الباب الثامن
لنعرض مرة أخرى كيف أن ظاهرتي الفعل والانفعال ممكنتان. من الفلاسفة من يرى أنه حينما
يعاني شيء أثرًا ما على جهة الانفعال، فذلك أن الفاعل الذي يفعل الأثر نهائيًّا وبطريق
الأصلية ينفذ في ذلك الشيء بواسطة مسام أو قنوات، يقولون إننا كذلك نرى وإننا نسمع
وإننا ندرك جميع الإدراكات الأخرى للحواس. وفوق ذلك إذا أمكن أن ترى الأشياء من خلال
الهواء والماء والأجسام الشفافة فذلك بأن هذه الأجسام لها مسام غير مدركة بالبصر لسبب
صغرها، ولكنها مع ذلك شديدة الانضمام مرصوفة بنظام وترتيب، وكلما تكون الأجسام أكثر
شفافية كان لها من هذه المسام عدد أكثر.
١
وعلى هذا النحو استبان بعض الفلاسفة الأشياء كما فعل أمبيدقل مثلًا، ولكن لم تقصر
هذه
النظرية على الفعل وعلى الانفعال، بل زعم أن الأجسام لا تختلط إلا متى كانت مسامها
متناسبة المقياس على طريق التكافؤ، وقد اختط لوكيبس وديمقريطس بأحسن من غيرهما الطريقَ
الحق وأوضحا كلٌّ بكلمة واحدة بأن صدرا عن نقطة الابتداء الحقيقية التي يعينها الطبع.
وفي الواقع إن بعض القدماء قد ظنَّ أن الموجود هو بالضرورة واحد وغير متحرك، فعلى رأيهم
الخلو لا يوجد، وأنه لا يمكن أن توجد حركة في العالم ما دام أنه لا يوجد خلو منفصل عن
الأشياء. وكانوا يزيدون على ذلك أنه لا يمكن أيضًا أن يوجد تعدد ما دام أنه لا يوجد خلو
يقسم الأشياء ويعزلها.
على أن دعوى أن العالم ليس متصلًا لكن الموجودات التي تؤلفه متماسة مهما كانت منفصلة
فذلك يرجع إلى القول بأن الموجود متعدد وليس هو واحدًا، وأن الخلو موجود، وأنه إذا كان
الموجود هو مطلقًا قابلًا للقسمة في جميع الاتجاهات فمن ثم لا توجد بعد وحدة لأي ما كان
بحيث إنه لا يوجد أيضًا تعدد، وأن الكل هو خلو كله. يقولون إنه إذا فرض أن العالم شطره
على نحو وشطره على آخر فذلك إيضاح أشبه ما يكون بفرض مجازف فيه؛ لأنه حينئذ إلى أي نقطة
ولماذا الجزء الفلاني من العالم يكون كذلك ومليئًا في حين أن الجزء الفلاني الآخر
مقسوم؟ وبهذه الطريقة يوصل أيضًا على رأيهم إلى تأييد أنه بالضرورة لا يوجد حركة في
العالم.
٢
بالصدور عن هذه النظريات وبمعاندة شهادة الحواس والاستهانة بها بحجة أنه ينبغي
اتِّباع العقل فقط انتهى بعض الفلاسفة إلى التصديق بأن العالم واحد غير متحرك وغير
متناه؛ لأنه إن لم يكن كذلك فإن الحد بحسبهم لا يمكن إلا أن يحاد الخلو.
٣
تلك هي إذن نظريات هؤلاء الفلاسفة، وتلك هي الأسباب التي دفعتهم إلى فهم الحق على
هذا
النحو، ولا شك في أنه إذا استمسك بالتداليل العقلية المحضة فذلك يشبه أن يكون مقبولًا،
ولكن إذا أريد اعتبار الحوادث الواقعية فيوشك أن يكون من الجنون تأييد آراء كهذه؛ لأنه
لا يوجد مجنون ذهب إلى هذه النقطة من الضلال أن يجد أن النار والثلج هما شيء واحد
بعينه. ولكن خلط الأشياء الجميلة لذاتها بالتي لا تظهر لنا كذلك إلا بالاستعمال من غير
أن يرى فيها مع ذلك أي فرق ما بينها، ذلك لا يمكن أن يكون إلا نتيجة لتيه حقيقي
للعقل.
٤
فأما لوكيبس فإنه كان يظنه محيطًا علمًا بالنظريات التي — مع كونها متفقة مع الحوادث
الواقعية المدركة بالحواس — لم تكن — بحسب مذهبه — لتتعرض للكون ولا للفساد ولا للحركة
ولا للتعدد في الموجودات. ولكن بعد هذا التسامح الذي أسداه إلى حقيقة الظواهر قد أسدى
غيره إلى أولئك الذين يقبلون وحدة الموجود بحجة أنه لا يوجد حركة ممكنة بدون الخلو،
ويقبل القول بأن الخلو هو اللاموجود، وأن اللاموجود ليس هو شيئًا مما هو موجود. وإذن
—
على رأيه — الموجود بالمعنى الخاص هو متعدد للغاية، والموجود على هذا المعنى لا يمكن
أن
يكون واحدًا. وعلى العكس إن هذه العناصر تكون غير متناهية في العدد وتكون فقط غير مرئية
بسبب لطافة حجمها للغاية، ويزيد على ذلك لوكيبس أن هذه الجزيئات تتحرك في الخلو؛ لأنه
يقبل الخلو، وأنها باجتماعها تسبب كون الأشياء وبانحلالها تسبب فسادها، وأن الأشياء
تفعل أو تنفعل تبعًا لما أنها تتماس على طريق التكافؤ، وأنها على ذلك ليست هي شيئًا
واحدًا بعينه، وأنها بتركبها واشتباكها بعضها ببعض تكون العالم كله.
ويستنتج لوكيبس من هذا أن التعدد لم يكن ليخرج ألبتة من الوحدة الحقة، كما أن الوحدة
لا يمكن أن تأتي أيضًا من التعدد الحق، وأن كل هذا هو محال على الإطلاق من جهة ومن
أخرى. وأخيرًا كما أن أمبيدقل وبعض الفلاسفة الآخرين يزعمون أن في الأشياء الفعل الذي
تقبله وتعانيه هو يحصل فيها بواسطة المسام، فكذلك يرى لوكيبس أيضًا أن كل استحالة
للأشياء وكل انفعال لها إنما يحصل على هذا النحو نفسه، وأن الانحلال والفساد يكونان
بواسطة الخلو، والنمو حاصل كذلك بواسطة الجزيئات الجامدة التي تدخل في
الأشياء.
٥
وأما أمبيدقل، فينبغي أن يقول قول لوكيبس تقريبًا؛ لأنه يقول بأنه يجب أن يوجد جزئيات
جامدة وغير قابلة للتجزئة إذا كانت المسام ليست متصلة مطلقًا. ولما أن هذا الاتصال
للمسام محال؛ لأنه حينئذ لا يمكن وجود شيء جامد، إلا أن يكون هو المسام، والكل بلا
استثناء لا يكون إلا بعد خلوًا، فحينئذ يلزم على رأي أمبيدقل أن الجزيئات التي تتماسُّ
تكون غير قابلة للتجزئة، وأن المسافات وحدها التي تفصلها تكون خلوات، وهذا هو ما يسميه
المسام، وهذه الآراء هي أيضًا آراء لوكيبس في الفعل والانفعال في الأشياء.
٦
تلك هي الإيضاحات التي أعطوها عن الوجه الذي تكون به الأشياء تارة فاعلة وتارة
منفعلة، وحينئذ يرى مبلغ ما عليه في الحقيقة هؤلاء الفلاسفة، وكيف يعبرون آراءهم في هذا
الصدد مؤيدين مذاهب تكاد تكون مطابقة للحوادث.
٧
ولكن في نظريات فلاسفة آخرين كأمبيدقل يلمح — بجلاء أقل — كيف يدرك كون الأشياء
وفسادها واستحالتها، والطريقة التي بها تقع هذه الظواهر. فعلى رأي البعض أن العناصر
الأولية للأجسام هي غير قابلة للتجزئة، ولا تختلف بينها إلا بالصور، ومن هذه العناصر
تتركب الأجسام في البداية وإليها تتحلَّل في النهاية.
ولكن من جهة أمبيدقل فقد يرى على كفاية الوضوح أنه يبلغ بكون الأشياء وفسادها إلى
العناصر أنفسها. على أنه كيف يمكن أن يكون وأن يفسد العظم الملتك لهذه العناصر؟ هذا هو
ما ليس بينًا ألبتة في مذهبه، بل زيادة على ذلك إن هذا ما لا يستطيع تبيانه ما دام أنه
ينكر أن النار ذاتها عنصر كما ينكر أيضًا على السواء وجود جميع العناصر الأخرى. وقد
أيَّد أفلاطون النظرية عينها في طيماوس؛ لأنه فضلًا عن أن أفلاطون يعبِّر في هذه النقطة
مثل لوكيبس فإن أحدهما يقبل أن التي لا تتجزأ هي جوامد والآخر أنها ليست إلا سطوحًا،
وإن أحدهما يقرر أن جميع الجوامد التي لا تتجزأ هي محدودة بأشكال عددها غير متناهٍ
والآخر أن لها أشكالًا متناهية ومضبوطة. والنقطة الواحدة التي فيها يتفق الاثنان جميعًا
أنهما يقبلان وجود التي لا تتجزأ وتحديدها بأشكال.
٨
إذا كان حقًّا أن من ذلك في الواقع تأتي أكوان الأشياء وفساداتها؛ فمن ثم يوجد عند
لوكيبس لإدراكها طريقتان: الخلو والتماس، وعلى هذا النحو — على رأيه — إن كل شيء قد
يكون متميزًا ومنقسمًا. ولكن عند أفلاطون الأمر على الضد ليس إلا التَّماس وحده ما دام
أنه يرفض وجود الخلو. وقد تكلَّمنا في بحوثنا السابقة على مذهب السطوح التي لا تتجزأ،
وأما الجوامد التي لا تتجزأ فليس ها هنا محل لفحصٍ أطول من ذلك عن نتائج هذه النظرية
التي ندعها الآن إلى جانب.
٩
ولكن إذا نحن استطردنا بعض الشيء نقول إنه ضرورة في هذه المذاهب كل ما لا يتجزأ فهو
يجب أن يكون غير منفعل؛ لأنه لا يمكن أن يكون منفعلًا وقابلًا أي فعل ما إلا بالخلو
الذي هو غير مقبول عندهم، وهو كذلك لا يمكنه أن يُحدِث أي فعل ما في أي شيء اتفق ما دام
أنه لا يمكن أن يكون لا صلبًا ولا باردًا مثلًا. وفي الحق إنه من السخف الاقتصار على
تخصيص الحرارة بالشكل الكري وحده فقط؛ لأنه من ثم يكون بالضرورة الكيف المضاد — أعني
البرودة — يتعلق بشكل آخر غير الكرة.
ولكن إذا كان هذان الكيفان يوجدان في الأشياء — أعني الحرارة والبرودة — فيكون من
السخف الاعتقاد بأن الخفة والثقل والصلابة والرخاوة لا يمكن أن تكون فيها أيضًا. وإني
أعترف بأن ديمقريطس يزعم أن كل ما لا يتجزأ يمكن أن يكون أكثر ثقلًا إذا كان أكبر حجمًا
بحيث إنه — بالبين بذاته أيضًا — يمكن أن يكون أكثر حرارة.
١٠
ولكنه من المحال — متى كان الأمر على ما يقال — أن تلك التي لا تتجزأ لا تقبل تأثيرًا
ما بعضها من قبل البعض الآخر، وأن ما هو متوسط الحرارة مثلًا لا يقبل تأثيرًا من قبل
ما
له حرارة أكثر منه للغاية. ولكن إذا كان الصلب يقبل تأثيرًا فالرخو أيضًا يجب أن يقبل
تأثيرًا؛ لأنه لا يقال على شيء إنه رخو إلا مع الاستحضار الذهني لفعل يمكنه احتماله ما
دام الجسم الرخو هو بالضبط هذا الذي يطاوع الضغط بسهولة.
١١
ومع ذلك ليس أقل سخفًا ألا يقبل في الأشياء مطلقًا شيء إلا الصورة، وإذا تقبل الصورة
فمن السخف ألا يفترض فيها إلا واحدة إما مثلًا البرودة وإما الحرارة؛ لأنه لا يمكن أن
يوجد طبع واحد بعينه لهاتين الظاهرتين المتقابلتين.
١٢
وفي الحق إن من المحال أيضًا على سواء أن يفترض أن الموجود مع بقائه واحدًا يمكن
أن
تكون له عدة صور؛ لأنه بما هو لا يتجزأ قد يعاني تغاييره المختلفة في النقطة عينها.
وبالنتيجة فعبثًا ينفعل، فيبرد مثلًا، وبهذا عينه يُحدث أيضًا فعلًا آخر، أو بل يقبل
أي
تأثير آخر اتفق.
١٣
يمكن استخدام هذه التنبيهات أنفسها بالنسبة لجميع التغايير الأخرى؛ لأنه سواء قبل
القول بجوامد لا تتجزأ أو قبل القول بسطوح لا تتجزأ فالنتائج تكون هي أنفسها ما دام ليس
ممكنًا أن اللامتجزئة تكون تارة أكثر تخلخلًا وتارة أكثر كثافة إذا لم يوجد خلو في
اللامتجزئة.
١٤
وكذلك من السخف على السواء تمامًا افتراض أن أجسامًا صغارًا هي غير قابلة للتجزئة،
وأن أجسامًا كبارًا لا تكونه؛ ففي الحالة الحاضرة للأشياء يفهم العقل في الواقع أن
الأجسام الكبرى يمكن أن تتفتت بأسهل جدًّا من الصغرى ما دام أنها تتحلل بدون عناء؛
لأنها كبيرة وأنها تتلامس وتتصادم في كثير من النقط. ولكن لماذا اللامتجزئة قد توجد
مطلقًا في صغار الأجسام بالأولى من أن توجد في الكبار؟
١٥
وفوق ذلك كل هذه الجوامد هل هي من طبع واحد بعينه؟ أم هل هي تختلف بعضها عن بعض بما
أن بعضها من النار والآخر من الأرض بحسب كتلتها؟ فإذا لم يكن إلا طبع واحد بعينه
لجميعها فماذا عسى أن تكون العلة التي قسمتها؟ بل لماذا بتماسها لا تجتمع كلها بالتماس
في كتلة واحدة بعينها كالماء حينما يلامس الماء؟ فإن الماء الأخير المضاف لا يختلف في
شيء عن الماء الذي كان يتقدمه. ولكن إذا كانت هذه التي لا تتجزأ يختلف بعضها عن بعض،
فحينئذ ماذا تكون؟ بين بذاته أنه يلزم التسليم أن هذه هي مبادئ الظواهر وعللها أولى من
أن تكون مجرد أشكال لها، ومن جهة أخرى إذا قيل إنها مختلفة الطبع فحينئذ يمكنها
بتلامسها المتبادل أن تفعل أو تنفعل بعضها بالآخر.
١٦
أكثر من ذلك، ماذا سيكون المحرك الذي يوقعها في الحركة؟ إذا كان هذا المحرك مخالفًا
لها فحينئذ يكون ما لا يتجزأ قابلًا، وإذا كان كل ما لا يتجزأ يحرك نفسه فإما أن يصير
قابلًا للتجزئة بما هو محرك في جزء ومحرك في جزء آخر، وإما أن يجتمع النقيضان في الشيء
بعينه معًا، وحينئذ تكون المادة واحدة لا بالعدد فقط بل بالقوة أيضًا.
١٧
وحينئذ هؤلاء الذين يزعمون أن التغايير التي تقبلها الأجسام تكون بحركة المسام يجب
عليهم أن ينتبهوا؛ لأنهم إذا سلموا بأن الظاهرة تقع حتى لو كانت المسام مليئة لاستعاروا
حينئذ للمسام وظيفة غير مفيدة قطعًا ما دام أنه إذا انفعل الجسم في هذه الحالة بالطريقة
عينها يمكن افتراض أنه — بدون أن يكون له مسام وبما هو نفسه متصل — قد يمكنه أيضًا أن
يقبل بالتمام كل ما يقبل.
١٨
ولكن كيف يمكن أن يحصل النظر بالطريقة التي يفسر بها في هذا المذهب؟ ليس أكثر إمكانًا
في الواقع أن يمر بالتماسات من خلال الأشياء الشفافة منه في خلال المسام إذا كانت
المسام كلها مليئة، فأين يكون الفرق إذن بين أن يكون لها مسام وبين ألا يكون لها ألبتة
ما دام أن الكل سيكون مليئًا على السواء؟ بل إذا كانت هذه المسام ذواتها مفترضة خالية
وإذا كان فيها أجسام، فحينئذ تعود الصعوبات أنفسها. ولكن إذا افترض أن المسام ذوات
امتدادات صغيرة بحيث لا تستطيع بعد أن تقبل أي جسم اتفق، فإن من سفه الرأي أن يتصور أن
الصغير خالٍ وأن الكبير ليس كذلك، مهما كانت سعته، وأن يتمشى بالاعتقاد إلى أن الخلو
هو
شيء آخر غير مكان الجسم، بحيث إنه — كما هو بين ذاته — يلزم أن يكون الخلو دائمًا على
مقدار مساوٍ للجسم نفسه.
١٩
وعلى جملة من القول فإنه غير مفيد افتراض مسام، فإذا كان جسم لا يفعل في آخر بمسه،
فلن يفعل أيضًا بأن يخترق مسام، وإذا كان إنما يفعل بالمس فحينئذ — حتى بدون مسام —
تفعل الأجسام أو تقبل الفعل كلما وضعها الطبع أحدها تلقاء الآخر في علاقة من هذا
القبيل.
٢٠
والحاصل أنه يرى من كل ما تقدم أن تصور مسام على الوجه الذي فهمها به بعض الفلاسفة
إنما هو خطأ كامل أو فرض باطل؛ فإن الأجسام بما هي قابلة للتجزئة مطلقًا في كل جهة، فمن
السخرية افتراض مسام ما دام أن الأجسام بما هي قابلة للتجزئة يمكنها دائمًا أن
تنفصل.
٢١
هوامش