبيدقل؟ بالضرورة
ليس بين هذه العناصر إلا جمع كما نجمع مواد حائط يتكون من آجُرٍّ وأحجار. في خليط من
هذا القبيل تبقى العناصر هي ما هي، وتوضع أجزاء أجزاء بعضها إلى جانب البعض الآخر،
وحينئذ على هذا المنوال — بناءً على هذه النظريات — إنما يتكون اللحم وسائر الأشياء
المشابهة له.٣
ولكنه ينتج منه أن النار والماء لا يخرجان ألبتة من جزء كيفما اتفق من أجزاء اللحم،
كما في تصاوير الشمع من هذا الجزء يمكن أن تخرج كرة ومن ذاك يخرج هرم. فكل ما يرى هو
أن
الواحد والآخر من هذين الشكلين يمكن أن يأتي أيضًا على السواء من كل واحد من جزأي
الشمع. وعلى هذا النحو حينئذ أن من اللحم يخرج عنصرا النار والماء، وأنه قد يكونان معًا
من أي جزء اتفق، ولكن مع مبادئ أمبيدقل لا يكون تعبير هذا ممكنًا، ويلزم أن كل عنصر
يأتي من مكان آخر أو من جزء آخر كما في الحائط؛ فإنه من مكان مختلف تأتي الآجرة
والحجر.٤
كذلك الحال أيضًا بالنسبة للفلاسفة الذين لا يقبلون إلا مادة وحيدة لجميع العناصر؛
فإن شأنهم لا يخلو من الحيرة في إيضاح كيف أن جوهرًا يمكن أن يتألَّف من عنصرين مثلًا
من الحار والبارد أو من النار والأرض؛ فإذا كان اللحم يتكوَّن من الاثنين وهو ليس مع
ذلك لا أحدهما ولا الآخر ولا مجرد جمع لهذين العنصرين حافظ لطبعهما الخاص؛ فماذا يبقى
إذن ليقبل إلا أن يكون المركب الذي تكوَّن منهما بهذه الطريقة هو المادة المحضة؟ لأن
فساد أحد العنصرين يكون إما العنصر الآخر وإما المادة.٥
ولكن من حيث إن الحار والبارد يمكن أن يكونا أقوى أو أضعف، فيجب أن يقال إنه متى
كان
أحدهما بالفعل مطلقًا وبالكمال فلا يكون الثاني بعدُ إلا بالقوة. ومتى كان الموضوع ليس
له مطلقًا أحد الكيفين وكان البارد مثلًا هو نصف حار والحار نصف بارد؛ لأن الإفراطين
إلى جهة أو إلى أخرى يتماحيان على طريق التكافؤ بالمزج؛ فحينئذ لا يوجد بالضبط لا مادة
محضة ولا واحد أو الآخر من هذين الضدين الموجودين مطلقًا بالفعل وبالكمال، ولا يوجد
وسيط. ولكن على حسب ما أن أحد الاثنين يمكن أن يكون بالقوة حارًّا أكثر منه باردًا أو
العكس، يكون الجسم في هذه النسبة عينها بالقوة أكثر حرارة أو برودة مرتين أو ثلاث مرات
أو على أية نسبة أخرى.٦
على ذلك كل الأشياء الأخرى تأتي من مزج الأضداد أو العناصر، والعناصر أنفسها تأتي
من
هذه الأضداد التي هي بوجه ما العناصر بالقوة لا كما تكونه المادة، بل بالطريقة التي
ذكرت آنفًا، وبهذه الطريقة تكون النتيجة التي تتحصَّل مزيجًا، في حين أنها بالطريقة
الأخرى إنما هي المادة المحضة.٧
ومع ذلك فإن الأضداد أيضًا هي قابلة على معنى الحد الذي أعطي في بحوثنا الأولى. مثال
ذلك الحار بالفعل هو بارد بالقوة والبارد بالفعل هو حار بالقوة أيضًا، بحيث إنهما لولا
موازنة تامة لتغير أحدهما إلى الآخر. ويجري هذا المجرى في جميع الأضداد الأخرى التي
يراد ذكرها. وعلى هذا النحو إن العناصر بديًا تتغير، ثم إن منها بعد ذلك تأتي اللحوم
والعظام وسائر الجواهر المشابهة، فيصير الحار باردًا والبارد حارًّا بمقدار ما تقترب
من
الحد الوسط؛ فهناك لا يوجد بعد لا أحد الضدين ولا الآخر. فالوسط متعدد وليس قابلًا
للتجزئة. كذلك الأمر أيضًا في السائل واليابس، وإن العناصر الأخرى من هذا القبيل حينما
تكون قد وصلت إلى الوسط تكون اللحم والعظام والجواهر المشار إليها.٨
هوامش
(١) (ب٧ ف١) التي منها الأجسام مركبة: ليس المقصود هنا بعد كون العناصر بعضها من
بعض، بل تركبها لتؤلِّف جميع الأجسام الموجودة في الطبيعة. عنصرًا مشتركًا:
يعني المادة التي بالقوة، وهي العنصر المشترك لجميع الأجسام. أحد هذين الفرضين:
يعني أن العناصر لها مادة مشتركة إذا تغير بعضها إلى بعض، وأنها إذا تغيرت هكذا
فذلك أن لها مادة مشتركة. يجيء اللبن من حائط: فإن اللبن يكون الحائط بما هي
مضاف بعضها إلى بعض وليست مركبة ومتحدة بعضها مع بعض. كذلك العناصر تكون مجموعة
ولا تتحد لتكون الأجسام التي تدخل هي في تركيب. إن المقارنة صحيحة ولكن العبارة
ليست من السعة على ما ينبغي، وهذا المثل الخشن المضروب لا يخلو من بعض الشذوذ.
أو أي جوهر آخر مشابه: يعني متجانس تمامًا. وفي المذهب الذي ينتقده أرسطو لا
تكون العناصر إلا مجموعة بعضها مع بعض وليست متركبة حقيقة.
(٢) أن العناصر تتوالد: هذه هي النظرية المضادة لنظرية أمبيدقل الذي كان يعتقد أن
العناصر غير قابلة للتغير. شيئًا مغايرًا لها أنفسها: بافتراض أن أربعة العناصر
هي أصل لجميع الأجسام التي نشاهدها، وأن الأجسام هي شديدة التميز عن العناصر
التي تكونها. وإنها لمشكلة أن يعرف كيف يمكنها أن تأتي منها. إذا كان من النار
يأتي الماء: ر. ما سبق ب٥ ف٦. من العناصر: عبارة النص غير معينة.
(٣) الذين يتبعون مذهب أمبيدقل: والذين يعتقدون أن العناصر غير قابلة للتغير دون
أن يمكن أن تتغير بعضها إلى بعض. كما تجمع مواد حائط: النص أقل صراحة من آجر
وأحجار؛ فإن المواد مجموعة بعضها إلى بعض مجرد جمع وليست متحدة معًا. بناءً على
هذه النظريات: زدت هذه الكلمات لإتمام الفكرة. وسائر الأشياء المشابهة له: يعني
كل الأشياء التي لتجانسها المطلق لا يمكن أن تميز فيها العناصر التي دخلت في
تأليفها. ويمكن أن تصاغ هذه القضية في صيغة الاستفهام.
(٤) ولكنه ينتج منه: حافظت على لفظ الأصل على تردده. لا يخرجان ألبتة: على تقدير
«معًا»؛ يعني أن النار والماء — مجتمعين مجرد اجتماع — ليسا ألبتة مطلقًا
متحدين في التراكيب التي يركبانها. من جزء كيفما اتفق من أجزاء اللحم: حيث تكون
متماثلة تمام التماثل. في تصاوير الشمع: ليس النص على هذا القدر من الصراحة. من
كل واحد من جزأي الشمع: ليس النص على هذا القدر من الصراحة. أمبيدقل: زدت هذا
الاسم الذي تعينه القرينة. تعبير هذا ممكنًا: ليس النص على هذا القدر من الضبط.
من مكان آخر: التعبير بالمكان معناه هنا الجزء. والمثل الآتي يفهم المعنى
تمامًا؛ فإن الآجرة موضوعة بجانب الحجر، وذلك إنما هو في موضع آخر؛ أي في محل
آخر من الحائط.
(٥) الذين لا يقبلون إلا مادة وحيدة: يظهر أن هذه هي نظرية أرسطو الخاصة؛ لأنه
يقبل أن جميع العناصر يمكن أن تتغير بعضها إلى بعض، ولكنه لا يعتقد أن هذه
النظرية نفسها بمعزل عن كل انتقاد. جوهرًا: عبارة النص هي «شيئًا ما». المادة
المحضة: أضفت كلمة «المحضة» مع أنها ليست في النص، ولكن القرينة كلها تعين هذا
المعنى؛ فإن المادة المحضة هي هنا الهيولي؛ أي المادة بالقوة. أحد العنصرين:
النص أقل صراحة. وأما المادة: على تقدير «بالقوة المحضة»؛ فإن العنصرين
يتماحيان في المركب الذي يؤلِّفانه، ولا يبقى إلا مادة الاثنين في حالة
اللاوجود.
(٦) فيجب أن يقال: من الممكن أن تكون الجملة استفهامية أو تقريرية على السواء.
بالفعل … وبالكمال: ليس في النص إلا كلمة واحدة. مثلًا: زدت هذه الكلمة. إلى
جهة أو إلى أخرى: ليس النص على هذا القدر من الصراحة. مادة محضة: زدت الصفة كما
في الفقرة السابقة. إلا وسيط: ومع ذلك فإن تعيين هذا الوسيط صعب؛ لأنه يتعلَّق
بحساسية كل مشاهد. أحد الاثنين: ليس النص أكثر تعيينًا في العبارة.
(٧) كل الأشياء الأخرى: يعني كل الأجسام المركبة والمختلطة كما نشاهدها في
الطبيعة كلها. بوجه ما العناصر: زدت كلمة «العناصر» أخذًا بشرح فيلوبون. كما
تكونه المادة: التي هي ليست شيئًا إلا بالقوة، وليس لها حقيقة فعلية في حين أن
الأضداد لها تلك الحقيقة الفعلية. التي ذكرت آنفًا: في الفقرة السابقة. مزيجًا:
من جوهرين بالفعل يؤلفان جوهرًا جديدًا بامتزاجهما. المادة المحضة: زدت كلمة
المحضة.
(٨) في بحوثنا الأولى: ر. ما سبق ف٦. ويظن فيلوبون أن المقصود هنا نظرية الفعل
والانفعال المبسوطة في الكتاب الأول، ر. ما سبق ك١ ب٧ ف٥. الحار بالفعل: يمكن
ترجمتها أيضًا «الجسم الذي هو حار بالفعل … إلخ.» البارد بالفعل: أو «الجسم
الذي هو بالفعل وبالحال بارد». لولا موازنة تامة: عبارة النص هي «إن لم يكونا
متساويين.» لتغير أحدهما إلى الآخر: يعني أن أحدهما يمكن أن يحل محل الآخر على
التعاقب بما أن أحد الضدين قد صار كائنًا وأحال الآخر إلى ألا يكون إلا بالقوة.
التي يراد ذكرها: زدت هذه الكلمات. تتغير: بعضها إلى بعض. تأتي اللحوم والعظام:
في هذه الأيام تعترف الكيمياء العضوية كذلك بأن المركبات تأتي من اتحاد الأجسام
البسيطة. غير أن الأجسام البسيطة ليست هي التي كان يقبلها القدماء. والعلم
يمكنه أن يبيِّن بالتحاليل المضبوطة كيف تتألَّف التراكيب. بمقدار: لفظ النص هو
«حينما» … إلخ. الضدين: أضفت هذا اللفظ. الوسط متعدد: ر. في هذه النظرية
الطبيعية ك٨ ب١٢ ف٩ ص٥٣٢ من ترجمتنا، وأيضًا ك٥ ب١ ف١٢ ص٢٨٠. وليس قابلًا
للتجزئة: وذلك ما لا يسمح له بأن يتكيف على التعاقب بكيفيات متضادة. كذلك الأمر
أيضًا في السائل واليابس: يظهر أن هذا تكرير لما سبق بيانه آنفًا على جميع
الأضداد الأخرى.