الخلفاء وعمالهم في الإسلام
العرب في الجاهلية
لم يعرف العرب في جاهليتهم أي نظام سياسي يستدعي قيام حكومة فيهم تُعنى بضرب النقود، وأغلبهم يعيش في بيئة بدائية لا تعدو الثروة فيها الأنعام، وما تدره الأنعام من لبن وصوف، وما تنتجه أرضهم من محاصيل كالشعير والقمح والتمر والأعشاب العطرة، تلك نقودهم التي كانوا يتبادلونها في معاملاتهم، وبضاعتهم التي كانوا يعرضونها للبيع في أسواقهم ومواسمهم التي كانوا يجتمعون فيها لغرض أدبي أو ديني، فإذا كان التعامل يستلزم دفع مبلغ كبير قضوه بالإبل، فإذا احتاج إلى مبلغ متوسط دفعوه بالضأن، أما إذا احتاج إلى مبلغ زهيد فإنهم يؤدونه بالمحاصيل الناتجة من الأرض أو الحيوان.
ولما كانت جزيرتهم وسط أمم غنية متحضرة كالرومان والفرس والمصريين، فقد قام فيهم نفر من اليهود بأعمال الوساطة في التجارة بين هذه الأمم، وسكن كثير من هؤلاء اليهود المواضع الهامة في النقل البري والبحري بتلك الجزيرة، أما العربي الصميم فلم يستفد من موقع بلاده إلا أن يؤجر ليحمل على إبله البضائع التي تعبر بلاده، أو ليدافع عنها في الطريق فلا يسلبها سالب.
واستدعى وجود هؤلاء التجار والوسطاء والقائمين بأعمال النقل وجود نقود أجنبية من البلاد التي كانوا يتعاملون معها، وكنت ترى هذه النقود في أيدي الأعراب عندما يرجع الواحد منهم في قافلة من القوافل التي عادت من سفرها، فيعطي تلك النقود إلى صائغ من الصياغ، ويأخذ منه بدلها سلعةً من السلع التي هو في حاجة إليها، والصياغ بدورهم يستفيدون من هذه العملية الرابحة؛ لأنهم يأخذون تلك النقود بأقل قيمة، ثم يقرضونها بربا فاحش للتجار، أو يصهرونها في سبائك لبيعها في البلاد الأخرى.
ولقد ذكر المؤرخون في هذا الصدد عملتين إحداهما فارسية والأخرى رومانية، أما العملة الفارسية فكانت من القطع الفضية، وقد أطلق عليها العرب الدراهم البغلية نسبةً إلى أحد سراة الفرس، أو المشرفين على دار الضرب، وكان العرب يسمونه رأس البغل، وكانت هذه القطعة الفضية سوداء اللون؛ لأن نسبة الفضة فيها كانت قليلةً، أما العملة الرومانية فكانت القطعة الفضية التي أطلق عليها العرب الدراهم الطبرية نسبةً إلى طبرية التي كانت ملتقى طرق تجارية، وربما كانت بها أيضًا دار لضرب النقود، وكذلك دخلت بلاد العرب القطعة الذهبية الرومانية، وكانوا تارةً يسمونها بالقيصرية نسبةً لمصدرها، وتارةً يسمونها بالهرقلية نسبةً إلى هرقل عظيم الروم.
يرى من ذلك أن العرب أطلقوا لفظ الدرهم على كل قطعة فضية مهما كان مصدرها، وهذا اللفظ محرف عن اللفظ الإغريقي دراخمة، كما أطلقوا كلمة دينار على القطعة الذهبية، وهذه الكلمة اختصار لكلمة ديناريوس أوريوس الرومانية.
في صدر الإسلام
لما بعث سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام لم يغير من نظام الجاهلية الاقتصادي؛ لانصرافه إلى نشر الدين، واكتفى بما فرضه الدين من زكاة في تلك النقود على من كان يملك منها ما تجب فيه الزكاة، وكذلك فعل سيدنا أبو بكر، ولم يكن الرسول وخليفته الأول قد فرغا من الجهاد حتى يمكنهما تدبير السياسة، وتنظيم النقود، وفضلًا عن ذلك فإنه لم يوجد عندهما كميات من المعادن تسمح بضرب مقدار معقول من النقود لو أنهما فكرا في ضربها.
وإذ يستقر الدين على عهد الخليفة العظيم عمر بن الخطاب، وتؤمن به كل قبائل الجزيرة، ويأخذ الفتح الإسلامي في طريقه ملك الفرس، وقسمًا كبيرًا من ملك الروم، ويقع بسبب ذلك الفتح في أيدي المسلمين مقادير كبيرة من الثروات والمعادن النفيسة إذ ذاك؛ أصبح لازمًا للمسلمين تدبير السياسة والمال، فيأمر عمر دار الضرب الفارسية أن تضرب النقود في طابع إسلامي، وأن تنقش عليها «لا إله إلا الله محمد رسول الله» بهذا وضع عمر الشعار الإسلامي على نقود فارس ليتداولها المسلمون في غير حرج من دينهم.
ويتضح لسيدنا عمر بعد ذلك أن المقدار الذي تستطيع دار الضرب الفارسية أن تخرجه قليل بالنسبة لحاجة المسلمين التي كثرت، واقتضت الإنفاق على الحروب مع الروم في الشام وفي مصر، وكان من نتائج تلك الحروب الضائقة التي عرفت بقحط عام الرمادة؛ فقد قل الإنتاج والنقود في أيدي الناس، وعالج الخليفة تلك الأزمة باستيراد المحاصيل من مصر، وبإكثار النقود بأن أمر دار الضرب أن تنقص الوزن فتجعله ستة مثاقيل لكل عشرة دراهم بدلًا من مثقال لكل درهم.
واتخذ سيدنا عثمان هذا الوزن في نقوده التي كتب عليها «الله أكبر» أما معاوية فأراد أن يرجعها إلى الوزن الأول، ولكن عامله زياد بن أبيه أقنعه باستعمال الوزن الخفيف.
وقد ضرب عبد الله بن الزبير في مكة حين شايعه أهلها نقودًا جميلة الشكل مستديرةً، كتب عليها «محمد رسول الله»، وعلى الوجه الآخر «أمر الله بالوفاء والعدل»، وكذلك ضرب أخوه مصعب في العراق دراهمه التي جعل وزن كل عشرة منها سبعة مثاقيل، وكانت نقودهما للدعاية لحكمهما، فلما تولى الحجاج بن يوسف على العراق ليدخله في طاعة الأمويين محا كل أثر من آثارهما، فحرم التعامل بتلك النقود، وصادر كل ما وجده منها، وقد استأذن الخليفة عبد الملك في ضرب نقود للعراق فأذن له بضربها.
وقد كلف الحجاج رجلًا يهوديًّا من تيما اسمه سمير بضرب نقود العراق فضربها، وسميت النقود السميرية، ولم يكتف الحجاج بذلك بل ما زال يلح على الخليفة أن يضرب نقودًا لعامة المسلمين، ووسط لديه أهل الرأي من القادة والعلماء فحبذوا له ضرب النقود من الوجهتين الدينية والدنيوية فأقنعوه بذلك.
عبد الملك يضع أول نظام نقدي
روى بعض المؤرخين أن السبب الذي حدا بعبد الملك بن مروان إلى وضع ذلك النظام الذي يعتبر بحق أول نظام للنقود عند المسلمين، لم يكن مجرد إلحاح الحجاج عليه فحسب، بل هناك سبب أقوى يتعلق بكرامة المسلمين، وبشخصية عبد الملك السياسية الفذة، هناك سوء تفاهم مستمر بين هذا الخليفة وبين إمبراطور الدولة الرومانية الشرقية، وعداوة يكتمها المسيحيون للمسلمين الذين لم يقنعوا بما أخذوه من بلاد الروم، حتى طمعوا في البقية الباقية منها متطلعين دائمًا إلى فتح القسطنطينية.
وفي مثل هذا الجو المفعم بعدم الثقة تقع بعض الحوادث التي تغير مجرى الأمور، ومما يرويه المؤرخون أن المسلمين قد استفزهم وضع النصارى للصليب على البضائع التي يوردونها للمسلمين، كما استفز الإمبراطور والنصارى أن المسلمين عندما كانوا يكتبون لهم يبدءُون الخطاب بوحدانية الله والصلاة على نبيه، هدد المسلمون النصارى بمقاطعة بضائعهم، وهدد الإمبراطور رسولًا جاءه بكتاب من عبد الملك أنه إذا لم يمتنع الخليفة والمسلمون عن ذكر الوحدانية، فإنه سيكتب على نقوده التي يتداولها المسلمون ما لا يرضيهم.
ولا يكاد عبد الملك يسمع بهذا التهديد حتى يأمر بتشكيل لجنة برياسة سمير؛ لتضع له النظام اللائق بعظمة الإسلام، وتقرر هذه اللجنة اتخاذ نقود من الذهب والفضة والنحاس ليكون النظام متينًا وافيًا بالغرض المقصود منه، وهو طرد نقود الرومان.
أما الحبة التي استعملها سمير في استخراج وزن الوحدة، فهي كما يقول المقريزي حبة من حبوب الشعير المتوسط الحجم غير مقشورة قص من طرفيها ما امتد، وعلى أساس هذا الوزن وضع سمير الرطل الإسلامي، ثم القدح، ثم الصاع؛ فكانت من عمله أيضًا قاعدة المكاييل، وقاعدة الموازين الإسلامية.
دار الضرب الأموية
وبعد أن سأل الخليفة الفقهاء عن هذا النظام، وأفتوه بصحته ووجوبه شرعًا؛ أمر من فوره ببناء دار للضرب في دمشق عاصمة ملكه، واشتغل في تلك الدار مئات من العمال ليلًا ونهارًا؛ لإخراج أكبر كمية ممكنة من النقود مع الدقة المتناهية في العمل، بحيث إذا اتضح أن قطعة من النقود خرجت ناقصةً في الوزن جلد العمال كلهم عشر جلدات عن كل حبة، كما اقترح عليه عامله الحجاج.
أبطل عبد الملك التعامل بغير نقوده، وألزم كل شخص يملك نقودًا رومانيةً أو أجنبيةً من أي نوع كان أن يقدمها لدار الضرب؛ لتعطيه بدلها نقودًا من النقود الجديدة، ومن تضبط في حيازته نقود أجنبية تصادر ويسجن، وقد أرسل للحجاج مقدارًا من هذه النقود الأموية، ولكنه لم يكن كافيًا فاستأذنه الحجاج أن يضرب في دار أخرى بالعراق فأذن له، وبنى الحجاج دارًا فرعيةً أخرى تولاها بهمته وحزمه المعهودين، فلم تلبث أن صارت لا تقل إنتاجًا ودقةً عن دار الضرب الدمشقية.
ومما يذكر بالثناء لهذا الخليفة وعامله وبعض الخلفاء الذين أتوا بعده، أنهم كانوا يشرفون بأنفسهم على عملية سك النقود، ويحضرون الوزن والخلط في المعادن، ولا يكتفون بذلك، بل يراجعون وزن بعض القطع المضروبة للتأكد من وزنها قبل إخراجها للتداول.
وكتب عبد الملك على أحد وجهي الدينار: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وعلى الوجه الآخر: الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد، وكتب في الطوق: محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولعله قصد من ذلك أن يرد عمليًّا على ملك الروم.
وقد قابل العلويون نقود عبد الملك بدعاية سيئة؛ لحقدهم على الأمويين، فأفتوا بتحريم تداولها شرعًا؛ بحجة أن ما عليها من كتابة تجعل حملها مكروهًا، فقد يتداولها الرجل وهو نجس، والمرأة وهي حائض، وربما تقع على الأرض، ولكن الخليفة وعامله القوي وضعًا حدًّا لتلك الدعاية فأمرا بعقاب من يرفض التعامل بها عقابًا شديدًا.
وتمكن عبد الملك وعامله الحجاج لكثرة مواردهما من المعادن؛ أن يضربا مقادير كافيةً من النقود، وثبتت بها الأسعار، واستقرت حصيلة الضرائب، كما أصبحت بيد الدولة أداة تقدير القيم، يضاف إلى ذلك أن عبد الملك أمر بأن تكون اللغة العربية هي الوحيدة المستعملة في دواوين الحكومة بدلًا من اللغة الفارسية التي كانت مستعملةً في العراق، واللغة الإغريقية التي كانت مستعملةً في الشام.
بقي ذلك النظام متبعًا بدقة في عهد الوليد، ثم سليمان، ثم عمر بن العزيز، إلى أن تولى الخلافة يزيد بن عبد الملك فأنقص الوزن في الدراهم التي ضربها له عمر بن هبيرة «الدراهم الهبيرية»، وجعله ستة دوانيق؛ لأنه أراد أن يكثر من النقود في الوقت الذي تغلغل الفرس في إدارة شئون الدولة فنشروا فيها الإسراف والترف.
ولما جاء هشام، وكان على حد قول المقريزي جموعًا للمال، أمر بإعادة الدرهم إلى وزنه السابق؛ حتى لا تقل موارد الخزانة، وقد حصر السك في واسط، ولكن هذا الوزن ما لبث حتى انحط في آخر عهد الأمويين بسبب الانحلال السياسي والاقتصادي الذي أضعفهم وأضاع دولتهم.
دولة العباسيين
ولما انتهى أمر الخلافة إلى العباسيين أنقص عبد الله بن محمد وزن الدرهم حبةً ثم حبتين فيما ضربه من النقود بالأنبار؛ لقلة موارده في المعادن، وكثرة ما أنفقه في القضاء على الفتن والثورات التي شرد وقتل فيها الكثيرين حتى لقبوه بالسفاح، وجاء بعده أبو جعفر المنصور فشغل أيضًا بمطاردة الأمويين الذين جعلهم يفرون إلى إسبانيا التي صارت هي وشمال أفريقيا بمعزل عن ملكه، ولا يكفي ما لديه من معادن للضرب فينقص من الدرهم ثلاث حبات.
أما هارون الرشيد فكان أسعد منهما حظًّا؛ لأن الفتن الداخلية هدأت في مدته، وإن كان قد حارب الروم في بعض معارك بحرية وبرية، إلَّا أنها كانت قصيرة الوقت قليلة الأهمية، فلم تؤثر على الرفاهية التي امتاز بها عصره، ويؤخذ على هارون أنه لم يتبع سنة الخلفاء في الإشراف بنفسه على الضرب، بل عهد بذلك إلى وزيره جعفر البرمكي المتلاف الذي أغدق الأموال بغير حساب على أعوانه، وقد ابتدع بدعةً جديدةً إذ سك عملةً للشعراء والمغنين من وزن منخفض سميت بالنقود الحسنية؛ نسبةً للقصر الذي عمره الحسن بن سهل ببغداد، وإذا كان جعفر وهارون يهبان الألوف كما نقرأ في القصص التي تروى عن ذلك العهد، فقد كانا يعطيان بتلك النقود الحسنية، وفضلًا عن ذلك فإن جعفر قد أنزل من الدراهم والدنانير العادية ثلاثة أعشار وزنها؛ كل ذلك ليضخم النقود، ويتمكن من تدبير ميزانيته، وقد سبب ذلك التضخيم رفع الأسعار وفساد النقود، فلما قتله هارون عهد إلى السندي بعلاج الحالة فأصلح النقود وجمع الرديئة، وسك بدلها نقودًا جيدةً فثبت الأسعار، وجعل النقود في الوزن الواجب لها، وردها إلى الأوضاع السليمة العواقب.
ويرث الأمين والده، وهو ربيب النعمة مكسال لا يعنى بشئون النقود، بل يعهد بها إلى وزيره العباس بن الفضل بن الربيع الذي ينتهز فرصة ضعف مولاه فيكتب اسمه هو الآخر مع سيده على العملة، وكان رجلًا فاسد الرأي سيئ التدبير، يتحرش بالمأمون يعمل للخلاص منه، وينادي بولاية العهد لموسى المظفر بن الأمين، ويضرب له نقود دعاية نقش شعرًا من النوع السخيف الذي اشتهر بنظمه، اضطر معه أن يكبر حجم تلك العملة لتسع هذه الأبيات الغريبة، وكانت عملةً سيئة الضرب، منحطة العيار كتب عليها:
ولكن المأمون انتصر، وجمع الخلافة كلها في يده، وعرف الإسلام في عهده وضع الميزانية وموازنتها، وإذ كان من الضروري له أن يصلح ما فسد من أمور النقد، فقد عهد إلى الخبراء في الضرب، والماهرين في الخط بتنظيم نقوده؛ فجاءت آيةً في الزخرف، على أنه وإن كان قد جعل وزنها ما يوازي اليوم ٤٫١٣٥ جرامًا في الدينار الذهبي، و٣٫١٥٠ جرامًا في الدرهم الفضي؛ فذلك راجع إلى ظروفه التي استلزمت إنقاص الوزن؛ لإكثار النقود حتى تفي بحاجاته في عصر يقتضي الإنفاق، ويستوجب الرخاء.
وبقي هذا الوزن أو ما يقرب منه متبعًا في أيام المعتصم والواثق والمتوكل والمستعين.
الدولة الطولونية
تفككت عُرى الدولة العباسية عندما هاجمها الترك والبربر، واحتلوا شطرًا من تخومها؛ فضاعت هيبتها من نفوس عمالها الذين تمكن بعضهم بسبب ضعفها من أن يستقل، وأن يحكم لحساب نفسه البلاد التي كان واليًا عليها من قبل الخليفة، ومن هؤلاء الحكام أحمد بن طولون، تربع على دست مصر، وأسس فيها عائلةً تعرف بالدولة الطولونية حكمت مصر، وضمت إليها جزءًا كبيرًا من أقاليم الشام الغنية، وفي عهد هذه الدولة ضربت في مصر أول نقود إسلامية.
وجاء بعد ابن طولون خمارويه يحسن ضرب النقود، بل يزيد في وزنها عن أبيه، ويضرب أيضًا في الشام نقودًا كالتي ضربها في مصر في سنوات ٢٧١ و٢٧٣ و٢٧٥ و٢٧٦ هجريةً، وكذلك أحسن الضرب جيش وهارون.
ونرجح أن الذهب كان هو المعول عليه في التجارة الخارجية على عهد هذه الدولة والدولة الإخشيدية التي تلتها في الحكم، وإن دار الضرب المصرية كانت هي المركز الرئيسي لضرب النقود، ولها فروع بدمشق وحلب تضرب للشام نقودها عند الضرورة.
الفاطميون بمصر
وأمر الخليفة أن يجري التعامل بنقوده وحدها، وحرم عمال الضرائب أن يأخذوا غيرها، وتمتعت مصر في عهده برخاء عظيم بسبب تنظيم مواردها الاقتصادية تحت إشراف ابن عسلوج، ومما يدلنا على كثرة المال في ذلك العهد أن إحدى الأميرات حُصرت تركتها بعد وفاتها فقدرت بملايين الدنانير.
ويخلف المعز في الخلافة ابنه العزيز، وكان خبيرًا بالمعادن النفيسة، يتقن صناعتها كأدق الصناع، ويسهر بنفسه على الحكومة وشئون المال، ويراجع إيرادات الدولة ومصروفاتها مراجعةً عليم بأصول المالية والحساب.
ولكن الرخاء الذي تمتعت به مصر في أوائل عهد الفاطميين ضاع في عصر الحاكم بأمر الله، ذلك الخليفة الغريب الأطوار الذي توزعت السلطات في مدته على الأقباط في الإدارة، وعلى اليهود في المال، وعلى المسلمين في الجندية؛ فكانت حكومته مجموعةً متنافرةً أثرت على أساليب حكمه، وقد انتشرت في مدته النقود الفضية المزيفة والناقصة الوزن؛ حتى صار الدينار يصرف بمبلغ ٢٤ درهمًا.
وأراد الحاكم أن يصلح ما فسد من أمر النقود، فضرب عملةً جعل الدينار يصرف بمبلغ ١٨ درهمًا منها، ولكنه لم يفلح؛ لأنه لم يستطع سحب النقود الرديئة كلها من أيدي الناس، ووقعت البلاد كلها في ضيق شديد؛ بسبب احتكاره وتوجيهه لبعض الصناعات، وكسدت التجارة فأراد أن ينشطها؛ فأمر بمنع استيراد البضائع من الخارج، وكان من رأيه أن يحمي الصناعات المصرية، وأن تستكفي مصر بنفسها، ولكنه لم ينظم الصناعات، ولم يؤسسها على القواعد الصحيحة، وإنما عهد بها إلى قوم لا دراية لهم من أدعياء الصناعة والتجارة، كان همهم أن يصيبوا الثراء، وأن يجمعوا من المال ما في وسعهم أن يجمعوه، وقد انتهى بهم الأمر إلى المضاربة في الأرزاق والأقوات، حين بدت عليه بوادر الجنون.
وحاول من بعده الظاهر أن يصلح الأحوال ولكنه أخفق، ثم كان الخراب في عهد المستنصر الذي حدث فيه قحط انتهزه التجار؛ فاختزنوا الحبوب والأقوات، ورفعوا سعرها إلى حد لم يسمع بمثله؛ أعجز الناس عن الشراء، ومات الكثيرون جوعًا، وانتهى الأمر بإفلاس الأفراد والحكومة بعد تلك الأزمة التي استمرت سبع سنوات أكل فيها الناس الكلاب والقطط، وباع فيها الخليفة أثاث قصره.
طابع النقود الإسلامية
امتازت النقود الإسلامية القديمة في مختلف البلاد والعصور بطابع خاص يفرق بينها وبين نقود الأمم الأخرى، وهو الامتناع كليةً عن رسم أشخاص أو صور رمزية من أي نوع كان، ولم يذكر المؤرخون عملةً واحدةً من العملات الإسلامية القديمة شذت عن هذه القاعدة غير ما نسبه العلويون إلى معاوية من كونه قد رسم نفسه على عملته الأولى، وهذا لم يثبت.
ويرجع السبب في عدم تصوير الأشخاص أو الحيوان على النقود الإسلامية إلى عقيدة عند معظم علماء الشريعة الإسلامية، يحرمون فيها التصوير الذي يرونه تشبهًا بالخالق، أو تقليدًا لأعمال الوثنيين الذين يعبدون الأصنام، والواقع أن في هذا الرأي إسرافًا من الفقهاء؛ لأن نية التشبه بالخالق في تصويره الخلائق لا وجود لها عند المصورين، كذلك تقليد الوثنيين لا يمكن افتراضه في المسلمين بعد أن قوي الدين في نفوسهم، وقد فوت علينا هؤلاء الفقهاء فهم كثير من حوادث التاريخ التي يفسرها الرسم أكثر مما تشرحها الكتابة.
ولما لم يجد المسلمون سبيلًا إلى التصوير؛ لجئوا إلى الزخارف الهندسية، والتنميق في الخطوط، فأبدعوا وجاءت نقودهم آية في الجمال، والذي يدقق في النقود الإسلامية يجد عليها مسحة من الفن الفارسي؛ لأن المسلمين استعانوا في كثير من الأحيان بالفرس، وهم إلى اليوم أهل فن وذوق في الزخارف والخطوط.
مرونة النظام الإسلامي
عف الخلفاء الراشدون، فلم يمدوا أيديهم إلى بيت المال الذي قام على تحصيل الأموال وإنفاقها على خير الوجوه في شئون المسلمين، وبلغ النظام المتبع في أيامهم أسمى ما وصل إليه خيال المثاليين من دعاة الاشتراكية، فلم يعتز غني على فقير، بل الخليفة نفسه كان أكثر الناس زهدًا في متاع هذه الحياة الفانية.
ولكن تغير الحال في عهد الأمويين، ومن جاء بعدهم في خلافة العباسيين والفاطميين؛ فقد اتخذ الخليفة مظهرًا سياسيًّا قلد فيه ملوك الفرس في إدارتهم لأموال الدولة، وتوجيههم الاقتصاد فيها طبق إرادتهم، ومشورة عمالهم، ووزرائهم المشرفين على دواوين الحكومة.
وكان النظام الإسلامي مرنًا في النقود، وفي فرض الضرائب والجزية يراعي حالة الأمة الإسلامية، وحالة الشعوب التي استعمرتها، وما هي عليه من شدة أو رخاء، فيزيد وينقص النقود والضرائب تبعًا لذلك، بعكس ما جرى عليه الرومان الذين لم يقفوا عند حد في فرض الضرائب، واستنزاف شعبهم ومستعمراتهم، بل كانوا يكثرون من الضرائب وقت الأزمات ليسدوا عجز مواردهم، ولو أفلس المحكومون.
وإذا استثنينا بعض حالات شاذة، فإن تدبير المالية وسك النقود في تلك الحقبة من تاريخ المسلمين كانا في منتهى الدقة، وقد اعتمد الخلفاء في بعض الأحيان على اليهود الذين أحسنوا القيام على المال، وساروا به في أقوم السبل بعد أن وجدوا الربا محرمًا، فصرفوا البلاد إلى التنظيم الاقتصادي، وكان تحريم الربا في ذاته سببًا لرقي الصناعة والتجارة عند المسلمين، وفي مصر خاصةً في العصور الوسطى.
وقد بلغ العرب شأوًا عظيمًا في تنظيم المالية في الأندلس، وكان منهم كتاب في الاجتماع والسياسة والاقتصاد، نُقِلَت علومهم إلى جنوب فرنسا وإيطاليا، ودُرست كتبهم في جامعاتها كما ذكرناه في رسالتنا تاريخ الاقتصاد السياسي.