الباب التاسع
أما نحن فإننا — صاعدين إلى المبدأ الذي طالما قررناه — نُعِيد إيضاح الطريقة التي
بها الكون والفعل والانفعال تقع في الأجسام. في الواقع إذا كان شيء له الخاصة الفلانية
تارة بالقوة المحضة وتارة بالفعل وبالكمال، وإذا كان يمكنه بالطبع أن ينفعل في واحد
معين من أجزائه ولا ينفعل في الآخر، ولكن في مجموعه ينفعل بنسبة ما له من هذه الخاصة،
فمن البيِّن أنه سينفعل أكثر أو أقل تبعًا لما أن هذه الخاصة فيه أكثر شدة أو أقل. على
هذا الوجه على الأخص قد يمكن بأكثر سهولة التسليم بوجود المسام، وتكون حالها على ذلك
في
الأجسام كما هو الحال في المعادن تمتدُّ أحيانًا عروق متصلة من المادة القابلة لانفعال
ما.١
على ذلك كلما كان الشيء متجانسًا وكان واحدًا كان غير قابل، ويجري هذا المجرى أيضًا
متى كانت الأشياء لا تتلامس بينها، أو لا تلامس أغيارًا يمكنها بطبعها أن تفعل أو
تنفعل، أعني مثلًا أنه ليس فقط النار تسخن بالتماس ولكنها تسخن أيضًا على مسافة؛ لأن
النار تسخن الهواء، والهواء يسخن الجسم؛ لأن الهواء بطبعه يمكن أن يفعل وينفعل
معًا.٢
ولكن متى يقال إن شيئًا يمكن أن ينفعل في واحد من أجزائه ويمكنه ألا ينفعل في آخر،
فينبغي إيضاح ماذا يعني بذلك بعد الحد المعطى في المبدأ، فإذا كان في الواقع العظم ليس
هو مطلقًا قابلًا للتجزئة في جميع الجهات لكن فيه شيئًا ما جسمًا كان أو سطحًا يكون غير
قابل للتجزئة فيه؛ فقد ينتج من ذلك أنه لا يوجد بعد من عظم يمكن أن يكون بكله قابلًا،
بل قد لا يكون بعد من شيء أمكن أن يكون متصلًا، وحينئذ إذا كان ذلك خطأً وكان كل جسم
قابلًا للتجزئة دائمًا فلا يهم بعد أن يكون الجسم مقسومًا فعلًا، وبهذه الصفة قابلًا
للتماسات أو يكون بالبساطة قابلًا للتجزئة؛ لأنه ما دام يمكن أن يكون مقسومًا في نقط
التماس — كما هو المدعى — يمكن اعتباره كأنه مقسوم حتى قبل أن يكونه، ويكون قابلًا
للقسمة ما دام أنه لا شيء مما هو محال يكون أبدًا.٣
وإن ما يجعل سخيفًا تمامًا تقرير أن الفعل والانفعال يحصلان على هذا النحو بشق
الأجسام هو أن هذه النظرية تمحو الاستحالة وتفسدها. وعلى هذا نحن نرى أن جسمًا بعينه
دون أن ينقطع عن أن يكون متصلًا هو تارة سائل وتارة متجمد دون أن يقبل هذا التحول لا
بقسمة أجزائه ولا باتحادها ولا بنقلتها ولا بتماسها كما يزعم ديمقريطس؛ لأن الجسم ما
كان ليغير وضعه ولا ليغير مكانه ولا ليغير طبعه ليصير متجمدًا بعد أن كان سائلًا، وليس
يرى أيضًا أن الأشياء المتصلبة والمتجمدة تكون حالًا غير قابلة للقسمة في كتلتها، بل
الجسم بكله يكون على السواء سائلًا وأحيانًا يصير بكله صلبًا ويتجمد.٤
وأخيرًا؛ في هذا المذهب قد لا يمكن بعد وجود نمو الأشياء ولا اضمحلالها؛ لأنه لا
جسم
يمكن أن يصير أكبر إذا لم يكن هناك إلا مجرد إضافة، وإذا لم يتغير بكله على أثر اختلاط
بشيء أجنبي أو على أثر تغير ما يحصل فيه.٥
ونحن نقتصر على ما أتينا به من القول فيما يتعلق بكون الأشياء وفعلها وتناسلها
وتحولاتها المتكافئة، وهذا يكفي على سواه ليفهم على أي النواحي هذه النظريات تكون ممكنة
وكيف لا تكونه بحسب الإيضاحات التي أعطيت عنها أحيانًا.٦
هوامش
(١) (ب٩ ف١) المبدأ الذي طالما قررناه: وهو التمييز بين ما هو بالقوة وما هو
بالفعل كما سيرد في السطور الآتية. بالقوة المحضة: أضفت كلمة «المحضة». بالفعل
وبالكمال: ليس في النص إلا كلمة واحدة؛ فإن التمييز بين ما هو بالقوة وما هو
بالفعل هو أحد المبادئ الأساسية لمذهب المشائين. ولكن قد يرى أن تطبيقه هنا ليس
واضحًا جدًّا — بل ولا نافعًا جدًّا — لإيضاح نظرية المسام. وإذا كان يمكنه
بالطبع: قد تركت للجملة اليونانية طولها كله لكيلا أغير تأليفها في النص. قد
يمكن بأكثر سهولة التسليم: عبارة النص ليست على هذا القدر من البيان ولو أن
عبارتي في الترجمة ليست على ما كنت أريد أن تكون من الجلاء. وتكون حالها على
ذلك في الأجسام: في الحق إنها لا تكون بعد مسام، بل تكون فقط بعض أجزاء من مادة
الجسم أكثر قابلية من غيرها لقبول الأثر الفلاني أو الفلاني. كما هو الحال في
المعادن: المشاهدة مع ذلك حقة، وليس ولا واحد إلا شاهدها. القابلة لانفعال ما:
ليس النص على هذا القدر من البيان.
(٢) كلما كان الشيء متجانسًا وكان واحدًا: أو بعبارة أخرى ألا يكون مستجمعًا
الشرائط المطلوبة لينفعل أو ليحدث فعلًا، ما دام أن الشيء لا يمكن أن يفعل في
نفسه وكان الشبيه لا يفعل في الشبيه ولا يقبل منه. كان غير قابل: بمعزل عن كل
فعل وكل انفعال آتٍ من ذاته. لا تتلامس بينها: بلا واسطة. أو لا تُلامس
أغيارًا: تصلح إذن كوسطاء للوصول إلى الشيء الذي عليه يقع الفعل. أن يفعل: بأن
ينقل إلى الجسم الحرارة التي تلقاها. وينفعل: بأن يقبل مباشرة حرارة النار التي
يجب أن ينقلها.
(٣) متى يقال: يمكن ترجمتها أيضًا «متى أقول»؛ فإن الفرق بينهما غير بيِّن في
النص. بعد الحد المعطى في المبدأ: قربت الترجمة من النص بقدر ما استطعت، ولكن
الفكرة لا تزال غامضة، ولم يغنِ شرح فيلوبون في جلائها شيئًا. فقد ينتج من ذلك:
عبارة النص ليست مضبوطة، ولكن هذا المعنى يظهر أنه ينتج لزومًا مما يلي. يمكن
أن يكون بكله قابلًا: ر. الفقرة السابقة. أمكن أن يكون متصلًا: لأن الذرات
منعزلة بعضها عن بعض، وما دامت منفصلة هكذا لا يمكن أن يكون لها الاتصال الذي
هو ضروري لتأليف جسم. وكان كل جسم قابلًا للتجزئة: هذه هي نظرية أرسطو المبسوطة
مرارًا في «الطبيعة». مقسومًا … قابلًا للتجزئة: هذا هو ما بالفعل وما بالقوة.
في نقط التماس: عبارة النص هي: «بحسب التماسات». لا شيء مما هو محال يكون
أبدًا: هذا المبدأ بديهي للغاية، ولكن لا يرى وجه اتصاله بما سبق، وقد أفرغت
جهدي في استجلاء هذه الفقرة فلم أنجح، ولم أجد الشراح بما فيهم سان توماس قد
نجحوا في ذلك أيضًا. وهاك تفسيرًا يساعد بالأقل على تسلسل المعاني: «لكي تفسر
ماهية الفعل والانفعال في الأشياء يلزم التسليم بأنه من المحال أن شيئًا يقبل
فعلًا ما في واحد من أجزائه ولا يفعله في الجزء الآخر؛ فالشيء إما أن يكون بكله
قابلًا وإما أن يكون بكله فاعلًا. فإذا سلم بالذرات فحينئذ يمكن ألا يكون الشيء
بعد قابلًا بكليته، ولكن بذلك أيضًا ينقطع عن أن يكون متصلًا، وإذن فمذهب
الذرات باطل، وكل عظم هو دائمًا وعلى الإطلاق قابل للقسمة دون أن يمكن الوصول
إلى جزئيات لا تتجزأ. ويكاد لا يهم ما إذا كانت القسمة واقعة ماديًّا أم ممكنة
إمكانًا مجردًا على وجه ذهني صرف، ويكفي إمكان حصولها ليكون الجسم الخارج منها
له دائمًا وحدته، وأن يكون بالنتيجة في مجموعه إما فاعلًا وإما قابلًا.»
(٤) الفعل والانفعال: النص غير محدد تمامًا، ولكني أحدد المعنى اعتمادًا على
تفسير فيلوبون. على هذا النحو: يعني بواسطة المسام التي افترضها بعض الفلاسفة.
بشق الأجسام: حفظت عبارة النص بعينها؛ فإن الأجسام هي بنحو ما مشققة بالمسام
التي تتخللها. تمحو … وتفسدها: ليس في النص إلا كلمة واحدة. الاستحالة: يعني أن
في هذا المذهب لا يمكن إدراك ظاهرة الاستحالة. دون أن ينقطع عن أن يكون متصلًا:
ليس النص على هذا القدر من الصراحة. تارة متجمد: يضرب فيلوبون مثلًا لذلك اللبن
الذي هو تارة سائل وتارة متجمد. وقد يمكن الظن — كبعض الشراح — أن المقصود
أيضًا هو الماء؛ فإنه تارة سائل وتارة جليد. بتماسها: على تقدير بأجسام أخرى.
كما يزعم ديمقريطس: وفي الحق هذه هي كل ما ينسبه ديمقريطس إلى الذرات من
الخواص. متجمدًا: أو جليدًا. حالًا: أي في النظام الحالي للطبع. غير قابل
للقسمة في كتلتها: يفهم سان توماس من هذا أنه لا حاجة بأن تتجمد الأشياء أو
تتجلد إلى أن تدخلها ذرات غير قابلة للقسمة، بل هي تكابد هذا التغير في جوهرها
الذاتي على السواء؛ أي في جميع أجزائه بدون أن بعضها يعاني التغير الذي تقاومه
الأخرى.
(٥) في هذا المذهب: أضفت هذه الكلمات لتبيين الفكرة. قد لا يمكن بعد وجود: يعني
أنه لا يمكن توضيح ما هو نمو الأشياء أو اضمحلالها. إلا مجرد إضافة: بأن تأتي
الذرات فتنضم إلى الجسم لتنميه وتزيد حجمه، أو أنها تنسحب منه لتنقصه أو
لتهلكه. بشيء أجنبي: أضفت الكلمة الأخيرة. يحصل فيه: النص ليس على هذا القدر من
الضبط.
(٦) نقتصر: هذا ملخص مضبوط لكل هذا الباب والأبواب السابقة من أول الباب السابع.
وإن أرسطو بعد أن فسح مكانًا لتوضيح المذاهب الأخرى لم يكد يفسح لمذهبه الخاص
من الإيضاح ما كان يستدعيه من البيان والإطناب.