الباب الأول
هو يقرر أنه إن يكن من شيء فذلك الشيء يجب أن يكون أزليًّا ما دام أنه — على
رأيه — من المحال أبدًا أن يتولَّد شيء من لا شيء. وسواء أكان في الواقع أن
الكل قد خلق أم أن الكل لم يكن يخلق، فيلزم على ذلك من الفرضين أن الأشياء التي
خلقت تكون أخرجت من لاشيء ما دام أنه ما من واحد من جميع الأشياء التي تكوَّنت
على هذا النحو كان يوجد من قبل.
١
وإنه إذا قيل إن من الأشياء ما كان موجودًا من قبل ومنها ما جاء بعد ذلك
لينضم إليه، نتج من ذلك أن الكل الذي هو واحد قد زاد بالعدد وبالكم. وهذا نفسه
الذي به يصير أكثر عددًا وأكبر يجب أن يأتي أولًا من لاشيء؛ لأن الأكثر لا يمكن
أن يكون في الأقل ولا الأكبر في الأصغر.
٢
ومتى كان الكل أزليًّا يجب أن يكون بهذا عينه لامتناهيًا؛ لأنه لا يكون هناك
مبدأ يأتي منه، كما أنه لا يكون له آخر متى بلغه انتهى. وكل متناهٍ يجب ضرورة
أن يكون واحدًا؛ لأنه إذا وجد عدة لامتناهيات بل متناهيان اثنان حدد بعضها
بعضًا على التكافؤ.
٣
ولما كان واحدًا وجب أن يكون متشابهًا في جميع أجزائه؛ لأنه إذا كان غير
متشابه فبهذا وحده لا يكون بعد واحدًا، ولما لم يكن واحدًا كان كثرة. ولما كان
الواحد أزليًّا لا قابلًا لأن يقاس، متشابهًا في جميع أجزائه، وجب أن يكون غير
متحرك؛ لأنه لا يمكن أن يتحرك إلا في شيء ينطلق أمامه، ولكن الانطلاق لا يمكن
أن يكون إلا للذهاب في الملء أو في الخلو؛ فمن جهة الملء لا يمكن بعد أن يقبل
شيئًا ومن جهة أخرى الخلو نفسه ليس شيئًا.
٤
لما كان الواحد هو ما قلنا آنفًا ينتج من ذلك أنه لا يمكن أن يلحقه تعب ولا
ألم، ويجب أن يكون سليمًا وبغير مرض. كما أنه لا يمكن أن يغير وضعه ليتخذ أحسن
منه، ولا أن يتحوَّل ليأخذ نوعًا آخر، ولا أن يختلط بشيء آخر. وفي كل هذه
الأوضاع الواحد يصير كثرة وإذن يكون اللاموجود هو المتولد، والموجود يكون هو
الذي قد فسر بالضرورة.
٥
وكل هذا محال مطلقًا. وفي الحق إذا كان الواحد مقولًا على الخليط لأنه تألف
من عدة أشياء، فيلزم حينئذ أن يكون مسبوقًا بوجود عدة أشياء، وإن هذه الأشياء
تكون قد تحركت بعضها نحو الأخرى. وليس الاختلاط في الواقع إلا تركب عدة أشياء
في شيء واحد، أو إنما هو كجمع بين الأشياء المختلطة عن طريق التصنيف. وعلى هذا
النحو قد تختلط الأشياء لأنها تنفصل بعضها عن الأخرى. ولما أن هذا الجمع يحصل
في سحق الأشياء، فقد يجب أن يوجد جليًّا كل واحد منها برفع الأشياء الأولى التي
اختلطت باقترابها بعضها من بعض، وليس توجد واحدة من هاتين الحالتين.
٦
وهكذا على هذه الطريقة تكون الأشياء — على رأي ميليسوس — متكثرة، ولا تظهر
لنا ألبتة بوحدة. وبالنتيجة لما أنه ليس ممكنًا أن يكون الحال هكذا على هذا
الوجه، وأنه لا يمكن أن تكون الأشياء متكثرة، فيلزم القول بأن هذا ليس إلا
ظاهرًا خداعًا كما أنه مع ذلك يوجد كثير من الأشياء تخدع حواسنا وتغرها، ولكن
العقل يؤكد لنا أن تلك الأشياء ليست موجودة، بل هو يؤكد لنا أن الموجود لا يمكن
أن يكون كثرة، وأنه واحد أزلي لامتناهٍ متشابه في جميع أجزائه.
٧
وحينئذ هل تكون عنايتنا الأولى بعدم قبول كل ظاهر، وألا نَثِقَ منه إلا بما
هو الأحق؟ ولكن إذا كان ما يظهر لنا أنه حق ليس صحيحًا ولا يستحقُّ على ذلك
تصديقنا، فقد نحسن صنعًا بعدم قبول هذه القاعدة أيضًا: أنه لا شيء ألبتة يمكن
أن يأتي من لاشيء؛ لأنه ربما كان هذا أيضًا واحدًا من تلك الآراء القليلة الصدق
والكثيرة العدد التي نحن جميعًا قد تصوَّرناها بواسطة إدراكات قليلة الصدق أو
كثيرته.
٨
ولكن إذا كانت كل إدراكاتنا ليست فاسدة، وإذا كان بعض آحادها صحيحًا فيلزم أن
يختار إما الرأي الذي قام الدليل على صحته، وإما الآراء التي تظهر أنها أحق؛
لأن هذه الأخيرة تكون دائمًا أمتن من الآراء التي يجب أن يدلل عليها من بعد
بمساعدة تلك المبادئ الأولى.
٩
فلنسلم — إذا شئت — بأن هذين الرأيين مضادان أحدهما للآخر كما يفترض ميليسوس:
بادئ بدء إنه عند تأييد الكثرة يضطر إلى استخراجها من اللاموجود، ثم لما كان
هذا محالًا وجب أن يستنتج من ذلك أن الموجودات ليست متكثرة والموجود بما هو
موجود فقط هو لامتناهٍ وبما هو لامتناهٍ هو واحد.
١٠
نزعم أن هذين الرأيين لا يثبتان لأحدهما ولا الآخر أن الموجود هو واحد وأنه
كثرة. ولكن إذا كان أحد الاثنين أحقَّ وأمتنَ فتكون النتائج التي تستنتج منه هي
أيضًا أجلى وضوحًا؛ فإن كان لنا هذان الاعتقادان معًا: أن لا شيء يمكن أن يأتي
من لاشيء، وأن الموجودات هي متكثرة ومتحركة، فلما أن هذا الأخير يظهر لنا
حقيقًا بالثقة فهو أولى من الآخر بتصديق الناس. وبالنتيجة إذا كان هذان الرأيان
هما متضادين في الواقع، وإذا كان من المحال أن شيئًا يأتي من لاشيء وأن
الموجودات متعددة؛ فإن هاتين النظريتين تتباطلان وتتفاسدان على
التكافؤ.
١١
لكن لماذا إذن يكون رأي ميليسوس أحق؟! إنه يمكن أيضًا تأييد الرأي المضاد ما
دام أن ميليسوس قد وضح استدلاله من غير أن يكون قد دلَّل على أن الرأي الذي
يصدر عنه هو الحق أو على الأقل أنه أمتن من الرأي الذي يقصد إلى أن يبرهن على
فساده. وهذا من جانبه ليس إلا فرضًا محضًا أن يرى أن مجيء الأشياء من لاشيء
أشبه بالحق من أن تكون متعددة.
١٢
ولقد أصاب من قال على ضد ذلك ها هنا إن أشياء لم تكن قد كانت، وإن كثيرًا من
الأشياء أخرج من العدم. وليس هؤلاء الذين افتكروا هذه الأفكار من أناس كيفما
اتفق. بل هم مشهورون بأنهم أعقل الناس، مثال ذلك قال هيزيود:
كان العماء موجودًا قبل كل الأشياء
ثم ظهرت الأرض ذات الصدر الفسيح
وهي الأساس الأزلي لكل ما تحمل
… … … … …
ثم بعد ذلك العشق الذي هو أقدر الآلهة.
فعلى رأي هيزيود سائر الأشياء تولد من هذا، ولكن المبادئ الأُوَل لم تتولد من
شيء.
١٣
ومن الفلاسفة من يقولون بأن لا شيء يكون وأن الكل يصير، وهم يؤكدون كذلك أن
كل الأشياء التي تصير تولد من أشياء غير موجودة. وبالنتيجة يمكن أن يقال إن عند
بعض الفلاسفة الصيرورة يمكن أن تنتج حتى من اللاموجود.
١٤
الباب الثاني
نحن لا نشتغل ببحث ما إذا كان ما يقوله ممكنًا أو ممتنعًا. لكن هنا نقطة يجب
علينا أن نعيرها بعض الالتفات، وهي ما إذا كانت مثل تلك النتائج تنتج بلا تخلف
من فروضه أو إذا كانت الأشياء يمكن أن تكون ضد ما يعتقد؛ لأنه يمكن في الحق أن
يكون الواقع مخالفًا تمام المخالفة.
١٥
فهو يقرر بادئ بدء أن ليس شيء يمكن أن يأتي مما هو ليس موجودًا. ولكن يرد
عليه هذا السؤال: أمن الضروري إذن أن تكون جميع الأشياء بلا استثناء غير
مخلوقة؟ أَوَليس من الممكن أيضًا أن تأتي الأشياء بعضها من بعض، وأن هذه
السلسلة يمكن أن تتمشَّى إلى ما لا نهاية؟ أَوَليس من الممكن أيضًا أن تتكون
رجعى دائرية بحيث إن الواحد يأتي من الآخر، وأنه على ذلك يوجد دائمًا موجود ما،
وأن كل واحد قد أمكن أن يخرج على هذا النحو من جميع الآخر على التكافؤ في عدد
غير متناهٍ من المرات؟ على هذا المعنى لا شيء يمنع أن الكل قد خلق وأصبر حتى مع
التسليم بذلك الفرض أنه ليس شيء يمكن ألبتة أن يأتي من لاشيء. وبما أن
الموجودات على ذلك غير متناهية فيمكن إذن — كما يشاؤه — أن تسمى بجميع الأسماء
التي لا تناسب إلا الوحدة؛ لأنه يطبق هو أيضًا على اللامتناهي كيفية أنه كلٌّ
وأنه يسمى كلًّا.
١٦
حتى من غير أن يفرض أن عدد الموجودات غير متناهٍ، يمكن أن يفهم أن كونها
دائري، فإذا كان كل بصير وأن لا شيء يوجد كما يزعم بعضهم، فكيف يوجد إذن أشياء
أزلية؟ ولكن ميليسوس يتكلم عن الموجود كأنه كائن وكأنه مسلم به على الإطلاق.
فإنه يقول: «إذا الموجود لم يصر وإذا هو يكون فيلزم أن يكون أزليًّا.» وهذا
إنما هو تسليم بأن الوجود يتعلَّق ضرورة بالأشياء.
١٧
وأكثر من ذلك أنه مع الافتراض — بقدر ما يراد من الافتراض — بأن اللاموجود لا
يمكن أن يصير، وأن الموجود لا يمكن أن ينعدم ألبتة، فما الذي يمنع أيضًا أن من
الأشياء ما تولد ومنها ما تكون أزلية؟ تلك إنما هي نظرية أمبيدقل نفسه؛ فإنه مع
أنه مسلم وفقًا لرأي ميليسوس بأن من الممتنع أن أي شيء اتفق يخرج مما لم يكن
وأنه لا سبيل مطلقًا لأن شيئًا وجد مرة يمكن أن ينعدم ألبتة «ما دام أن الموجود
يبقى دائمًا حيث أمكن وضعه»، مع كل هذا لا يزال هذا الفيلسوف يؤيد أن من
الأشياء ما هو أزلي كالنار والماء والأرض والهواء، وأنه إنما من هذه الأشياء
أتت وتأتي جميع الأخر. وعلى رأيه ليس للموجودات كون آخر غير هذا، وأن الكون ليس
في الحقيقة إلا اختلاطًا وتحللًا. وهذا ما يسمى عاميًّا كون الأشياء
وطبعها.
١٨
ومع ذلك فإن أمبيدقل يزعم أن الصيرورة لا تنطبق على الأشياء الأزلية، وأن ما
هو موجود لا يصير. فتلك في نظره محالات واضحة؛ إذ يقول: «كيف يمكن في الحق أن
يقال: إن شيئًا يزيد الكل؟ ومن أين يأتي ذلك الشيء؟ إنما هو من اختلاط النار
وتركبها، ومن جميع العناصر التي تصحبها أن خرج تكثر الأشياء، وبانفصال هذه
العناصر وتباعد بعضها عن بعض تنعدم الأشياء من جديد. والتكثر يأتي من الاختلاط
والتفرق ولو أنه بالطبع لا يوجد إلا أربعة عناصر بصرف النظر عن العلل، بل عنصر
واحد أحد.»
١٩
حتى مع افتراض أن العناصر لامتناهية منذ الأصل لتكون الأشياء بتركبها وتفسدها
بافتراقها كما يدعي أحيانًا أنه كذلك كان يفكر أنكساغوراس الذي كان يعتبر هذه
العناصر الأزلية غير المتناهية كمصدر لجميع الأشياء التي تتكون. وقد لا ينتج من
هذا أيضًا أن الكل هو أزلي بلا استثناء، بل يوجد دائمًا بعض أشياء قد تأتي
وتكون أتت من موجودات متقدمة وتفنى في جواهر أخرى.
٢٠
بل يمكن أيضًا ألا يكون إلا صورة واحدة للكل كما كان يؤكده أنكسيمندروس
وأنكسيمين؛ إذ يؤيدان: أحدهما أن الكل هو من الماء، والآخر وهو أنكسيمين أن
الكل إنما هو من الهواء.
٢١
وإنما هذه هي أيضًا نظرية جميع من يفهمون على هذا النحو «الكل» كوحدة، وذلك
إنما هو تبعًا لأن «الواحد» يتغير بالصور أو بعدد أكبر أو أصغر، وتبعًا لأنه
رقيق قليلًا أو كثيرًا أو لأنه سميك، أن الأشياء مهما كانت متعددة ولامتناهية
تتوالد، وحينئذ «الواحد» مع بقائه هو هو يكوِّن بقية الأشياء
ويشكِّلها.
٢٢
أما ديمقريطس فإنه من ناحيته يقول على السواء إن الماء والهواء وكل واحد من
الأشياء المختلفة هكذا هي متحدة، وإنه لا فرق بينها إلا في المجرى والتماس
والاتجاه. وما المانع أيضًا — في هذا الفرض — من أن الأشياء المتكثرة تتولد
وتنعدم ما دام «الواحد» يتغير أبدًا من الموجود إلى الموجود بالفروق التي ذكرت
من غير أن «الكل» في مجموعه يصير بذلك أبدًا لا أصغر ولا أكبر؟
٢٣
وفوق هذا ماذا يمنع أن أجسامنا متعددة كما يشاء تتولد من أجسام أخر وتتحلل
إلى أجسام أخر أيضًا، بحيث تكون دائمًا على كمية متساوية في تحللها وبحيث إنها
تنعدم من جديد.
٢٤
لكن حتى مع التسليم بهذا والتسليم بأنه يوجد شيء غير مخلوق، فماذا يزيد هذا
في إثبات أن الموجود هو لامتناهٍ؟ على رأي ميليسوس الموجود لامتناهٍ إذا هو
يوجد وألا يكون قد ولد ألبتة؛ لأن الحدود على رأيه هي هنا بداية الكون ونهايته.
غير أن الموجود مع أنه غير مخلوق ألا يمكن أن يكون له حدود أخرى غير المذكورة
آنفًا؟ فإذا كان اللامتناهي قد خلق فلا بد من أن يكون له على رأي ميليسوس هذه
البداية التي منها يخرج ليكون.
٢٥
فماذا يمنع إذن — حتى بدون أن يكون قد كون — أن يكون له بالأقل بداية؟ لا
البداية التي منها أتى — إذا شئت — بل بداية، أخرى، وإن الأشياء مع كونها أزلية
يتحدد بعضها ببعض على طريق التكافؤ.
٢٦
بل ماذا يمنع أن «الكل» الذي يكون غير مخلوق أن يكون لامتناهيًا، وأن جميع
الأشياء التي هي فيه تكون متناهية باعتبار أن لها بالبساطة بداية ونهاية في
كونها.
٢٧
ألا يمكن أيضًا كما يبغي برمينيد أن «الكل» مع أنه واحد وغير مخلوق يكون
متناهيًا «بأن يكون من جميع الجهات مشابهًا لكتلة كرة مضبوطة الشكل، وأن يكون
متساوي الأبعاد من المركز من غير حاجة أصلًا إلى أن يكون في الجزء الفلاني أو
الفلاني أكبر أو أجمد مما هو؟»
٢٨
ولما أن له وسطًا وأطرافًا فله حد مهما كان غير مخلوق ما دام أن «الكل» مع
أنه واحد كما يعترف به ميليسوس نفسه، فإنه — من حيث كونه جسمًا — كل أجزائه بلا
استثناء مشابهة بعضها لبعض. ومن هذه الجهة إنما هو يقرر التشابه المطلق «للكل»
ولا يقول كما يقول فلاسفة آخرون إن «الكل» مشابه لشيء آخر غير ذاته. تلك هي
النظرية التي يبطلها أنكساغوراس بقوله: إذا كان اللامتناهي مشابهًا من جهة أن
يكون مشابهًا لمغاير له، فمن ثم هما اثنان بل أكثر، وحينذ لا يوجد بعد لا
«واحد» ولا لامتناهٍ.
٢٩
ولكن قد يمكن أن ميليسوس يعني هو أيضًا أن اللامتناهي مشابه إضافيًّا لذاته،
أو يقول بعبارة أخرى إن «الكل» هو متشابه لأن أجزاءه متشابهة بما أن هذا «الكل»
هو مع ذلك من الماء أو من الأرض أو من شيء آخر.
٣٠
من البين أن ميليسوس مع تسليمه هكذا بالوحدة يرى أن كل جزء من الأجزاء هو
نفسه جسم لا يمكن أن يكون لامتناهيًا؛ لأن «الكل» هو وحده لامتناهٍ، وبالنتيجة
أن هذه الأجزاء التي ليست مخلوقة أيضًا يصلح بعضها حدودًا لبعض على
التكافؤ.
٣١
ولكن إذا كان «الكل» أزليًّا ولامتناهيًا، فكيف يمكن أن يكون «واحدًا» مع
كونه جسمًا؟ ثم إذا كان مركبًا من أجزاء متغايرة فإذن يعترف ميليسوس نفسه بأن
«الكل» هو كثير ومتعدد. ومع التسليم بأنه من الماء أو من الأرض أو من أي عنصر
آخر، فحينئذ يكون للموجود عدة أجزاء، كما أن زينون يحاول أيضًا أن يثبت أن
«الكل» يجب أن يكون له أجزاء كثيرة إذا كان هو واحدًا على الوجه الذي
يدعون.
٣٢
ومتى كانت أجزاؤه متعددة لزم أن يكون بعضها أصغر وبعضها أكبر؛ أعني مختلفة جد
الاختلاف حتى بدون أن يأتي التخالف من زيادة جسم ما أو فقد جسم ما. ولكن إذا
كان «الكل» ليس له جسم ولا طول ولا عرض، فكيف يكون لامتناهيًا؟ وما المانع إذن
أن يكون بمجموعه كثرة وواحدًا بالعدد؟ بل ما المانع أن الأشياء مع كونها هكذا
متكثرة وأكثر من واحد أن تكون على عظم غير متناهٍ؟
٣٣
قد يزعم إكسينوفان أن عمق الأرض وعمق الهواء غير متناهٍ، ولكن أمبيدقل يُبطِل
هذه النظرية؛ إذ يبيِّن في انتقاده المحكم أنه إذا كانت الأشياء كما يزعمون،
فمن المحال مطلقًا أن تكون ألبتة.
«إن أسس الكرة والأثير غير الملموس التي كثر ما يكلموننا عنها ليست إلا كلمات
فارغات يكررها لسان الحمقى بلا داع.»
٣٤
لكن العالم يمكن أن يكون واحدًا من غير أن يكون هناك سخف في افتراض أنه ليس
متشابهًا في جميع أجزائه. وفي الحق إذا كان العالم كله ماءً أو كله نارًا أو أي
عنصر آخر من هذا القبيل، فيمكن جيدًا أن يقال بوجود عدة أشياء، ولو أن الموجود
يبقى واحدًا، وأنه يلزم دائمًا أن يكون كل واحد من هذه العناصر مشابهًا لذاته؛
لأنه لا يمكن أن يكون الجزء الفلاني متخلخلًا والآخر كثيفًا إلا أن يوجد خلو في
باطن المتخلخل. ولكن لا شيء يمنع أنه بالنسبة لبعض الأجزاء يوجد في المتخلخل
خلو منفصل تمامًا بحيث إن جزءًا بعينه من «الكل» يكون كثيفًا وآخر بعينه يكون
متخلخلًا، مع أن الكل مع ذلك باقٍ هو ما هو. ولكن لما أن «الكل» مليء؛
فالمتخلخل حينئذ لا يكون أقل امتلاءً من الكثيف.
٣٥
وإذا كان «الكل» غير مخلوق فكيف يمكن أن يستنتج من هذا وحده أنه لامتناهٍ،
وأنه لا يمكن أن يوجد أيضًا واحد بعينه أو آخر يكون متناهيًا مثله؟ ولماذا
يستلزم كونه غير مخلوق التسليم فوق ذلك بأنه واحد وأنه لامتناهٍ بهذا السبب
وحده؟ وكيف حينئذ يكون اللامتناهي هو ذلك «الكل» الذي يتوهمونه؟
٣٦
يقول ميليسوس إن الموجود لا متحرك إذا كان ليس ثم من خلو؛ لأن الأشياء لا
تتحرك ألبتة إلا بأن تتغير بالأين، غير أنه بادئ بدء كثير من الناس من لا
يوافقون على هذه النقطة ومع تسليمهم بوجود الخلو فإنهم لا يقبلون أن يكون
جسمًا. يمكن أن يعني بالأشياء هنا نحو ما يعنيه بها هيزيود حين يقول في الخلقة:
«إنما هو العماء الذي ظهر بادئ الأمر» مفترضًا بذلك أنه كان يلزم قبل كل شيء أن
يوجد محل للموجودات هذا هو ما يعني بالخلو الذي يعتبر كنوع آنية تكون خالية من
وسطها.
٣٧
على أنه حتى مع عدم وجود خلو فإن العالم يمكن أن يتحرك أيضًا على السواء، وإن
أنكساغوراس الذي اشتغل أيضًا بهذه المسألة لم يقنع بإثبات أنه لا يوجد خلو، بل
أثبت فوق ذلك أن الموجودات تتحرك على سواء من غير أن يكون الخلو
ضروريًّا.
٣٨
وفي هذا المعنى عينه قال أمبيدقل إن الأشياء متى تم تركيبها تحركت طوال
الزمان من غير أن يوجد — على رأيه — ما لا يفيد في «الكل» ولا أن يوجد خلو
كذلك. وفي الحق من أين يمكن أن يحدث الخلو؟ يقول أمبيدقل لأن الأشياء متى تركبت
في صورة واحدة بطريقة أنها تؤلف الوحدة:
فلا شيء يكون خلوًا ولا شيء زائد.
أليس يمكن في الواقع أن الأشياء تتحرك بعضها في بعض، وأن الكل يكون دائريًّا
ما دام أن الشيء يتغير إلى آخر، وهذا الآخر إلى ثالث. وما دام أن شيئًا بعينه
يتغير دائمًا آخر الأمر إلى الأول؟
٣٩
وفوق ذلك لا ينبغي نسيان تغير الصورة هذا الذي يغير الشيء ولو أنه يبقى في
الحيز عينه، تغير يسميه فلاسفة آخرون وميليسوس نفسه الاستحالة، وإذن لا شيء مما
قال يدفع أن هذا النوع من الحركة يوجد في الأشياء حينما تمرُّ من الأبيض إلى
الأسود أو من المر إلى الحلو؛ لأنه ليكن الخلو غير موجود وليكن المليء لا يمكن
أن يقبل شيئًا؛ فذلك لا يمنع الاستحالة أن تكون ممكنة.
٤٠
وبالتبع فلا ضرورة لأن كلًّا يكون أزليًّا وأن كلًّا يكون واحدًا، أو لأن
«الكل» يكون لامتناهيًا. ولا ضرورة أيضًا لأن يوجد عدة لامتناهيات ولا وحدة
متماثلة في كل مكان ولا وحدة غير متحركة، سواء مع ذلك وجدت الوحدة أو
الكثرة.
٤١
ومتى سلم هذا لا يرى شيء في نظريات ميليسوس يدفع أن الموجودات تتغير ترتيبًا
وكيفًا ما دامت الحركة هي هكذا في الوحدة التي تختلف حينئذ بالأكثر وبالأقل
والتي تستحيل بطرائق شتى بدون أن ينضم إليها شيء أو إذا انضم إليها شيء فبدون
أن يكون هذا الشيء جسمًا، وإذا كانت عدة أشياء هي التي تنضم فبدون ألا تزيد على
أن تمتزج بعضها ببعض وتنفصل على التكافؤ.
٤٢
ولكن الاختلاط ليس فيما يظهر هو الجمع أو التركيب اللذين يتكلم عنهما ميليسوس
واللذين بدونهما ربما تنعزل الأشياء في الحال، بل بدونهما لا تظهر الأشياء
باستغلالها التام إلا بعد أن يباعد بين بعضها وبين البعض الآخر؛ إذ هي تتحاجب،
في حين أنه يلزم لوجود اختلاط حقيقي أن كل أجزاء الشيء المختلط تكون بحيث لا
يمكن حل تركيبها بعد، لكن بشرط أن كل واحد من الأجزاء المخلوطة يكون على وفاق
تام مع مجموع الخليط؛ لأنه بما أنه لا يوجد جواهر فردة فينتج من ذلك أن كل جزء
هو مختلط مع كل جزء كيفما اتفق مشابه مطلقًا للكل.
٤٣