الرجوع إلى الذهب وتثبيت النقود
سياسة الدول عند الرجوع إلى الذهب
اختلفت سياسة الدول عندما أرادت أن تكون على قاعدة الذهب لتمنع تقلبات أسعار صرف عملاتها، وتثبيت القيم في بلادها.
- (١)
اتبعت ألمانيا طريقة إهدار العملة القديمة، وإنشاء أخرى جديدة بدلًا منها.
- (٢)
اتبعت إنجلترا طريقة العودة بعملتها إلى الذهب بغير أن تنقص من القيمة التي كانت عليها قبل الحرب.
- (٣)
اتبعت كل من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا طريقة تثبيت عملاتها على الذهب بعد تنقيص قيمتها عما كانت عليه قبل الحرب.
الريخمارك الذهب
لم يرض الحلفاء عن الرانتنمارك وعدوه عملًا ضارًّا بهم، وحاربوه أشد المحاربة بدعوى أنه يتجاهل ما على ألمانيا من تبعات بسبب ديون الحرب.
وتنفيذًا لذلك سنت الحكومة الألمانية قانونًا في ٣٠ أغسطس سنة ١٩٢٤ أعادت به تنظيم بنك الريخ، وحصرت فيه إصدار البنكنوت، وفرضت عليه طبقًا لرغبة الحلفاء أن يغطي بالذهب على الأقل ٤٠٪ مما يصدره، بحيث يكون ثلاثة أرباع الغطاء على الأقل من معدن الذهب، والربع الباقي من السندات القائمة على الذهب.
ولما قبضت ألمانيا قيمة القرض الذي اقترحه لها داوز نفذت هذا النظام الجديد في ١١ أكتوبر سنة ١٩٢٤ فأصبح به مارك الريخ على قاعدة الذهب.
أسباب رجوع إنجلترا للذهب
أما إنجلترا فإنها اكتسبت ثقة العالم كله في نقدها وماليتها؛ بفضل السياسة الفذة التي جرت عليها في تنقيص نقودها وديونها، مع توازن ميزانيتها تنفيذًا لمقترحات لجنة كنليف، وأقبل الأجانب على مشترى السندات الإنجليزية والإسترليني؛ فنقل كثير منهم نقوده إلى إنجلترا فتدفقت عليها أموال عظيمة من الخارج رفعت سعر الإسترليني في صرفه على الدولار حتى وصل في سنة ١٩٢٣ إلى ٤٫٦٨٥ دولارات، وذلك يكاد يكون سعره القديم في الصرف على عملة الولايات المتحدة، وهي الدولة الوحيدة الثابتة النقود، الباقية على الذهب بغير فارق بين الدولار المعدني والدولار الورق؛ نظرًا لمكانة الولايات المتحدة التي اكتسبها بعد الحرب الماضية، وانتزعتها من إنجلترا انتزاعًا.
وقد تطلعت الحكومة البريطانية عندما وصل الإسترليني إلى ذلك السعر إلى استعادة مركز لوندره الذي اغتصبته منها نيويورك أثناء الحرب وفي الفترة التي تلتها، وطمح الإنجليز في إرجاع الجنيه إلى سعره السابق، ولو اقتضى ذلك منهم بذل تضحية.
وللإنجليز عذرهم إذا ما عملوا على استرداد مركز لوندره المالي عن طريق إرجاع الجنيه إلى سعره الأصلي زعيمًا على نقود العالم؛ لأن من أسباب عظمتهم كون عاصمتهم السوق الحرة للذهب، ومعقد القروض العالمية.
وتلك مكانة تهيأت للوندره مع الزمن، وظلوا محافظين عليها ليجمعوا بين السيادة في المال والسيادة في السياسة على الشعوب الأخرى، وإنجلترا ترى أن سيادتها على المال أساس سيادتها على العالم وهذا حق؛ فالمال قوام الحياة عند الأفراد والأمم.
لذلك عندما شكلت الحكومة البريطانية لجنةً برئاسة اللورد برادبري لتقرر ما يجب على الحكومة اتخاذه في أمور النقد والاقتصاد، لم يسع هذه اللجنة في مثل تلك الظروف والاعتبارات سوى أن تتقدم بتقرير تطلب فيه إرجاع الجنيه إلى سابق قيمته مع العودة إلى قاعدة الذهب.
ولما تولى حزب المحافظين الوزارة بعد حزب العمال جد بالإنجليز عامل قوي يدفعهم إلى الرجوع للذهب؛ إذ المحافظون لا يؤمنون في حكم الإمبراطورية بغير الأساليب الاقتصادية الموروثة، وفي رأسها الاعتماد على قاعدة الذهب، والمحافظة التامة على مكانة لوندره الاقتصادية.
وعارض في الرجوع إلى الذهب فريق من كبار الاقتصاديين العالميين، نذكر منهم كينز الحجة في شئون النقد، والوزير السابق المشهور مستر سنودن، وحزب العمال بأكمله، وبعض أصحاب المصانع الكبيرة، وحجتهم في ذلك أن توازن الميزانية البريطانية الذي اتخذته لجنة برادبري وحكومة المحافظين سببًا للقول بإمكان إرجاع الجنيه إلى قيمته الأصلية، إنما هو توازن غير سليم، بل مفتعل بالضرائب الباهظة التي ناء بها كاهل الشعب البريطاني، ولا يمكنه البقاء عليها طويلًا بغير أن يلحق إنتاجه ضرر يجعل نفقاته غاليةً إذا ما صعد الجنيه إلى قيمة مرتفعة ثابتة في الصرف؛ فترتفع بالتبعية لذلك أسعار السلع الإنجليزية، وتعجز عن منافسة السلع الأجنبية التي تصبح أسعارها رخيصةً في هذه الحالة فيشتريها الناس، ويتركون السلع البريطانية فتكسد سوقها، ولا بد بعد ذلك من حدوث أزمة في بريطانيا، وزيادة في عدد العاطلين من عمالها إذا أقدمت الحكومة على رفع سعر الإسترليني؛ لتعيده بالقوة إلى قاعدة الذهب بالقيمة التي كان عليها قبل الحرب.
لم يستمع مستر تشرشل — وزير المالية — لتلك الاعتراضات القيمة، بل دافع أمام البرلمان عن وجهة نظر اللجنة والحكومة، واستصدر قانونًا في ٢٥ مايو سنة ١٩٢٥ بالرجوع إلى الذهب، وسط الضجة الهائلة التي أثارها ضده حزب العمال، وهم يسمون قانونه «قانون تشرشل المخرب».
تحليل قانون سنة ١٩٢٥
-
(١)
ألزم ذلك القانون بنك إنجلترا بأن يبيع الذهب في شكل سبائك لمن يريد الشراء، بشرط ألا يقل وزن السبيكة عن ٤٠٠ أوقية بسعر الأوقية الواحدة ٣ جنيهات، و١٧ شلنًا، و١٠ بنسات ونصف، وليس معنى ذلك أن من يحمل ورقةً بقيمة جنيه مثلًا له الحق في أخذ وزن من الذهب بقيمتها، وإنما معناه أن من يريد الحصول على الذهب يجب عليه أن يشتري ٤٠٠ أوقية يدفع ثمنًا لها على وجه التقريب ١٥٠٠ جنيه ورق.
-
(٢)
لم يجد المشرع الإنجليزي فائدةً من صرف البنكنوت بالعملة الذهبية؛ لأن الناس ألفوا الورق منذ الحرب، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد جعل الحد الأدنى لشراء الذهب ٤٠٠ أوقية؛ لأنه لم يجد أيضًا معنًى لطلب مقادير قليلة من معدن الذهب ما دام الناس لا يتعاملون بقطعه المعدنية، فإن كان الذهب لازمًا لهم في أغراض محلية، أو في دفع للخارج، فإن مثل ذلك الوزن الذي قدره للسبيكة الذهبية يعتبر وافيًا فيما يطلب من أجله.
-
(٣)
أخذ المشرع الإنجليزي بقاعدة الذهب عن طريق الصرف بالسبائك (Gold Bullion Standard)، فأبطل بذلك حق ضرب القطع الذهبية.
-
(٤)
رفع ذلك القانون الحظر على إخراج الذهب (Embargo) الذي كان متبعًا في الحرب الماضية، وجعل من الممكن تصدير الذهب للخارج، وهذا التصريح بتصدير الذهب للخارج يجعل قاعدة الذهب نافذةً قانونًا وفعلًا؛ لأن الذهب أصبح حرًّا في تنقله.
قانون ١٩٢٨ بدمج نقود الحكومة الإنجليزية مع البنكنوت
وقد سهل ذلك القانون على البنك اجتياز بعض الظروف الطارئة فأعطاه الحق في زيادة الإصدار عن ٢٦٠ مليون جنيه بموافقة وزير المالية لمدة لا تتجاوز الستة أشهر.
ونظرًا للمسئولية التي ألقيت على عاتق البنك، وهي مسئولية تتطلب تركيز الذهب وعدم تشتيته هنا وهناك، فقد صرح القانون للبنك أن يستولي إذا شاء على الذهب الموجود في حيازة الأفراد والشركات متى زاد ١٠٠٠٠ جنيه ما لم يكن هذا الذهب معدًّا لأغراض صناعية أو لتصديره للخارج، وإذا أراد البنك أن يأخذ الذهب المصرح له بأخذه فعليه أن يدفع ثمنًا له بواقع ٣ جنيهات و١٧ شلنًا و٩ بنسات عن الأوقية الواحدة.
مصر ترجع للذهب سنة ١٩٢٥ مع إنجلترا
ولما كانت النقود المصرية قد اتصلت بالنقود الإنجليزية عن طريق استعمال البنك الأهلي السندات البريطانية في غطاء البنكنوت كما ذكرنا، فقد رجعت مصر إلى الذهب يوم رجعت إليه إنجلترا في سنة ١٩٢٥، وارتفع سعر الجنيه المصري الورق بحكم تلك التبعية إلى سعره السابق قبل الحرب، وأصبح من الممكن استبداله بالذهب دون دفع أي فرق.
هذا ما جرى عليه العمل، وإن لم يتأيد بقانون يثبت نهائيًّا موقف الأمر العالي، والإعلان الصادر من وزارة المالية الذي جعل أولهما للبنكنوت السعر الإلزامي، وأعفى ثانيهما البنك من غطاء الذهب، وكان من المتعين في نظرنا أن يصدر قانون ليمنع على الأقل مظنة البطلان التي تصورها بعض رجال القانون في تلك التصرفات التي دفع المستشار البريطاني حكومتنا إليها؛ لأنها لم تأخذ رأي الجمعية العمومية للمحاكم المختلطة.
وقد عهدت الحكومة إلى المجلس الاقتصادي ببحث تلك الحالة الناشئة من عودة إنجلترا إلى الذهب، ولكن المجلس الاقتصادي في تقريره الذي قدمه للحكومة في سنة ١٩٢٦ لم يرَ أية ضرورة لإبطال السعر الإلزامي الذي كانت الحكومة قد فرضته للبنكنوت، ولم يرَ أن يقترح على الحكومة مطالبة البنك الأهلى بإرجاع غطاء الذهب فجأةً؛ لأن المجلس قد رأى في ذلك ضررًا يلحق بالحكومة والبنك، وهما يقتسمان الفوائد التي تعود من اتخاذ البنك الأهلي السندات الإنجليزية غطاءً لما يصدره من بنكنوت.
وقد بحث ذلك المجلس الآراء الثلاثة التي أبديت إليه بشأن الغطاء؛ وأولها: أن يرجع البنك إلى الذهب طبقًا للطريقة التي كانت متبعةً قبل الحرب، وثانيها: أن يستعمل سندات الدين المصري في الغطاء، وثالثها: أن يظل متخذًا السندات البريطانية غطاءً لبنكنوته، فتوسط المجلس تقريبًا بين هذه الآراء الثلاثة؛ بأن اقترح على الحكومة أن تجعل البنك يزيد سنويًّا ما قيمته ٢ مليون جنيه ذهبًا لمدة خمس سنوات على الثلاثة ملايين جنيه الموجودة في خزائنه؛ ليكون عنده من الذهب ثمانية ملايين جنيه، وقال المجلس أيضًا بإمكان استعمال السندات المصرية في الغطاء لمبلغ مليونين أو ثلاثة ملايين من الجنيهات.
- (١)
يأخذ البنك أرباح السندات الضامنة للثلاثة ملايين الأولى من الإصدار.
- (٢) تقسم أرباح السندات الضامنة لما زاد عن الثلاثة ملايين الأولى على أساس أنه إذا لم تتجاوز الأرباح مليون جنيه تأخذ الحكومة منها ٨٩٪، ويأخذ البنك ١٠٪.
- (٣) إذا زادت تلك الأرباح عن مليون جنيه يوزع المليون الأولى منها كما سبق بيانه، ويوزع الزائد بواقع ٩١٪ للحكومة و٨٪ للبنك الأهلي.
- (٤)
إذا ما نشأت خسارة من استبدال الأوراق المالية بالذهب بسبب ارتفاع قيمة الجنيه الإنجليزي وقت الاستبدال، فتشترك الحكومة والبنك في تحمل تلك الخسارة في كل ما زاد عما هو ضامن للثلاثة ملايين الأولى، بحيث يدفع كل من البنك والحكومة نصيبه في الخسارة بنسبة ما حصل عليه من ربح في الماضي.
ولا ندري كيف قبلت حكومتنا أن تتحمل في كامل الخسارة بعد الثلاثة ملايين بنسبة ربحها إذا أرادت أن تلزم البنك باستعمال الذهب تنفيذًا لما هو ملتزم به أصلًا في امتيازه في تغطية نصف الإصدار بالذهب، وكان من اللازم أن تتنبه الحكومة والمجلس النيابي إلى فداحة هذا الشرط الذي فضلًا عن ظلمه للحكومة فإنه أيضًا ينطوي على تهديد خطير لها إذا أرادت أن تكلف البنك الأهلي باستعمال الذهب غطاءً في وقت لا تكون فيه إنجلترا على الذهب.
أسباب ونتائج تدهور الفرنك
أما في فرنسا فقد كانت العملة الفضية الفرنسية والإيطالية والبلجيكية والسويسرية ثابتةً قبل الحرب الماضية على سعر صرف واحد بينها وبين الجنيه الإنجليزي ذهبًا، الذي كان يوازي في الصرف تقريبًا ٢٥ فرنكًا فرنسيًّا أو بلجيكيًّا أو سويسريًّا أو ليرةً إيطاليةً، والسبب في وحدة سعر صرف هذه العملات بالنسبة للجنيه الإنجليزي راجع إلى أن فرنسا وسويسرا وبلجيكا وإيطاليا قد تحالفت التحالف اللاتيني الذي ذكرناه في الفصل السادس، وقد أنتج ذلك التحالف توحيد سعر هذه العملات في صرفها.
فلما تركت الدول النقود المعدنية أثناء الحرب الماضية، واستعملت النقود الورقية تغيرت أسعار صرف هذه العملات، أما الفرنك السويسري فقد ظل في مستوى عالٍ، بينما الفرنك الفرنسي والفرنك البلجيكي والليرة الإيطالية أصابها جميعًا نقص كبير في أسعارها اختلف اختلافًا بَيِّنًا؛ تبعًا لظروف كل دولة من هذه الدول.
وكما قدمنا في الفصل السابع كان الفرنك الفرنسي على سعر صرف طيب بالنسبة للدولار لسببين؛ أولهما: اعتماد فرنسا على السياسة التي رسمتها إنجلترا لنفسها ولحليفتها في أخريات سني الحرب، تلك السياسة التي كان من شأنها حفظ الجنيه والفرنك في سعر صرف محترم على الدولار، والسبب الثاني يرجع إلى دخول أموال عظيمة في الولايات المتحدة إلى فرنسا عندما وقفت الولايات المتحدة إلى جوار الحلفاء، وأرسلت جيوشها إلى الميادين الفرنسية لتحارب معهم.
فلما انتهت تلك الحرب، وانفصلت فرنسا عن إنجلترا، وأخذت تسير بمفردها في معترك السياسة والمال؛ أخذ الفرنك الفرنسي ينقلب في نزول بطيء، ثم لم يلبث أن ارتفع فصار ١١ فرنكًا للدولار عندما أثبتت فرنسا لنفسها حقًّا في تعويض ضخم قبل ألمانيا.
ولكن الطمع والمبالغة في فهم مقدرة ألمانيا على دفع التعويضات، واحتلال الرور لاعتصارها قد حملت فرنسا على التهور في التفاؤل أكثر من اللازم؛ فاندفعت توسع مصانعها القديمة، وتنشئ غيرها جديدًا على أحدث النظم الفنية، وأخذت تعمر البلاد المخربة تعميرًا على أحسن وأرقى الطرازات الهندسية، وأسرفت في اقتراض مبالغ طائلة؛ لتؤدي بها تلك الأغراض ارتكانًا على أن ألمانيا ستدفع لها كل ما تطلبه.
ظلت الحكومة الفرنسية وراء هذا الأمل الخادع توالي الاستدانة تارةً من بنك فرنسا الذي جعلته يرفع لها الاعتمادات حتى وصلت إلى ٢٥ مليار فرنك، وتارةً تأخذ من البنوك الأخرى قروضًا على أجال قصيرة لتسد العجز المتوالى في ميزانياتها بعد سنة ١٩٢٢.
ويضطر بنك فرنسا بحكم هذه الظروف أن يضخم المتدوال من ورقه؛ فيرفعه في سنة ١٩٢٤ إلى ٤٣٫٣٠٤ مليار فرنك بزيادة ٢٫٣٠٤ مليار فرنك عن الحد الأعلى المصرح له به قانونًا، ويستلزم ذلك الموقف أن تجيز له الحكومة رفع حد الإصدار إلى ٤٥ مليار فرنك في نظير أن يرفع لها البنك الاعتمادات إلى مبلغ ٢٦ مليار فرنك، وكان هذا العمل سببًا في سقوط الوزارة الفرنسية.
ويتضح للوزارة التي تلتها في الحكم أن العجز في الميزانية أكثر مما كانت تظن، وأن الضرائب والقروض الداخلية لا تفلح في سده؛ فتلجأ الحكومة إلى الاقتراض من الولايات المتحدة عن طريق بنك مورجان ١٠٠ مليون دولار، ومن إنجلترا عن طريق بنك لازارد ٤ مليون جنيه إنجليزي؛ لتسد العجز في ميزانيتها، وتمنع تدهور الفرنك، وينجح القرضان مؤقتًا في هذين الغرضين، ويرتفع سعر صرف الفرنك من ٢٨ إلى ١٨ على الدولار، ومن ١٢٠ إلى ٧٨ على الجنيه الإنجليزي.
ويغتنم الفرصة السانحة جماعة من كبار المضاربين الدوليين فيهاجمون الفرنك الفرنسي في شدة وعنف؛ ليربحوا إنزال سعره معتمدين في ذلك على بنوك في النمسا وهولاندا والولايات المتحدة، ومستندين في خططهم على اختلال الميزانية الفرنسية، وعجز تجارة فرنسا الخارجية.
وكان النجاح مكفولًا لهؤلاء المضاربين، لولا أن المصلحة قضت بتحالف بين البنوك المركزية لكل من فرنسا وإنجلترا والولايات المتحدة، وقف هذا التحالف لهم بالمرصاد، وأحبط عملهم مدافعًا عن الفرنك؛ فكان يشتريه ويبيع العملات التي اتخذها المضاربون قاعدةً لمحاربته، وقد تغلب فريق البنوك المركزية على أولئك المضاربين بعد أن تكبد خسائر فادحةً عندما صفى مراكزه، ولكن المضاربين يعودون ثانيةً لمهاجمة الفرنك، وينجحون هذه المرة في إنزال سعره.
وتتعاقب الوزارات على فرنسا سنة ١٩٢٥ لا تفلح من بينها وزارة في إيقاف التضخم، فإذا كانت سنة ١٩٢٦ قلت الثقة بالمالية الفرنسية، وأخذ الأجانب في سحب أموالهم، وبيع سنداتهم الفرنسية جزافًا؛ فهوى سعر الفرنك إلى ٢٤٥ فرنكًا بالنسبة للجنيه الإنجليزي.
اقترح مسيو راؤل بيريه — وزير المالية — تشكيل لجنة لدرس أسباب تدهور الفرنك، ووصف العلاج اللازم لتلك الحالة، وقد شكلت تلك اللجنة في ٣١ مايو سنة ١٩٢٦، وقدمت تقريرها في ٣ يوليو، وقد أشارت فيه على الحكومة بوجوب الاقتصاد في النفقات، والعدول عن سياسة الاقتراض من بنوك فرنسا، وإنشاء صندوق للديون على أن تتعاون الحكومة وبنك فرنسا على تثبيت الفرنك، ثم عقد قرض خارجي لهذا الغرض، وتسوية الديون الحكومية مع الاعتماد على بعض النقود الأجنبية عند تثبيت الفرنك؛ خوفًا من حدوث رد فعل ينعكس على مالية فرنسا، ويصيب بلادها بضيق عقب تثبيته.
لم يُقَدم هذا التقرير لوزير المالية الذي اقترح تشكيل تلك اللجنة، وإنما قُدم في عهد وزارة بريان، ولما اطلع عليه مسيو كابو — وزير المالية في تلك الوزارة — طلب من مجلس النواب الفرنسي أن يطلق يده، وأن يعطيه كل سلطة ممكنة ليستطيع أن يقوم بالعمل الجسيم الذي أُلقي على عاتقه، ولكن المجلس النيابي لم يقره إلى ما طلب؛ لأنه وإن كان من رجال المال المشهود لهم بالكفاية إلا أن ماضيه حفل بالخصومات مع كثير من رجال الأحزاب، الذين اتهموه وبريان معه بممالأة الألمان، سقطت تلك الوزارة، ثم أعقبتها وزارة هريو التي لم تعش سوى أيام قلائل، ثم سقطت هي الأخرى تحت ضغط البنوك والشركات التي حاربتها؛ لأنها كانت تميل إلى الاقتراض، ولا تجد بدًّا من الاستدانة لإنقاذ الموقف.
تثبيت الفرنك على الذهب
وأخيرًا تنبه االفرنسيون إلى كون العوامل النفسية والسياسية كان لهما دخل كبير في هبوط الفرنك وانعدام الثقة بماليتهم؛ فطالبوا بتشكيل وزارة وطنية تضع حدًّا للمهاترات والاختلافات الحزبية التي شغلت فرنسا طوال تلك المدة، فتألفت وزارة بوانكاريه متمتعةً بثقة عظيمة في البرلمان، وباحترام عند رجال المال، وقد أعلنت في برنامجها أنها لن تعتمد على الاستدانة، وإنما على التأييد لها والاطمئنان إلى سياستها، وكان مجرد تشكيل هذه الوزارة بتلك الكيفية كافيًا لإيجاد حالة نفسية أدت إلى رفع سعر صرف الفرنك على الجنيه الإنجليزي من ٢٤٥ إلى ١٨٥ فرنكًا.
وتناولت وزارة بونكاريه مقاليد الحكم في عزم وحزم ساعداها على الاقتصاد في النفقات، ثم أنشأت صندوقًا لاستهلاك الديون؛ فاطمأن الأجانب وأخذ كثير منهم يرد إلى فرنسا ما كان قد سحبه منها من مال؛ فزاد الإقبال على الفرنك زيادةً جعلت فرنسا في غير حاجة إلى شراء عملات أجنبية تساعدها على تثبيت الفرنك، أو تعليقه عليها.
سارت الأحوال من حسن إلى أحسن حتى ارتفع الفرنك إلى ١٢٥ بالنسبة للجنيه الإنجليزي، وظل حوالي هذا السعر مدةً لا تقل عن ثمانية عشر شهرًا حتى ثبتته الوزارة بقانون ٢٥ يونيو سنة ١٩٢٨ الذي غير نظام النقد الفرنسي تغيرًا تامًّا؛ بأن جعل الفرنك على أساس الذهب ٦٥٫٥ ملليجرامًا من الذهب، ولعياره ٩٠٠ من ألف، فإذا قارناه بفرنك جرمنال القديم كان الفرنك الجديد يوازي الخمس، كذلك عدل هذا القانون نظام بنك فرنسا تعديلات جوهريةً.
تحليل قانون ٢٥ يونيو سنة ١٩٢٨
- (١)
اعتنقت فرنسا قاعدة الذهب، وتركت نظام المعدنين الذي كانت تتعصب له، وتتعب نفسها وجاراتها اللاتينية في الدفاع عنه.
- (٢)
قلدت إنجلترا في استعمال نظام قاعدة الذهب بصرف السبائك التي يجبر البنك على بيعها وشرائها بشروط معينة.
- (٣)
لم ترجع القطع الذهبية إلى التعامل، وحفظت لنفسها الحق في إصدار قانون بسكها إذا أرادت، ومن ثم يبقى البنكنوت في التعامل مؤيدًا بالغطاء الذهبي.
- (٤) تعدل نظام الإصدار في بنك فرنسا تعديلًا جوهريًّا؛ فقد كان البنك ملزمًا بمراعاة حد أعلى Plafond لا يمكنه أن يتخطاه، ذلك الحد كان قبل سنة ١٩١٤ مقداره ستة مليارات وثمانمائة ألف فرنك، وقد رفع كما رأينا في مناسبات عديدة تحت ضغط الحكومة حتى وصل في سنة ١٩٢٨ عند صدور هذا القانون إلى ثمانية وخمسين مليارًا ونصف.
فلما صدر القانون الجديد في تلك السنة عدل عن نظام تقييد البنك بحد أعلى إلى نظام جديد يفرض على البنك أن يغطي ما عليه من التزامات تحت الطلب بمختلف أنواعها بما لا يقل عن ٣٥٪ من قيمتها بالذهب، وهذا مأخوذ من نظام بنوك الفدرال ريزرف الأمريكية التي يفرض عليها أن تغطي من بنكنوت بما لا يقل عن ٤٠٪ من قيمتها، كما يفرض عليها في الوقت نفسه أن تغطي ما لديها من ودائع بما لا يقل عن ٣٥٪ من قيمتها، فنقل تشريع فرنسا ذلك، ولكنه أدمج التزامات البنك في الحالتين باعتبارها التزامات تحت الطلب، وفرض لها غطاءً لا يقل عن ٣٥٪ من قيمتها.
- (٥)
ثبت الفرنك الجديد على سعر واطئ يوازي كما قدمنا تقريبًا خمس قيمته الأصلية، فضاع بذلك التثبيت أربعة أخماس كل دين من الديون التي كانت واجبة الأداء بالفرنك، وقد استفاد المدين الفرنسي والحكومة الفرنسية كلاهما من تخفيض قيمة الفرنك فدفع خمس دينه فقط.
الحكومة الفرنسية تلغي دين بنك فرنسا عليها
وعاد على الحكومة الفرنسية كسب هائل حين ألغت الدين الذي كان عليها للبنك بجرة قلم، فقد كان البنك يداينها في سنة ١٩٢٨ بما لا يقل عن ٢٠ مليار فرنك، وكان من نتائج تنفيذها لهذا القانون أنها أعادت تقدير ما في البنك من ذهب أصبحت قيمته بالفرنك الجديد طبعًا خمسة أمثال ما كان مقيدًا بها، فاعتبرت الحكومة الفرنسية أن تلك الزيادة من حقها، ثم استعملتها في إلغاء دين البنك عليها.
وقد عارض بعض مساهمي البنك في ذلك في اجتماع الجمعية العمومية لمساهمي البنك سنة ١٩٢٩، ولكن معارضتهم لم تفلح؛ لأنه وإن كان الحق في جانبهم؛ لأن البنك لم يكن ملزمًا برصيد ذهبي، إلا أن تطبيق القانون الجديد قد سلبهم ذلك الحق.
ومما هو جدير بالملاحظة أن الكتاب الفرنسيين الذين حملوا على الحكومة الألمانية، واتهموها بتعمد الإفلاس بالتدليس؛ لتضيع على حامل المارك قيمته، وتخفف عبء دينها، لم ينتقدوا حكومتهم حين أضاعت على كل صاحب دين بالفرنك أربعة أخماس دينه، وحين أعادت تقدير ذهب بنك فرنسا لتأخذ ما زاد في قيمته، وتلغي بتلك الطريقة الفذة دين البنك عليها، وهو ملك لمساهميه.
ولم يرَ هؤلاء الكتاب الفرنسيون عجبًا أن تطالب حكومتهم حليفتها إنجلترا بدفع قيمة الأجور والنفقات التي أدتها للجيوش الإنجليزية أثناء الحرب على أساس قيمة الفرنك قبل الحرب ذهبًا، ولا أن تقف حكومتهم موقفها المعيب من مصر عندما أرادت أن ترغم حكومتنا على دفع فوائد الدين القديم بالإسترليني الذهب، في وقت خرجت فيه إنجلترا نفسها عن الذهب، ولم يعد للإسترليني الذهب أي وجود.
التثبيت في إيطاليا وبلجيكا
وإذا كانت فرنسا قد اختارت طريق تثبيت عملتها على ذلك السعر المنخفض، فإن إيطاليا كانت أقل إضرارًا بمدينيها؛ فقد اختارت لعملتها سعرًا مرتفعًا عن السعر الذي ثبتت عليه فرنسا، ففي خطبة من خطب السنيور موسوليني أعلن في بيسارو سنة ١٩٢٦ أن إيطاليا ستدافع عن عملتها حفظًا لكرامتها، وكانت تلك الخطبة سببًا في رفع سعر الليرة حتى وصلت إلى ٩٢ ليرةً بالنسبة للجنيه الإنجليزي؛ فثبتت إيطاليا عملتها عند ذلك المستوى الذي جعل الليرة في الواقع مسعره بأكثر مما توازيه.
أما بلجيكا فقد ثبتت فرنكها على ١٧٥ بالنسبة للجنيه الإنجليزي، وهذا التثبيت بلا شك جعل الفرنك البلجيكي مسعرًا بأقل مما يوازيه.
مقارنة بين التثبيت في إنجلترا وفرنسا وإيطاليا وبلجيكا
إذا قارنا بين الطريقة التي اتبعتها إنجلترا، وبين الطريقة التي اتبعتها كل من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا، يبدو لنا عند النظرة الأولى أن إنجلترا قد راعت داعي الكرامة والسمعة المالية أكثر مما راعت دواعي المصلحة، وأنها قد تعجلت في رجوعها للذهب قبل الوقت المناسب؛ فنفذت سياسة التقلص لتعيد للجنيه الإنجليزي زعامته على نقود العالم، وترد إلى لوندره مكانتها الاقتصادية، وتجد كلًّا من فرنسا وبلجيكا وإيطاليا قد أخذت بسياسة المصلحة العامة لشعبها فجرت على تضخم نسبي في نقدها وميزانيتها لتعمر ما خربته الحرب في بلادها وترقي صناعتها.
لم تُفقد حكومة إنجلترا أي دائن لها شيئًا من دينه، ولم تقلل أعباء دينها عن طريق إنزال قيمة النقد كما فعلت الدول الأخرى التي كسبت من إنزال قيمة عملتها على حساب الأفراد، ولكن حكومة إنجلترا من ناحية أخرى اضطرت بسبب ذلك إلى ارهاق شعبها بزيادة الضرائب، كما أصابت بلادها والبلاد المتصلة نقودها بالإسترليني بضيق وقلة في النقود، وجعلت سلعها وسلع تلك البلاد المتصلة بها تعجز عن منافسة سلع البلاد الأخرى الرخيصة النقود كما سنذكره في الفصل التالي.
تلك العقيدة التي سارت عليها أكثر الدول قد أفسدت بينها وهي تتسابق في تقليل قيم النقود، فتثير حربًا من حروب العملات لا يقل ضررها عن ضرر تقدير العملات بأكثر مما توازيه، كلا الضررين تظهر آثاره السيئة بعد وقت إما طال أو قصر، ولكن الدول لا تستفيد من أخطائها إلا نادرًا، والعالم دائمًا يدفع الثمن باهظًا فيما يتلقاه من دروس.