النقود في الحرب الماضية
الاعتماد على الورق
كانت النقود المتداولة في أيدي الناس إلى يوم أعلنت الحرب العظمى قطع معدنية تتبادل في المعاملات العادية، وطائفة من الحوالات والأوراق المصرفية تستعمل في الدفع الكبيرة وفي أغراض التجارة، فلما شبت تلك الحرب تغير الحال فامتنع تداول القطع الذهبية، وقل جدًّا تداول القطع الفضية، وكثر التعامل بالأوراق الصادرة من البنوك والحكومات؛ ذلك لأن كل دولة عملت على الاحتفاظ بما فيها من معدن نفيس كميته بطبيعة الحال محدودة، لا تستطيع الدولة أن تكثر منها بعكس الورق الذي لا يكلفها إلا طبعه والأمر بتداوله.
وإذا استطاعت الدولة بسهولة أن تأمر رعاياها بتداول ورقها، فإنها لا تستطيع أن تأمر رعايا دولة أخرى بقبوله؛ ولذلك كانت المعاملات الخارجية لا تثق إلا بالذهب فبقي الذهب للمعاملات الخارجية.
تتحرر كل دولة من قيود نظامها النقدي، وتسن القوانين الاستثنائية التي تذهب بها بعض الأحيان إلى مصادرة ما عند الناس من معدن تستولي عليه الحكومة، ولو جبرًا عند اللزوم، وتلقي على بنكها المركزي عبء تدبير المال، وتقوم البنوك المركزية بدورها الجريء في الانقلاب النقدي الذي نفصله لك فيما يلي.
بنك الريخ
أصدرت الحكومة الألمانية قانونًا في ٤ أغسطس سنة ١٩١٤ تعفي به بنك الريخ من استبدال بنكنوته بالعملة المعدنية، وتعفي به الخزانة الألمانية من استهلاك ما تستحق استهلاكه من القروض الألمانية، وتمنع به تصدير الذهب إلى الخارج، وتحرم الاتجار فيه إلا بتصريح خاص، وتعطي لبنك الريخ الحق في الاستيلاء على الذهب أينما وجده، وتمنع البورصات من نشر أسعاره.
وفي الواقع كانت مهمة هذا البنك أكثر صعوبةً ودقةً من مهمة البنوك المركزية الأخرى؛ لأنه قائم في بلاد محصورة لا تتمكن من الاتصال بالدول الأخرى فضلًا عن كون هذا البنك لا تقتصر أعماله على ألمانيا وحدها، بل تمتد إلى البلاد المحالفة لها، وهي بلاد ليست على ثروة تذكر إلى جانب ثروة الإنجليز وموارد حلفائهم.
برغم هذه المشاق كانت إدارة بنك الريخ من أرقى ما عُرف في إدارات البنوك المركزية حتى ارتفع رصيده من ٢٠٩٢٫٨ مليون مارك ذهب في ديسمبر سنة ١٩١٤ إلى ٢٢٤٥ مليون في ديسمبر سنة ١٩١٥، ثم إلى ٢٥٢٠ مليون في ديسمبر سنة ١٩١٦، ويصعد إلى ٢٥٢٣ مليون في منتصف سنة ١٩١٧ بزيادة ١٠٧٣ مليون مارك ذهب عن الرصيد الذي كان في البنك عند إعلان الحرب، ولا يدخل في هذا الرصيد الغرامة التي استولى عليها الألمان في الحرب السبعينية؛ لأنها حفظت في برج يوليوس للإنفاق منها عند الضرورة القصوى.
يعجب الإنسان أشد العجب، ولا يعرف كيف استطاع ذلك البنك أن يزيد في رصيده مع النفقات الهائلة التي كانت تبذلها ألمانيا في تلك السنين العصيبة، ولا يجد المرء حلًّا لهذه المعضلة إلا أن ألمانيا قد استعدت قبل الحرب، وادخرت في الخفاء ذخيرةً ومئونةً بمقادير تكفيها إلى مثل هذا الوقت.
فإذا كان منتصف سنة ١٩١٧ أخذ الرصيد يهوي في البنك فنزل إلى ٢٢٦٢ مليون مارك يدخل فيها مقدار الغرامة التي استولت عليها ألمانيا من الروسيا عندما تصالحت معها.
فرنسا تحرج بنكها
ولم تكن فرنسا أقل إصدارًا لتلك القوانين الشاذة من ألمانيا، بل فاقتها بابتكار أساليب تجمع بها ما في يد الشعب الفرنسي من مال، والشعب الفرنسي لا يبخل لوطنيته بمال، وبنك فرنسا من ناحيته مجبر على تفريج الأزمة التي قامت على أثر إنذار الضرب، ويتعين على ذلك البنك بأمر الحكومة الفرنسية أن يخصم الكمبيالات للبنوك الأخرى حتى لا تتعرض إلى الإفلاس، ويستمر على تلك الخطة حتى بعد إعلان الموزاتور يوم ٥ أغسطس سنة ١٩١٤ الذي حد من سلطة الناس في سحب ودائعهم، فيزيد ما يخصم عنده من التحاويل من ١٫٥٨٣ مليون فرنك إلى ٤٫٤٧٦ مليون فرنك برغم رفعه بسعر القطع من ٣٪ إلى ٧٪.
وترهق الحكومة الفرنسية البنك بطلب اعتمادات لها من وقت إلى آخر، وفي نظير ذلك تبدأ في أغسطس تصرح له بزيادة ورقة من ٦٨٠٠ مليون فرنك إلى ١٢ مليار فرنك مع إعفائه من استبدال بنكنوته الذي فرضت له القوة القانونية المبرئة للزمم، وكلما دعت الظروف إلى زيادة مقداره سمحت بالزيادة، فيصل إلى ١٥ مليار في ١١ مارس سنة ١٩١٥ وإلى ١٨ مليار في ١٥ مارس سنة ١٩١٦ وإلى ٢١ مليار في ١٥ فبراير سنة ١٩١٧ وإلى ٢٧ مليار في ١٠ سبتمبر سنة ١٩١٧ وإلى ٣٣ مليار في ٥ سبتمبر سنة ١٩١٨، وأخيرًا إلى ٤٠ مليار في ١٧ يوليو سنة ١٩١٩.
ولما كان عقد امتياز البنك ينتهي أجله في ٣١ ديسمبر سنة ١٩٢٠ فقد مدته الحكومة قبل تلك السنين أي في ٣١ ديسمبر سنة ١٩١٨ لمدة خمس وعشرين سنةً آخرها أول يناير سنة ١٩٤٥، وتعهد لها البنك من ناحيته بقبول كل حوالاتها بغير أخذ عمولة، وبمساعدتها في تدبير ديونها العامة.
ومن الأخطاء الفنية التي اضطر البنك إلى ارتكابها في إدارته أنه سار خلف الساسة الفرنسيين معصوب العينين يطيع الحكومة الفرنسية في كل ما تأمره حتى زجت به في ديونها إلى حد بعيد، وأرهقته باعتمادات متكررة أدت فيما بعد إلى تدهور سعر الفرنك.
واعتمد بنك فرنسا في كثير من المناسبات أثناء الحرب على بنك إنجلترا الذي استودعه مقدارًا عظيمًا من الذهب الفرنسي خوفًا من إغارة الألمان على باريس، وليكون هذا الذهب أيضًا تأمينًا لدى بنك إنجلترا، ورصيدًا لما يتعاقد عليه من سلف في أمريكا لحساب فرنسا.
أعباء بنك إنجلترا
لعل الإنجليز أقل الشعوب إخراجًا للقوانين؛ لأنهم يعتمدون على العرف أكثر من اعتمادهم على أوامر القوانين ونواهيه، وهم يكتفون بخلق حالات ينطبع بها الشعب فتغنيه عن التشريع المكتوب؛ لذلك لم يسرفوا كما فعلت فرنسا وألمانيا في إصدار القوانين الماسة بحرية الأفراد وثروتهم، من ذلك أنهم لم يبادروا بإصدار قانون بمنع استبدال البنكنوت بالذهب، وإنما وصلوا إلى ذلك بطريق تصريح ألقاه المستر لويد جورج في مجلس النواب ناشد فيه الأفراد أن لا يطلبوا من البنك ذهبًا بدل ما في أيديهم من بنكنوته، وقال فيه: إن من يفعل ذلك يضر ببلاده، ويعتبر ممالئًا لعدوها عليها، وقد نشر هذا التصريح في الجرائد، وعلق في الميادين العامة والبنوك، فلم يتقدم إنجليزي واحد يطلب ذهبًا، بل بالعكس من كان لديه منهم ذهبٌ قدمه عن طيبة خاطر للبنك دليلًا على صدق وطنيته، وقيامًا بواجبه نحو بلاده في ذلك الظرف العصيب.
ولما أخذت الحكومات وأفراد الدول في الخارج يطلبون ودائعهم من البنوك الإنجليزية انتشر نوع من الذعر، وساد شيء من الانفعال العصبي عندما اندفع كثير من السماسرة يطلبون من بنك إنجلترا خصم ما بيدهم من تحاويل، ولم يفد البنك أنه رفع سعر القطع إلى ١٠٪ فاجتمع مجلس إدارة البورصة، وقرر إقفالها في يوم الجمعة آخر شهر يوليو سنة ١٩١٤ لبضعة أيام حتى تهدأ ثائرة النفوس طبقًا للتقاليد المتبعة في مثل هذه الأحوال.
وانتهز فريق من كبار الماليين فرصة عطلة البنك في ٣ أغسطس فاجتمعوا وطالبوا الحكومة أن تمد عطلة البنك ثلاثة أيام أخرى، وأجابت الحكومة طلبهم، ثم استصدرت في نفس الوقت من البرلمان تشريعًا يبيح لها أن تقرر مد أجل أي نوع من الديون المستحقة، ونفذت هذا التشريع، فأعلنت أنها تؤجل كل الكمبيالات المحررة قبل ٤ أغسطس التي يستحق دفعها في أي وقت لغاية ٤ سبتمبر، وأصدرت الخزانة البريطانية ورقًا بقيمة ١ جنيه، وبقيمة ١٠ شلنات، وأعطتها للبنوك وأرسلتها في المعاملات؛ لتكثر كمية النقود المتداولة، ولكي تسد بنوع خاص في التعامل سعر الجنيه والقطع المعدنية التي قل التداول بينهما.
يتقدم بنك إنجلترا بعد ذلك لخصم الكمبيالات، وقد مهدت له الحكومة السبيل أن أخذت على عاتقها ضمان كل خسارة تحل به من هذا العمل، ويعلن البنك استعداده دائمًا لخصم الكمبيالات، وقبول التحاويل التي جرت العادة بقبولها في تجارة بريطانيا الخارجية ومستعمراتها، ويقول كتاب الاقتصاد: إن هذا التصرف الحكيم كان كافيًا وحده لإنقاذ الموقف، وينحون باللائمة على الطرق غير الطبيعية التي اتخذت قبل مد عطلة البنك التي لم يكن لها أي داعٍ.
ليس بنك إنجلترا بأكبر بنوكها من حيث رأس المال، ولكن باعتباره البنك المركزي لإمبراطوريتها العظيمة اتفق له من الموارد والوسائل ما لم يتفق لبنك من البنوك الآخر في العالم، فقد وضع تحت تصرفه بطرق مباشرة وغير مباشرة أموال المستعمرات والبلاد التابعة أو المتصلة ببريطانيا، فتمكن من الاضطلاع بالأعباء الكبرى التي ألقيت على عاتقه، واستطاع أن يشرف ويقود بنوك الحلفاء بمهارة وحنكة.
ولما كان انتقال الذهب في البحار محفوفًا بالمخاطر لترصد الغواصات الألمانية لمراكب الإنجليز؛ اتخذت الحكومة البريطانية من بلاد الذهب في جنوب أفريقيا وكندا وأستراليا محطات يكلفها بنك إنجلترا عند اللزوم بإرسال الذهب إلى البلاد التي يتطلب التعامل معها دفع الذهب.
تضيع إذن قاعدة الذهب من إنجلترا، ولا يفكر أي شخص في المطالبة بذهب؛ لأن طلب الذهب عندهم بمنزلة الخيانة العظمى، ويألف الإنجليز الورق لسهولة حمله، ويحفظ الورق الإنجليزي قيمته في السنة الأولى؛ لأن إنجلترا كانت دولةً دائنةً للعالم، ويتدفق على إنجلترا مال جم؛ لأن أفرادها يطلبون أموالهم من الخارج فيكون الصرف في مصلحتها بالنسبة للدولار خصوصًا عندما يبيع الإنجليز سنداتهم وسهومهم في الولايات المتحدة، وينقلون قيمتها إلى إنجلترا.
مصر تفقد استقلالها النقدي
كان النظام المتبع في مصر إلى قيام الحرب الماضية يعتمد على قاعدة الذهب طبقًا للتعديل الذي أدخل في سنة ١٨٨٥، وكان الجنيه الذهب هو المعول عليه في الدفعات الكبيرة، والقطع الفضية والبرونزية هي المعول عليها في الدفعات الصغيرة.
وإلى جوار هذه النقود المعدنية كانت تتداول كميات قليلة من البنكنوت الصادر من البنك الأهلي الذي أخذ امتيازًا بإصداره في سنة ١٨٩٨ يلزمه أن يغطي نصف ما يصدره بالذهب، والنصف الآخر بأوراق تقبلها الحكومة المصرية، وكان ذلك البنكنوت مقبولًا في التعامل نظرًا لسهولة حمله، ولأن حامله يعلم أن في استطاعته إذا أراد أن يأخذ بدله ذهبًا من البنك.
ولكن في ٢ أغسطس سنة ١٩١٤ صدر أمر عالٍ في الحكومة المصرية يفرض لذلك البنكنوت السعر الإلزامي عاجلًا الدفع به صحيحًا لأي سبب وبأي مقدار، كما لو كان حاصلًا بالعملة الذهبية، وقد صرحت الحكومة للبنك بناءً على طلبه بحفظ الذهب اللازم للغطاء في بنك إنجلترا بحجة أن الحرب جعلت نقل الذهب إلى مصر متعذرًا، وفي سنة ١٩١٦ يطلب البنك من الحكومة أن تصرح له باستعمال البونات الإنجليزية بدل الذهب بحجة أن بنك إنجلترا قد أخطره أنه لا يستطيع أن يضع تحت تصرفه الذهب نظرًا لظروف الحرب.
وقد نشرت وزارة المالية بالجريدة الرسمية إعلانًا في ٣٠ أكتوبر من تلك السنة جاء فيه أنها تسامحت مؤقتًا فيما هو مفروض على البنك من إبقاء الذهب في خزائنه نظرًا للزيادة التي يتطلبها موسم القطن، ولأنه يحسن ألا يجمع البنك من احتياطي الذهب مبلغًا يزيد عن الحد الذي تقضي به الحكمة.
تلك هي الحجج التي استند عليها البنك، وقبلتها الحكومة فصرحت له باستعمال السندات البريطانية مؤقتًا بدلًا من الذهب نراها حججًا واهيةً؛ لأنه كان في مكنة البنك أن يستبقي في مصر الذهب الذي اشتراه منها، وصدره للخارج، وكان في استطاعته أيضًا أن يأتي بالذهب من أستراليا وجنوب أفريقيا، والواقع هو أن الحكومة المصرية حين صرحت للبنك باتخاذ السندات البريطانية في غطاء البنكنوت بدلًا من الذهب قد أفقدت مصر استقلالها النقدي، وجعلتها متأثرةً بظروف إنجلترا الاقتصادية، وربطت الجنيه المصري بالإسترليني، وقضت على مصر بأن تساهم بالكثير من مالها في قروض الحروب البريطانية.
موقف الدول المحايدة
لم تكن البلاد المحايدة بمنجاة من الحرب؛ فقد تجبر الدولة المحايدة على اقتحام الحرب في أي وقت؛ ولذلك اضطرت هذه الدول إلى تقليد الدول المحاربة في تأجيل الديون المستحقة، وتضخيم ورق النقد والاعتماد عليه، وكانت الدول المحايدة لا تثق كثيرًا بنقود الدول المتحاربة؛ فكانت تشترط في الغالب أن يكون الدفع لها ذهبًا.
وقد نجحت البلاد المحايدة في تلك الخطة فزاد رصيد الذهب في سويسرا ٢٠٩ مليون من الفرنكات في سنة ١٩١٨ عما كان عليه عند إعلان الحرب، كما زاد الورق المتداول فيها بمقدار ٦٦٢ مليون فرنك سويسري، وزاد الذهب في السويد ١٨٤ مليون كرونة بينما الورق زاد أيضًا ٤٤٣ مليون كرونة.
ونتج من إقبال الدول على المعادن أن أسعار المعادن ارتفعت فاستفادت الفضة، وأخذت تنهض من كبوتها عندما كثر الطلب عليها في سنة ١٩١٦؛ للدفع بها في التجارة مع بلاد آسيا مثل العراق وفلسطين والهند والصين وشرق أفريقيا.
وخشيت الولايات المتحدة والمكسيك أن تنعدم الفضة من بلادها فمنعت تصدير الفضة للخارج، ولما زاد الارتفاع في سعر الفضة خافت الولايات المتحدة على نظامها النقدي من انقلاب يحدث فيه فأخرجت الشهادات الفضية، وهي أوراق يتداولها الناس ممثلة لمقدار من الفضة مرصود لها في خزائن الحكومة.
ونظام الشهادات التي أجازها مجلس الولايات المتحدة النيابي لغاية مبلغ ٣٥٠ مليون دولار يفيد فائدةً كبرى في تخفيف الضغط عن المعادن والنقود؛ لأن حامل الشهادة على يقين من أنه تحت طلبه المقدار المكتوب في الشهادة، وأنه مالك له حقًّا، فهو لا يُعنى باستلامه، أو إخراجه من البلاد.
وربما كان سقوط الفضة بعد الحرب راجعًا إلى عدم الطلب عليها، أو إلى كون الولايات المتحدة قد تعمدت رفعها أثناء الحرب لتكسب، فلما انتهت الحرب عملت على إسقاطها حتى لا تعود تنافس الذهب الذي اشترطت الولايات المتحدة دفع الجزء الأكبر من ديونها به.
ولما كانت كثرة الذهب في بلد من البلاد تحدث له أزمات كما رأينا عند الكلام على تأثير كمية المعادن على الأسعار بعد اكتشاف أمريكا؛ فقد رجعت الدول المحايدة تخفف من وطأته على بلادها بما أخرجت من قوانين تكسر بها من حدة الذهب وترخيصه في بلادها، فتبطل السويد في سنة ١٩١٦ القانون الذي فرضت به على بنكها شراء الذهب بسعر معين، وعدم إعطائه في استبدال بنكنوته، وتحذو حذو السويد النرويج والدانمرقه، وتعمل إسبانيا على تنزيل سعر الذهب كلما ارتفع، وأوقفت هذه البلاد ضرب القطع الذهبية؛ لأنها خافت من تضخم النقد الذهبي وطغيانه.
الدولار بدل الإسترليني
فقد الإسترليني زعامته على النقود؛ فلم يعد وحدة التقدير في المشارطات الدولية، وضاع نفوذ حي السيتي؛ فلم يبقَ معقد القروض العالمية؛ لأن الحرب أضاعت قاعدة الذهب، وأقفلت سوقه الحرة، وانتقل مجد لوندره المالي إلى نيويورك فورث الدولار مكانة الإسترليني، وتبوأ وال ستريت مركز السيتي.
بقيت التقلبات في الصرف بين الدولار والإسترليني قليلةً حتى وصل الجنيه في آخر سبتمبر سنة ١٩١٥ إلى ٤٫٥٥ دولارات بنزول ٦٫٥ في المائة من سعره، وهنا يتنبه الإنجليز إلى ضرورة الدفاع عن الجنيه؛ حتى لا يتدهور فيضيع سمعتهم المالية، فيرسلون كميات كبيرة من ذهبهم إلى الولايات المتحدة، ويبيعون ويشترون في أوراقها، ويعقدون بها قروضًا بواسطة بنك مورجان، فيرتفع الجنيه إلى ٤٫٧٦٥ دولارات في مارس سنة ١٩١٦، ويبقى حول هذا السعر حتى تنتهي الحرب.
وبعد الهدنة توقف إنجلترا مشترى الدولارات، وتمنع عقد قروض لها في الولايات المتحدة، فينزل سعر الإسترليني قليلًا، وتتمكن المصانع الإنجليزية من استئناف عملها بسهولة في فرصة التضخم النقدي الذي ساد العالم كله، ولكن الجنيه ينزل بسبب كثرة المشتروات من الخارج بأسعار فاحشة للمواد الأولية اللازمة للصناعة البريطانية، فيصبح الجنيه في آخر سنة ١٩١٩ موازيًا في الصرف إلى ٣٫٧٦٥ دولارات، ثم ينزل في فبراير سنة ١٩٢٠ إلى ٣٫٢٠ دولارات.
أما الفرنك الفرنسي فقد نزل في منتصف سنة ١٩١٥ إلى ٦٠٤ فرنك لكل ١٠٠ دولار بنزول ١١٪ من قيمته على سعر المساواة، وتهدد بنزول أكثر لو لم تستنجد فرنسا بحليفتها العظيمة إنجلترا وتدخل معها في سياسة الاقتراض من الولايات المتحدة، فيرتفع الفرنك في ختام تلك السنة إلى ٥٨٦، ولكنه في سنة ١٩١٦ ينزل إلى ٧٠٦ بسبب سوء مركز فرسنا الحربي، وتضخم ورقها وورق بنكها المركزي، حتى إذا دخلت الولايات المتحدة محاربةً في صفوف الحلفاء، وبعثت بجيشها إلى فرنسا، أرسلت لها أموالًا طائلةً للإنفاق على ذلك الجيش، فارتفع سعر الفرنك في سنة ١٩١٨ حتى أصبح ٥٨٥، وهو سعر قريب جدًّا من سعر المساواة.
فإذا انعقدت الهدنة، ورجع جيش الولايات المتحدة من فرنسا، وانفصلت إنجلترا عنها صار الفرنك وحيدًا يمشي بمفرده في معترك النقود؛ فنزل سعره إلى ٦٠٠ في سنة ١٩١٩، ثم تدهور فترةً قليلةً من الزمن، ولكنه عاد إلى الصعود عندما احتلت فرنسا أقليم الرور وثبتت لنفسها تعويضًا ماليًّا كبيرًا قبل ألمانيا.
الفرنك السويسري
ولو أن ثروة سويسرا ومواردها لا تقاس إلى ثروة وموارد الولايات المتحدة، إلا أن سويسرا تمتاز بموقعها الجغرافي في قلب أوروبا، ووسط المتحاربين تتصل بهم بالسكك الحديدية في أمن وسهولة، فضلًا عن احترام المحاربين لحيادها، بعكس الولايات المتحدة التي وقفت الغواصات والمدمرات الألمانية تمنع اتصال الحلفاء بها، وتهدد مراكبهم ومراكبها بالإغراق.
وبينما الولايات المتحدة تندفع في إقراض الحلفاء الذين لم ترجح كفتهم على الألمان إلا أخيرًا، إذا بسويسرا تكتسب من الفريقين المتحاربين بغير أن تعرض مالها للضياع، فكانت زوريخ السوق المالية التي يعقد فيها الطرفان صفقاتهم ويبيعون ويشترون فيها أوراقهم، ويسحبون منها وعليها تحاويلهم بعملة الفرنك السويسري الذي نافس الدولار مركزه، وزاد عليه في الارتفاع عندما دخلت الولايات المتحدة الحرب فبلغ الفرنك السويسري ٣٫٩٦٥ بالنسبة للدولار مع أن سعر المساواة هو ٥٫١٨٢٥٥، ولكن هذا الارتفاع لم يدم طويلًا إذ بمجرد انتصار الحلفاء والولايات المتحدة على ألمانيا أخذ الدولار في الصعود حتى صار سعره في سنة ١٩٢٠ ٦٫٥٦٥ فرنكات؛ أي بنزول ٢١٪ من سعر الفرنك عند المساواة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن الولايات المتحدة تداين العالم كله، وتغرقه بأموالها وبضائعها، ولكن ارتفاع الدولار كان قصير الأجل لمدة شهور فقط؛ إذ عاد الفرنك السويسري في سنة ١٩٢١ فزاد على سعر صرفه بالنسبة للدولار، واستمر ارتفاعه حتى سنة ١٩٢٢ التي صار فيها أغلى نقد في العالم، وقد يكون السبب في ذلك مرجعه إلى نزول أسعار المحاصيل بعد ارتفاعها الكاذب في سنة ١٩١٩ نزولًا أضر بتجارة الولايات المتحدة، وأرخص دولارها بالنسبة للفرنك السويسري، ولأن الطلب على الدولار لذلك السبب كان قليلًا.
وقد نفع الفرنك السويسري الألمان نفعًا كبيرًا في مدة الحرب؛ لأن الألمان اتخذوا منه طريقًا للوصول إلى العملات الأخرى التي كان من المستحيل عليهم التعاقد بها، وقد ساعد الفرنك السويسري المارك على الاحتفاظ بسعر معقول حتى دخلت الولايات المتحدة الحرب، فعقد السويسريون الثقة في ألمانيا، وتوقعوا لها الهزيمة فنزل سعر المارك عندهم، ولما حدثت الهزيمة بالفعل نزل المارك فأصبح الفرنك السويسري يباع بمبلغ ١٨ ماركًا، ثم توالى الهبوط في سعر المارك حتى صار لكثرة تضخمه لا يوازي في سنة ١٩٢٣ ثمن الورق الذي يكتب عليه.