الباب السابع
تعقيبًا لما تقدم نوضح ماذا ينبغي أن يَعني بفعل وانفعل. ولقد تلقَّيْنَا من الفلاسفة
السابقين لنا نظريات متخالفات بينها في هذا الموضوع، ومع ذلك فإنهم متفقون بإجماع على
أن الشبيه لا يمكن أن يقبل شيئًا من الشبيه؛ لأن الواحد منهما ليس أشدَّ فاعلية ولا
انفعالية من الآخر، وإن الأشباه لها كيفياتها متماثلة مطلقًا، ثم يزاد أن الأجسام غير
المتشابهة والأجسام المختلفة إنما هي التي لها فعل وانفعال على طريق التكافؤ بعضها في
بعض، مثال ذلك حينما تطفأ نار بنار أكبر منها يزعم فلاسفتنا أن النار التي هي أقل
انفعلت في الواقع بمقتضى مقابلة الأضداد بما أن كثيرًا هو ضد لقليل.
١
ديمقريطس هو الوحيد — خلافًا لجميع الآخرين — الذي قدم في هذا رأيًا خاصًّا؛ فهو
يقرر
أن هذا الذي يفعل وهذا الذي يقبل هو في الحقيقة مماثل ومشابه؛ لأنه لا يوافق على أن
أشياء مختلفة ومتغايرة تمامًا يمكنها أن تقبل أيامًا بعضها من بعض، وإذا كان بعض
الأشياء، مع كونها متغايرة بينها، لها بعضها على بعض فعل ما متكافئ فهذه الظاهرة — على
رأيه — تقع فيها لا بما هي متخالفة، بل بما هي على الضد من ذلك لها نقطة ما من المشابهة
والمماثلة.
٢
تلك هي إذن الآراء التي قررت قبلنا. ولكن الفلاسفة الذين قرروها قد يظهر أنهم تناقضوا
فيما بينهم، والسبب في اختلافهم في هذا الصدد هو أنه في مسألة يلزم فيها اعتبار مجموع
الموضوع لم يعتبروا فيه هؤلاء وهؤلاء إلا جزءًا واحدًا.
٣
وفي الحق أن ما هو شبيه تمامًا ولا يغاير مطلقًا بأي وجه ما لا يمكنه مطلقًا أن يحتمل
شيئًا ولا أن يقبل شيئًا من قبل شبيهه. لماذا؟ في الحق، إن أحد الشيئين يفعل دون الآخر!
فإذا كان ممكنًا أن الشيء يقبل بأي طريقة من شبيهه إذن يمكنه أن يقبل أيضًا من ذاته،
وحينئذ مع التسليم بهذا فينتج منه أن لا شيء في الدنيا يكون غير قابل للفناء ولا غير
متحرك إذا فرض أن الشبيه بما هو شبيه يمكنه أن يفعل ما دام حينئذ كل موجود أيًّا كان
يمكنه أن يعطي الحركة لنفسه ويعطيها أيضًا على السواء للموجود المغاير تمامًا، والذي
ليس به تماثل ما.
وفي الواقع إن البياض لا يمكنه أن يقبل أي فعل من قبل خط، ولا أن خطًّا ينفعل بشيء
من
قبل البياض إلا ما ربما يكون بالعرض والواسطة: مثلًا في حالة ما إذا كان الخط بالمصادفة
أبيض أو أسود؛ لأن الأشياء لا يمكنها أن تغير طبعها عفوًا من تلقاء أنفسها متى لم تكن
أضدادًا بعضها لبعض أو غير آتية من أضداد.
٤
ولكن لما أن فعل وانفعل ليسا بالطبع خاصية أي جسم اتفق وأخذ بالمصادفة، وأنهما لا
يكونان إلا في الأشياء الأضداد بعضها لبعض أو التي بينها تضاد ما؛ فينتج من ذلك ضرورة
أن الفاعل والقابل يجب أن يكونا شبيهين ومتَّحِدين بجنسهما بالأقل، وأن يكونا غير
متشابهين ومتضادين بنوعهما، على هذا تريد الطبيعة أن الجسم يقبل فعل الجسم والطعم يقبل
فعل الطعم واللون فعل اللون. وعلى جملة من القول إن شيئًا مجانسًا يمكن أن يقبل فعلًا
من قبل الشيء المجانس، والسبب فيه أن جميع الأضداد هي من جنس واحد، وأن الأضداد تفعل
بعضها في بعض وتقبل بعضها من قبل البعض الآخر؛ إذن يلزم ضرورة أن — من وجه — الفاعل
والقابل يكونان متشابهين وفي الحين عينه يلزم أيضًا أن يكونا غير متشابهين ومتغايرين
بينهما.
٥
ما دام إذن يلزم أن يكون الفاعل والقابل هما متحدين ومتشابهين في الجنس ولا متشابهين
في النوع، وإن هذه هي نسب الأضداد فينتج من هذا جليًّا أن الأضداد والأوساط تفعل وتقبل
على طريق التكافؤ بعضها إزاء البعض الآخر، فإن فيها مطلقًا يحصل فساد الأشياء وكونها؛
لذلك فبسيط جدًّا أن النار تسخن وأن البرد يبرد، وعلى جملة من القول إن الشيء الذي يفعل
يحيل إلى ذاته الشيء الذي يقبل فعله. ما دام أن هذا الذي يفعل وهذا الذي يقبل هما ضدان،
وأن الكون هو على التحقيق تحول الشيء إلى ضده، ينتج منه أن بالضرورة الذي ينفعل يتغير
بهذا الذي يفعل، وعلى هذا النحو فقط يحصل كون مفضٍ إلى الضد.
٦
هذا هو الذي يوضح جيدًا كيف أن فلاسفتنا من غير أن يكرروا صراحة الأقوال أعيانها
يمكنهم مع ذلك على الوجهين أن يصلوا إلى استكشاف الطبع والحق. وعلى هذا نقول تارة إنه
الموضوع نفسه هو الذي ينفعل متى قلنا إن فلانًا يبرإ وأنه يدفأ وإنه يبرد وإنه يعاني
انفعالات من هذا القبيل. وتارة أيضًا نقول مثلًا إن البرودة هي التي تصير ساخنة أو إن
المرض هو الذي يصير الصحة، وعلى الوجهين العبارة صادقة.
٧
والأمر كذلك أيضًا فيما يخص الفاعل؛ فإننا نقول أحيانًا إنه هو فلان الذي يسخن الشيء
الفلاني، ومرة أيضًا إن الحرارة هي التي تسخن؛ لأنه تارة هي المادة التي تقبل الفعل
وتارة أيضًا الضد هو الذي يقبل. على ذلك فإنه بنظر الأشياء من هذه الجهة زعم بعضهم أن
الموجود الذي يفعل والذي ينفعل يجب أن يكون بينهما شيء من التماثل. وإن الآخرين بنظرهم
الأشياء من جهة مخالفة زعموا أن الأمر على الضد من ذلك تمامًا.
٨
ولكن التدليل الذي يمكن عمله لإيضاح ما هو يفعل وينفعل هو نفسه الذي به يوضح ما هو
يحرك ويتحرك، وعلى ذلك لفظ المحرك يحمل أيضًا على معنيين؛ فأولًا الشيء الذي فيه يوجد
مبدأ الحركة يشبه أن يكون المحرك ما دام المبدأ هو أول العلل، وثانيًّا إنما هو الحد
الأخير بالإضافة إلى الشيء الذي هو محرك وإلى كون الشيء.
٩
وتنطبق الملاحظة نفسها على الفاعل، وعلى هذا النحو نقول على السواء إن الطبيب هو
الذي
يبرئ أو هو النبيذ الذي أمر به للمريض. وحينئذ لا شيء يمنع من أن المحرك الأول في
الحركة التي يعطيها يبقى هو نفسه غير متحرك، بل أحيانًا قد تكون هناك ضرورة إلى أن
يكونه، ولكن الحد الأخير يجب دائمًا لأجل أن يحرك أن يكون أولًا قد حرك هو
نفسه.
١٠
وفي الفعل أيضًا الحد الأول ليس متأثرًا ولا قابلًا، ولكن يلزم أن الحد الأخير —
ليمكنه أن يفعل — ينفعل أيضًا هو ذاته بفعلٍ ما بادئ بدء. كل الأشياء التي ليست من مادة
واحدة بعينها تفعل دون أن تقبل هي أعيانها، وأن تظل غير قابلة. مثال ذلك صناعة الطب؛
فإنها مع فعلها الصحة لا تقبل أي فعل من قبل الجسم الذي تشفيه. ولكن الغذاء من فعله
الصحة يقبل ويلقى هو نفسه أيضًا تأثرًا ما؛ لأنه إما أن يسخن أو يبرد أو يعاني انفعالًا
آخر كيفما اتفق في حين أنه يفعل؛ ذلك لأنه من جهة الطب هو ها هنا — بنحو ما — كالمبدأ،
في حين أن الغذاء — بنحو آخر — هو الحد الأخير الذي يمس العضو الذي يفعل فيه. على ذلك
حينئذ كل الأشياء الفاعلة التي ليس لها صورتها في المادة تبقى غير قابلة، وكل التي لها
صورتها في المادة يمكن أن تقبل فعلًا ما، ونقول أيضًا إن المادة هي واحدة على السواء
بعينها بالنسبة لأي واحد ما من الحدين المتقابلين، ونعتبرها أنها بالنسبة لهما جنسهما
المشترك. ولكن ما يمكنه أن يصير ساخنًا يجب ضرورة أن يسخن حينما الشيء الذي يسخن يكون
حاضرًا وقريبًا منه.
فانظر لماذا أن بين الأشياء التي تفعل بعضها — كما قلت آنفًا — هو غير قابل والآخر
على ضد ذلك يمكن أن يقبل، وكيف أن الأمر واحد بعينه بالنسبة للفواعل كما هو بالنسبة
للحركة، فإن هناك في الواقع المحرك الأولي هو غير متحرك، وهنا بين الفواعل إنما الفاعل
الأول هو غير القابل وبمعزل عن كل انفعال.
١١
ولكن إذا كان الفاعل علة كما هي حال المحرك سواءً بسواء، فمن أين يجيء أن مبدأ الحركة
— أي الغاية التي من أجلها يحدث كل الباقي — لا يحدث هو نفسه فعلًا؟ مثال ذلك الصحة
ليست فاعلًا ولا يمكن تسميتها كذلك بالمجاز المحض، ومذ يوجد الفاعل ينتج منه أن القابل
الذي يقبل الفعل يصير شيئًا ما، ولكن متى تكون الكيفيات حاصلة تمامًا وحاضرة فليس
للفاعل أن يصير؛ فإنه قد كان كل ما يجب أن يكونه. إن صورة الأشياء وغاياتها يمكن أن
يقال إنها كيفيات وعادات في حين أن المادة إنما هي التي بما هي مادة قابلة تمامًا. على
هذا حينئذ النار لها حرارتها في المادة، وإذا كانت الحرارة شيئًا ما قابلًا للانفصال
عن
مادة النار فلا يمكنها أن تقبل شيئًا ولا أن تتأثر. ولكنه محال من غير شك أن الحرارة
تكون منفصلة عن النار التي تسخن، وإذا كان ثمَّ أشياء منفصلة بهذه المثابة فإن ما قلناه
آنفًا لا يكون صادقًا إلا بالنسبة لتلك.
١٢
وعلى الجملة نقف عند حد الاعتبارات المتقدمة في إيضاح ماهية فعل وانفعل؛ لنبين بأي
الأشياء يتعلق أحدهما والآخر وبأي طريقة يكون الفعل والانفعال وكيف يكونان.
١٣
هوامش