أصل النقود وبدء ضربها
معاملات الإنسان الأول
ما كان للإنسان أن يعرف التعامل وهو يعيش في زمرة الحيوان معدوم المطامع إن بدت له حاجة حازها غصبًا وإلا انصرف عنها عاجزًا.
حتى إذا ما بلغ عهده الباليوليطيقي، وتولدت مطامعه من حاجاته أعمل عقله، فاتَّخذ من الحجارة ذات الأطراف الحادَّة عدَّة يقاتل بها الضواري دفاعًا عن نفسه، أو يصيدها ليتخذ من لحومها وفرائها طعامًا ولباسًا.
ولا يلبث أن يجد نفسه مضطرًّا إلى التفكير في الأخذ والعطاء ليحصل على اللحوم والجلود إذا طلبها فامتنعت عليه، فيجتاز مرحلة الحيازة كرهًا إلى مرحلة الحيازة عن طريق الرضاء المتبادل بينه وبين شخص آخر.
يقول الاقتصادي الكبير آدم سميث في تعليل ذلك: «إن الإنسان مدفوع بسليقته إلى المبادلة التي فُطِر عليها دون غيره من الحيوان.» ولكن آدم سميث لم يبين لنا أن هذه الظاهرة نتيجة محتومة لعقل الإنسان ولسانه، فلم يعللها ذلك التعليل الموجز الجامع الذي قال فيه ابن خلدون: «إن الإنسان مدني بطبعه.» ولم يذهب في دقة التحليل مذهب الأستاذ زيمل حين قال: «إن الإنسان هو الحيوان الوحيد الذي يرى الأمور على حقيقتها المجردة، فينزل على حكمها فيتبادل مع غيره؛ لأنه يجد في المبادلة شيئًا أسمى من الإعطاء والحرمان.» وهي عنده تقويم وقبول يخرج المسألة من مجرد استلاب لحاجة الغير إلى حيث تصير نفعًا لا غنى عنه. ولكن كيف كان يجرى ذلك التعامل في أول عهد الناس به؟
إن التعامل لم يكن يتمُّ إلا بين شخصين كل منهما في حاجة إلى ما عند صاحبه، ولم تكن الحاجيات إذ ذاك لتزيد عن اللحوم والجلود والعظام، ولما كانت اللحوم سريعة العطب فإن الجلود والعظام كانت هي الأكثر تداولًا في المعاملات، حتى قال المؤرخون: إن المبادلة قامت في الجماعات البشرية على اختيار مادة أو أكثر تؤدي بين الناس مهمة الوساطة في التبايع، وكسب الأرزاق، ويستندون في زعمهم هذا على وجود كميات من المحار وعظام الحيوان عثر عليها المنقبون إلى جوار هياكل آدمية يرجع تاريخها إلى أقدم العصور، ويستنتجون من دفن هذه العظام والمحار مع الموتى أنها كانت تعتبر في الأزمنة الغابرة من الأمتعة الثمينة المذخورة التي كانت تتداول، وصح بذلك رأي المقريزي؛ فقد ثبت بالدليل القاطع أن المحار كان نوعًا من العملة في بعض البلاد الصينية، وأنه ما زالت بعض القبائل المتوحشة من هنود أمريكا وزنوج أفريقيا يتعامل الآن بالمحار وعظام الحيوان وريش الطيور، ويفرق بينها في القيم تبعًا لألوانها وأحجامها، وهذا هو أيضًا رأي علماء عادات الشعوب الذين يقولون بوجود شبه كبير بين الأقدمين الباليوليطيقين، وبين هذه القبائل المعاصرة.
السلع النقدية
إننا وإن كنا لا نستطيع أن نقطع برأي حاسم في أمر من أمور تلك الحقبة المجهولة من عمر الإنسانية، إلا أننا نستطيع أن نتحدث في شيء من الدقة عن المعاملات في عهد الإنسان النيوليطيقي الذي عرف الزراعة واستأنس الماشية، والذي عثر على النحاس وهو يشق الأرض، فاستخدمه في تقوية عدده الخشبية والحجرية، ثم صنع منه أخيرًا ما رآه لازمًا لأغراضه الأخرى.
وبديهي أن الإنسان في ذلك الوقت كان قد أدرك القليل من معاني الرزق، وكنه الثروة، ولا شك في أنه قد كثرت معاملاته، ومن المحقق أنه قد تعامل بأنفع ما يملك من الأشياء، وهي عدد القتال وأدوات الفلاحة والمحاصيل الزراعية والماشية.
وقد لعب الثور دورًا هامًّا في تاريخ الشعوب كلها، وحسبه أن كانت له القيمة الكبرى في التقديرات كما للذهب الآن، ولذلك رسمه قدماء المصريين على آثارهم جاثمًا في كفة ميزان، وفي الكفة الأخرى حلقات المعادن المعروفة لعهدهم.
وكذلك كان قدماء الإغريق يقوِّمون به السلع، فقد جاء في إلياذة هوميروس: أن سلاح ديوميد قدر بتسعة ثيران، كما قدر سلاح جلوكوس بمائة ثور، وقدرت الجارية بأربعة ثيران، وهذا هو نفس ما يجرى عليه العمل الآن عند قبائل خط الاستواء، حيث يقدر الرقيق بخمسة ثيران أو ببندقية ذات ماسورتين ومعها زجاجتان من البارود.
ومن السلع النقدية ما تفرضه ظروف خاصة على بلد من البلدان كالأرز وأقراص الشاي المضغوط في آنام وسواحل الصين والهند، وكالحيتان والجلود السميكة في المناطق الشمالية من الكرة الأرضية.
وواقع الأمر أن العرف أو الحاجة في كل شعب كانا يقضيان عليه دائمًا بالتماس مادة نافعة أو ضرورية من المواد المتوفرة لديه، يتبادلها أفراده فيما بينهم تبادل النقود، ويرضون بها تسهيلًا لمعاملاتهم أو تحقيقًا لمنفعة تستفاد منها فتجعلها هدف الجميع ومطمع رغباتهم.
اختيار المعادن
لكن الرضاء بسلعة من السلع سواء لنفعها أو لتسهيلها التعامل قد أفضى إلى ضرر محقق يعود على من يقبلها؛ فالماشية مثلًا تحتاج إلى إيواء ورعاية وإطعام، وقد تهلك أو تصاب بمرض كان يستحيل علاجها منه فيما سلف من الزمان فتموت، والمحاصيل هي الأخرى تصاب بالفساد إذا تقادم عليها العهد، وقد يلتهمها الحريق، أو تكسد سوقها، وفي ذلك خسارة أو ضياع تام للثروة.
لا بد إذن من الاعتماد على سلعة تجمع بين المنفعة وبين البقاء على الحوادث، ذلك هو أصل الفكرة التي أوحت إلى الناس أن يتخذوا من المعادن وسيطًا في المبادلات؛ لأن المعادن لا تحتاج إلى نفقة في حفظها، وهي فوق ذلك تتحمل عوادي الدهر، وتمتاز بسهولة نقلها من مكان إلى آخر، وأن منها الرخيص والمتوسط والنفيس، ثم أنها قابلة للتجزئة إلى أجزاء توافق مختلف الأغراض.
ومنذ أقبل الناس على استعمال المعادن في الصناعة والمعاملات تغير وجه التاريخ.
وإذ كنا بصدد الكلام عن اتخاذها أساسًا للمعاملات نقول إن الإنسان استعملها أول ما استعملها، في شكل أجرام تباع وتشترى بها الأشياء وزنًا، فمن أراد شراء شيء اتفق مع البائع على أن يعطيه ذلك البائع كذا ضعفًا لوزن القطعة المعدنية التي يدفع بها إليه، ولكن هذه الطريقة كانت متعبةً وغير عملية؛ فقد يرغم شخص على أخذ أكثر مما يلزم لحاجته، بل ربما استحال العمل بهذه الطريقة إذا كان البديل مما لا يمكن وزنه؛ ولهذا عدلوا عنها سريعًا إلى اقتطاع أوزان من الجرم المعدني بمقدار ما يوازي الكمية المطلوبة من السلعة المبيعة، ولكن هذه الطريقة أيضًا ظهرت لها عيوب؛ إذ إنها تستدعي وجود طائفة من الصناع عند المتعاملين، مهمتهم كسر الأجرام المعدنية، وردها إلى الأوزان المطلوبة.
وأخيرًا لم يكن بد من إعداد المعادن في أوزان معلومة مقدَّرة، والاحتفاظ بها في الأقبية المنيعة حتى تقضي الضرورة بإخراجها للاستعمال.
إشراف الدولة على الأرزاق
تداول الناس هذه الأوزان المعدنية تحت مسئولية أصحابها الذين كتبوا عليها أسماءهم أو وسموها بعلامات مميزة تدل على أنهم هم مصدرها، وأصبحت نقودًا خصوصيةً يخرجها الأغنياء وكبار التجار، وكانوا يُسألون عنها أمام الحاكم إذا اتضح له وجود عيب فيها.
ولئن كان من السهل على من يتعامل بهذه النقود أن يتأكد من مقدار وزنها، فقد كان من أصعب الأمور عليه أن يأمن الغش والتزييف فيها إذا كانت من معدن نفيس كالذهب أو الفضة.
ولقد سنت بعض الدول القديمة كمصر واليونان قوانين تنص على عقوبات صارمة لمن يطفف الوزن أو يغش المعادن النفيسة، ولكن تنفيذ هذه القوانين بدقة لم يكن ميسورًا، وخصوصًا أن صاحب المعادن قد يكون جاهلًا ما فيها من غش؛ لأنه قبضها ثمنًا لبضاعة باعها لتجار أجانب من المستحيل تَعَقُّبهم وإدانتهم.
فلما عجزت تلك القوانين عن منع الغش فرضت الحكومات وزنًا وعيارًا للمعادن التي تستعمل في التجارة، ثم أمرت أن تقدم هذه المعادن إلى المشرفين على مال الدولة؛ للتأكد من أنها مطابقة لما أمرت به، فإن كانت مطابقةً وضعوا عليها خاتمهم، أو طابع الدولة ليأمن الناس مكر المدلسين، وتعتمد التجارة على أوضاع معلومة مقدَّرة من الحكومات الموثوق بها.
ولو تأملت في ذلك لرأيت أن الدولة قد خطت الخطوة الأولى في سبيل سك العملة من غير أن تشعر، فهي لم تقصد إلا منع الغش في المعادن المتبادل بها، فكانت تقوم بهذا العمل بدون أجر، ولكنها فيما بعد أخذت عليه أجرًا جُعلًا معلومًا من المعدن الذي يقدم لها لامتحانه.
ولم يَطُل الوقت بالحكومات حتى وجدت من دواعي الفخر وتعزيز السلطان، بل والكسب أيضًا أن تشتري المعادن وتضربها لحسابها الخاص في مثل تلك الأوزان والأعيرة التي اعتمدتها.
ثم تطورت الفكرة مع الزمن إلى جعل المعادن في أحجام قليلة الوزن يسهل على الأفراد التعامل بها، ثم حفرت عليها نقوشًا، ثم لم تلبث أن صبتها في القوالب لتكون النقوش واحدةً في جميع القطع المضروبة.
ولما كان الدين هو المسيطر في العصور القديمة، وهو المهد الذي نشأت فيه الفنون الجميلة تقربًا للآلهة؛ فقد جاءت نقوش العملة في سائر البلاد تقريبًا مستمدةً من الأساطير والعقائد الدينية؛ حتى تكون النقود موضع الاحترام، وتفيء عليها الآلهة من بركاتها.
أول من ضرب النقود
وهنا يتعين أن نطرح على أنفسنا السؤال الآتي: أي الشعوب قد بدأت حكومته تضرب العملة المعدنية؟ سؤال لا بد لنا من الإجابة عليه برغم صعوبته؛ إذ لو كان السؤال هو أي الشعوب قد بدأ باستعمال المعادن في مقام النقود لكانت الإجابة عليه بإجماع آراء العلماء والباحثين أنه هو الشعب المصري القديم؛ لأن قدماء المصريين قد تعاملوا وتعاقدوا وقدروا قيم السلع بحلقات من المعادن ذات أوزان ثابتة معروفة، أقدمها بطبيعة الحال حلقات البرونز المصنوع من النحاس الذي استخرجوه من مناجم سينا قبل ميلاد المسيح عليه السلام بأربعة آلاف سنة.
أما حلقات الذهب وقضبانه الملتوية، فلم يستعملوها إلا بمقادير قليلة نظرًا لصعوبة الحصول عليه، ولم يثبت استعماله إلا قبل المسيح بألف ومائتين من السنين، بينما الفضة لم يثبت استعمالها في تلك الأغراض في الأزمنة الغابرة بمصر؛ لأنها كانت قليلة الوجود فيها؛ ولذلك كانت في بعض الأحيان أغلى من الذهب، ومما يذكر عن قدماء المصريين أنهم كانوا يصبون هذه الحلقات والقضبان في القوالب، ثم يزنونها للتأكد من صحة وزنها قبل الدفع بها إلى التعامل.
أما إذا كان التعامل بقطع يضربها الحاكم باسمه، فهنا البحث بين المؤرخين، قال بعضهم: إن الصينيين هم أول من عرف العملة المعدنية، وأن القطع المعدنية التي عثرت عليها جمعية التنقيب البريطانية في مقاطعة البنجاب بالهند، وأرجعت تاريخها إلى ما قبل ٢٥٠٠ أو ٣٠٠٠ سنة قبل الميلاد، تلك القطع التي بعضها كالقوارب شكلًا، وفي وسطه ما يشبه طابعًا أو خاتمًا لحاكم قديم، وبعضها مثل عددًا أو أدوات صغيرة جدًّا لا يعقل أنها كانت تستعمل في القتال، أو في أغراض الفلاحة، إنما كانت بالفعل نقودًا متداولةً في بلاد الصين، ثم انتقلت منها إلى البلاد الهندية في ظل بعض الفاتحين.
ولقد ذهب أصحاب هذا الرأي إلى حد قالوا معه إن الصينيين هم أيضًا أول من اتخذ النقود الورقية، وأن تجارهم كتبوا في تلك المدة تحاويل وسفاتج على قطع من الجلود والخشب كما فعل الفينيقيون، وأن بعض ملوكهم — كما نقل المقريزي — صنع عجينةً من لباب الشجر، وكتب عليها قيمة مقدرة أجبر شعبه على التعامل بها في محنة لم يجد في وقتها ما يلزمه من المعادن، ولكن قد اتضح أخيرًا بطلان رأي القائلين بأن الصينيين القدماء هم أول من عرف العملة وضربها؛ لأنه رأي اعتمد على تقديرات خاطئة في حساب التواريخ ومقارنة المدنيات.
قال هيرودوت عن الليديين: إنهم أول من ضرب العملة المعدنية، وقد تعزز قوله بدليل مادي هو عثور المنقبين في حفائر ليديا على عملة تعتبر أقدم العملات التي وجدت، ويرجع تاريخها إلى القرن الثامن قبل الميلاد، وكذلك ثبت من الوجهة التاريخية أن معبد أفسوس الذي بني في القرن السابع قبل الميلاد قد دفعت نفقات بنائه قطعًا من العملة.
ولا يسعنا ما دام لم يتأكد بوجه قاطع من البحوث التاريخية من الذي كان له فضل السبق بين الشعوب في ضرب العملة إلا أن نأخذ مؤقتًا برأي هيرودوت حتى يظهر لنا ما ينقضه، فنصف لك هنا عملة هؤلاء الليديين الذين سكنوا أزمير، وما جاورها من غرب آسيا الصغرى، وضربوا عملتهم في بادئ الأمر من معدن وجدوه عند شواطئ بلادهم، اختلط فيه الذهب بالفضة اختلاطًا طبيعيًّا بنسبة تتراوح بين ٥٪ و٩٥٪، وكان اللون هو الذي يميز على وجه التقريب نسبة الذهب إلى الفضة في ذلك الاختلاط، فإن كان المعدن ضاربًا لونه إلى البياض كانت الفضة هي المتغلبة فيه، وإن كان لونه ضاربًا إلى الصفرة، فالذهب هو الأكثر.
وقد سمى الإغريق ذلك المخلوط بالإلكترم، وقال بليني: إنه لم يكن يعتبر من الإلكترم إلا المخلوط الذي أربعة أخماسه من الذهب، والواقع أنه كانت لكل بلد من بلاد ليديا نسبة تعرف بها فمتى ذكر مصدر الإلكترم تعينت نسبة ما فيه من المعدنين.
ويعتقد العلامة جاردنر أن أول ملك سك العملة الرسمية في ليديا هو الملك كروسوس، وكان ملكًا يكتنز المعادن، ويحتكر التجارة لنفسه مع الشعوب المجاورة لبلاده، ويرى العلامة هد أن أول ملك سك العملة في ليديا هو واحد من اثنين: إما جايجيز أو ألياطس.
ولم يستطع الليديون البقاء على استعمال عملة ذلك الخليط نظرًا للمتاعب التي قامت بسبب نسب الاختلاط فيه؛ فتركوه في منتصف القرن السادس، وضربوا عملةً من الفضة وحدها، وأخرى من الذهب بمفرده، وكانت الفضة التي ضربوها على نوعين؛ نوع تزن القطعة منه ١٦٨ قمحةً، ونوع آخر تزن القطعة منه ٢٤٤ قمحةً، وكذلك جعلوا القطع الذهبية على نوعين: أحدهما تزن القطعة منه ١٢٦ قمحةً، وتوازي في الصرف عشر قطع من القطع الفضية الخفيفة، وثانيهما تزن القطعة منه ١٦٨ قمحةً من الذهب، وتوازي في الصرف عشر قطع من القطع الفضية الثقيلة.
وحدة الوزن والتقدير
ويميل الأستاذ بيرنز إلى الاعتقاد بأن الليديين قد أخذوا وزن النقود الثقيلة عن وحدة الفنيقيين كما أخذوا وزن النقود الخفيفة عن وحدة البابليين، ولكننا نرى أن وزن القطعة الذهبية الخفيفة مأخوذ عن قدماء المصريين؛ فقد جعلوا ثمن الثور ووحدة ما فرضوه في الجزية على البلاد التي غلبوها وزن ١٢٦ حبةً من حبوب القمح الناضج المستوي الأطراف، وهذا يشبه تعريف المشرع الإنجليزي للبنى بأنه وزن ٣٢ حبةً من حبوب القمح الناضج المستدير الأطراف، وواقع الأمر هو أن النقود قد قامت على وزن من الحبوب، ثم أصبحت بدورها وزنًا للمعادن النفيسة والسلع الصغيرة أو النادرة، ثم انتهت بأن تكون ثمنًا للمبيعات وتقديرًا لقيم الأعمال.