استبداد الديمقراطية
يأتي الخطر الأكبر على الديمقراطية من الديمقراطية نفسها، ولمعرفة هذا، يجب الرجوع للاختلاف الواضح بين جزأَيْ كتاب توكفيل «الديمقراطية في أمريكا»؛ فبعد مناقشة مبدأ سيادة الشعب في الجزء الأول، غيَّرَ توكفيل توجُّهَه على نحوٍ ملحوظ في الجزء الثاني؛ فبدلًا من الحديث عن سيادة الشعب، تكلَّمَ عن «فردية» جديدة تنقلب على إحساس الشعب الواعي بأنه يحكم نفسه، وتُنصِّب «الكائن العملاق» المتمثِّل في الحكومة الكبيرة في السلطة؛ فبدلًا من استبداد الأغلبية، وصف «استبدادًا هادئًا» جديدًا ينتج عن تلك الحكومة. وللتدليل على هذا التغيير، لم يستخدم عبارةَ «استبداد هادئ» في الجزء الأول، ولم يُشِرْ إلى «استبداد الأغلبية» في الجزء الثاني. فعليًّا، يبدأ التغيير من اعتبار الخطر الأساسي في الديمقراطية هو استبداد الأغلبية القائم على الاضطهاد العلني، والمتضح في استعباد السود، وصولًا إلى استبدادٍ هادئٍ تخضع فيه الأغلبيةُ على نحوٍ سلبي للطبيعة المتكبِّرة والعنيدة والمضطربة المميزة لأي مستبِد، وتصبح «قطيعًا من الحيوانات الجبانة الكادحة.»
وبأخذ هذا التغيير في الكلمات والمعنى في الاعتبار، ذهب بعض الباحثين بعيدًا إلى حدِّ الزعم بأن الجزأين يتحدثان عن «ديمقراطيتين» تختلف كلٌّ منهما عن الأخرى، وأصبح من الشائع الإشارة إلى الديمقراطية الأولى بأنها «ديمقراطية ١٨٣٥»، والثانية على أنها «ديمقراطية ١٨٤٠»؛ ربما تُعَدُّ هذه مبالغة كبيرة. بالتأكيد، كانت لدى توكفيل فرصةٌ لمراجعة أفكاره في السنوات الخمس التي بين نشر الجزأين. اعترف توكفيل بوجود بعض الاختلاف قائلًا في خطابٍ إن الجزء الأول يتحدث أكثر عن أمريكا، مهد الديمقراطية، في حين يركز الجزء الثاني على الديمقراطية نفسها، لكن هذا يصف تغيُّرًا في التركيز وليس تغيُّرًا في الرؤية. وعلى نحو أكثر جزمًا، قال في مقدمته للجزء الثاني إن «الجزأين يُكمل كلٌّ منهما الآخر، ويشكلان عملًا واحدًا.»
مع هذا الإنكار الصريح، لا لوجود اختلاف بين الجزأين وإنما لوجود انفصال بينهما، ترك توكفيل لقرائه ملاحظة التغيير وفهمه من تلقاء أنفسهم. وعندما وصف استبداد الأغلبية في الجزء الأول، كان قد قال بالفعل إن أسوأ ما فيه هو ممارسة الاستبداد على العقول، وليس الأجساد. ربما يكون الاستبداد الديمقراطي الجديد تطورًا مقصودًا في حجته بسبب الديمقراطية غير الرسمية، وليس تغيرًا كاملًا في الرؤية.
قال توكفيل أيضًا في مقدمته للجزء الثاني إنه تحدث في الجزء الأول عن القوانين والأعراف السياسية، وإنه سيناقش في الجزء الثاني «المجتمع المدني» الذي يتضمن المشاعر والآراء والعلاقات التي ليست سياسية على نحو مباشر. غير أنها في نهاية الأمر سياسية أيضًا؛ ولذلك عاد — في القسم الرابع من الجزء الثاني من الكتاب — لوصف تأثيرها على السياسة الديمقراطية. إن الديمقراطية ليست فقط أشكالَ الحكم والحالةَ الاجتماعية للشعب الأمريكي المتناوَلَتيْن في الجزء الأول، وإنما أيضًا أسلوب حياة وغاية مجتمع. يعرض الجزء الثاني كيف تنظر الديمقراطية بعين الاحترام لغايتها أو هدفها. قال توكفيل شيئًا لم يسبق له أن قاله، وهو أنه ليس معارضًا للديمقراطية ولا مؤيدًا شديدًا لها؛ ومن ثَمَّ فهو سيتحدث عنها بأمانة؛ فجمهوره المستهدف ليس أعداءها من الأرستقراطيين الذين قال عنهم إنهم إلى زوال، وإنما مؤيدوها غير الحكماء الذين تناولهم على وجه الخصوص في القسم الأول من الجزء الثاني الذي تعرَّض للعقل الديمقراطي.
العقل الديمقراطي
من الواضح أن توكفيل تناول الممارسة الديمقراطية في أمريكا، مؤكدًا على أن الممارسة، وليس الأفكار الفلسفية، كانت هي السبيل لتعلُّم الأمريكيين للديمقراطية. لكنه في القسم الأول من الجزء الثاني، تحوَّل للفلسفة لا ليتناول تأثير الفلسفة على الديمقراطية، وإنما ليتناول تأثير الديمقراطية على الفلسفة وعلى «الحركة الفكرية في الولايات المتحدة». كانت هذه هي إحدى المرات المبكرة التي يُذكَر فيها مفهوم «حركة فكرية»، وربما تكون هي الأولى، ولقد استخدم هذا المفهوم بالصيغة المفردة، وليس «حركات فكرية» بصيغة الجمع كما نفعل اليومَ، للإشارة إلى أنه أراد أن يعرف كيف يعمل العقل الديمقراطي، وما إذا كان يعمل أم لا. قال إن الديمقراطية «لا تُقاوَم»؛ أيْ لا يمكن مقاومتها، لكن اتضح أن هناك «أنصارًا» مزعومين للديمقراطية يستخدمون الكلمة بطريقة مختلفة؛ فهم يعتقدون أن البشر لا يوجد أمامهم خيار سوى الإذعان لقوى كبيرة غير محدَّدة تحدد حياتهم وتسلبهم إمكانية التحرك («الفكري») الطوعي الواعي باتجاه الحرية الديمقراطية باعتبارها الهدف.
مَن هؤلاء الأشخاص؟ وصف توكفيل نوعين من المفكرين كان يرى أنهما يضران بالديمقراطية؛ وهما أنصار الواحدية (مذهب وحدة الوجود) والمؤرخون الديمقراطيون. لكنه في بداية نقاشه، خصَّ شخصًا واحدًا بتناول منفرد — وهو الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت الذي ظهر في القرن السابع عشر — قال إن الأمريكيين يعطون اهتمامًا أقل للفلسفة مقارَنةً بأي مكان آخَر في العالم المتحضر، غير أنهم جميعًا يستخدمون منهجًا واحدًا في التعامل مع المسائل الفكرية يقوم على الجهد والحكم الشخصيَّيْن، وهو نفس المنهج الذي دعا إليه ديكارت؛ فأفكاره «هي الأقل دراسةً ولكن الأكثر اتباعًا» في أمريكا. كما أن الحالة الاجتماعية الديمقراطية للأمريكيين تبعدهم عن الفلسفة وتجعلهم يميلون لتبنِّي أفكار ديكارت؛ ففي تلك الحالة، لا يلتزم الناس بالعُرف ولا يتقبلون رأيَ طبقة معينة؛ فحيث إنهم لا يرون أن هناك مَن هم أعلى مكانةً منهم، فإنهم لا يثقون إلا بأنفسهم.
يعرض كتاب توكفيل وجهةَ نظرٍ غريبة بشأن ديكارت — الذي لا يُعَدُّ عادةً فيلسوفًا سياسيًّا، وهو بالتأكيد ليس من دعاة الديمقراطية — حيث يعلن توكفيل من خلالها أن ديكارت هو مَن وضع، دون أن يقصد، «المنهجَ» (وهو مصطلح خاص بديكارت) الديمقراطي. وهو يعرض هنا وجهةَ نظر غريبة أخرى عن الأمريكيين، وهي أنهم متأثرون بشدة بفيلسوف فرنسي لم يقرأ أيٌّ منهم شيئًا من أعماله، أو أنهم يتفقون مع أفكاره على نحو غير واعٍ. إن ديكارت، الذي يُعَدُّ أشهر جهوده هو تحدي السلطة، أصبح هو نفسه سلطة ومرجعية في أمريكا في كل شيء ما عدا اسمه؛ فهجومه على السلطة أصبح مرجعيةً تبرِّر سيادة الفرد. من الصعب تحديد ما إذا كان توكفيل قد جعل ديكارت أو المفكرين الأمريكيين الجهلاء به يبدون أكثر سخافةً أم لا؛ ففلسفة ديكارت القائمة على «أفكار واضحة ومميزة» تُستخلَص منها السيادةُ الخرقاء لكل الأمريكيين غير المهتمين أصلًا بالفلسفة، الذين يعرفون على نحو أساسي ما يعرفه دون الحاجة إلى قراءة أعماله. غير أن الأمريكيين يخلعون — بشكل عبثي — سلطةً على أشخاص معينين، في الوقت الذي كان يجب أن يتعاملوا معهم فيه بارتياب، إذا كانوا يتبعون بحق منهج ديكارت. وفي ظل الابتذال والتناقض، ما هو إذن نوع الحركة الفكرية التي يتحدَّث عنها؟
لتفسير العقل الديمقراطي، تأمَّلَ توكفيل طبيعةَ الوضع الإنساني؛ فكل الحركات الفكرية في مقابل الحركات الفطرية أو التلقائية تحتاج لاستخدام الفردِ عقلَه، واستخدامُ الفردِ عقلَه يعني الشك في صحة ما يقال له. لكن إذا كان التفكير يتضمن إنتاج فعل، فيجب أن يكبت الفرد شكوكه؛ فلا يوجد فرد لديه الوقت للتفكير في كل شيء بنفسه أو القدرة على ذلك، ولا يمكن لمجتمع أن يستمر دون وجود أفعال وأفكار مشتركة، وحتى الفيلسوف يجب أن يضع افتراضاتٍ؛ لأنه لا يستطيع التفكير في كل الجوانب المتعلقة بكل أمر.
قام توكفيل بعد ذلك بتحوُّل سهل من الحاجة إلى سلطة، إلى الحاجة إلى إيمان؛ حيث إن كلًّا من المجتمع والفرد يجب أن يقبلَا وجودَ «أساسٍ أولي» قائم على الإيمان، الذي هو في حقيقة الأمر نوع من العبودية، لكنها «عبودية محمودة» وضرورية. بالَغَ كلٌّ من ديكارت والحالة الاجتماعية الديمقراطية التي تُردِّد صدى فلسفته في تقدير سلطة العقل البشري؛ فلا يمكن للعقل أن يحل محل السلطة ويؤسس لاستقلالية الفرد؛ فبحسب رأيه، كل ما يمكن للعقل الإنساني أن يفعله هو تغيير السلطة الأرستقراطية إلى السلطة الديمقراطية، وهو يستطيع أن يفعل ذلك؛ فالإنسان ليس بطبيعته «حرًّا على نحو كامل»، بدايةً من الوضع الذي لم تكن توجد فيه أيُّ سلطة، كما افترض كلٌّ من هوبز ولوك؛ فالديمقراطية لا تنشأ من الحالة الطبيعية التي لا يوجد في ظلها أيُّ سلطة، وإنما تنشأ على يد ديمقراطيين يُنكِرون سلطةَ أيِّ شخصٍ أو طبقةٍ عليهم؛ وبقيامهم بهذا، يشعر كلٌّ منهم بالفخر بالمساواة بينه وبين الآخرين. غير أن كلًّا منهم في الوقت نفسه يغلبه شعورٌ بالضعف والضآلة مقارَنةً ﺑ «الكيان العظيم» المتمثِّل في مجموع الآخرين؛ لذا فإن السلطة الديمقراطية لها تأثيران متناقضان على العقل: جلب أفكار جديدة إليه متعلِّقة بإنكار الأعراف والتقاليد، وفي الوقت نفسه حثُّه على التخلِّي عن التفكير في مواجهة الرأي العام.
استنادًا إلى الحاجة إلى الإيمان، أشار توكفيل إلى أن العقل الديمقراطي يحب التعميم، وهذه نقطة ضعف في اعتقاده؛ فالرب، الذي يعرف كلَّ الأمور المتشابهة والمختلفة، ليس بحاجة إلى أفكار عامة، لكن الإنسان يحتاج إلى الاستفادة من جمع الأشياء المتشابهة معًا في فئة واحدة. والأمريكيون يبدون اهتمامًا بالأفكار العامة أكبر من اهتمام «أسلافهم الإنجليز»، الذين يمثلون الماضي الأرستقراطي الإنجليزي لأمريكا، وذلك في مقابل مَن كانوا يمثلون نقطةَ انطلاقها نحو الديمقراطية، وهم البيوريتانيون الذين كانوا يعارضون النظام الأرستقراطي الإنجليزي. إن الأرستقراطيين لديهم كُرْه غريزي للتعميمات؛ حيث إنهم يفضلون التفكير في شخص واحد أو مجموعة قليلة من الأشخاص في المرة الواحدة، لكن الديمقراطيين لديهم شغف مندفع وكسول لعمل تلك التعميمات؛ لأنهم ينطلقون من الحقيقة الواضحة بأن الجميع من حولهم يتماثلون معهم تماثُلًا شبه تام؛ أيْ إنهم جميعًا «متشابهون» معهم. ومن خلال المساواة الديمقراطية، تأتي عادة التفكير اعتمادًا على التعميم المتسرع والخوف من التعمق في التفكير، ونقطة الضعف هذه التي تتسبَّب فيها الديمقراطيةُ شجَّعت توكفيل على تقديم تناول جديد للدين؛ ففي الجزء الأول من كتابه، تعرَّض لفائدة الدين بالنسبة إلى الديمقراطية، وأوضح كيف أنه «يعلم الأمريكيين فن الحرية.» أما في الجزء الثاني، فقد تحوَّل لتناول حقيقة الدين.
يساعد الدينُ الأمريكيين على التفكير من خلال إنقاذهم من الشك؛ ففي حين تفرض فلسفة ديكارت متطلب الشك، خاصةً في الدين، فإن الدين من وجهة نظر توكفيل ينقذ أي شعب ديمقراطي من حالة التخاذل والعجز التي تنتج عن الشك؛ فالبشر بحاجة إلى «أفكار راسخة جدًّا لأنفسهم عن الرب وعن أرواحهم وواجباتهم العامة تجاه خالقهم ومَن يشبهونهم»؛ لأنهم دون تلك الأفكار سيصبحون تحت رحمة الصدفة، ويكونون معرَّضين للفوضى والعجز. يفرض الدين «قيودًا محمودة على العقل»، وإذا لم ينقذ الإنسانَ في الحياة الأخرى، فهو مهم لسعادته وعظمته في هذه الحياة؛ فهو يقدم إجابات على الأسئلة الكبرى التي من دونها سيتخاذل الإنسان ويتوقف عن التفكير كليةً؛ نظرًا لأنه تعوزه القدرة على التفكير بمفرده.
قد يردُّ ديكارت، أو أي فيلسوف آخَر، بأن الشك يؤدي إلى وعي وحرية أكبر من الإيمان. وعند قراءة أعمال أفلاطون، سيجد المرء نظرةً أقل إطراءً ﻟ «القيود المحمودة» كما يراها توكفيل في صورة الكهف الذي يقول سقراط إن معظم الناس مسجونون فيه. لكن توكفيل عارَضَ هذا وأشار إلى أن الشك بالنسبة إلى معظم الناس يؤدِّي بهم إلى الاستسلام للصدفة؛ لأن الشك يتساءل عما إذا كان الشيء يحدث بانتظام أو على نحو متوقَّع؛ فإذا اعتقد الفرد أن الصدفة تحكم الأحداث الإنسانية، فإنه سيَدَع الأشياء تحدث دون أن يحاول التدخُّل في الأمر، ولن يحاول القيام بفعل حر ومتعقل. يؤكد لنا الدين أن الصدفة لا تحكم أحداثنا، ويشير إلى أن المساعي الإنسانية يمكن أن تنجح، وأن الأفعال الإنسانية لها معنًى.
يمكن أن يعترض أحد قائلًا إن الدين في جانبه الفكري ما زال يتم الحكم عليه استنادًا إلى فائدته؛ لكن الآن، يمكن أن يجيب أحد بأنه يُحكَم عليه استنادًا إلى فائدة العقل في توجيه الفعل؛ فالدين مفيد للديمقراطية لأنه يحرك فينا غرائزَ تعمل على نحو معاكس لحب المتع المادية، ولأنه بفعله هذا يُعلِّمنا واجباتنا تجاه الآخرين، وفي كلا الأمرين، يُعَدُّ الدين ضروريًّا للحرية. قال توكفيل إنه يعتقد أنه «إذا لم يكن لدى الإنسان إيمان، فإنه يجب أن يكون عبدًا، وإذا كان حرًّا، فيجب أن يكون لديه إيمان.» عندما يفكر أحد في مدى العداء الذي تُولِيهِ النظرية الليبرالية الكلاسيكية للإيمان، فإن ما يقوله توكفيل هنا يمثِّل في واقع الأمر «ليبرالية من نوع جديد.» فقد قدَّم توكفيل الدينَ على أنه الوجه العام للفلسفة، وهو صديق لها أكثر من كونه عدوًّا لها؛ مما يحمي الفلسفة من إحداث ضرر غير مقصود، وهو ما ستُحدِثه إذا تُرِكت وشأنها.
الواحدية فلسفة دينية أو «نظام فلسفي»، يضم — كما في مذهب سبينوزا — الرب والكون، الخالق والخلق، في كل واحد؛ وهذا يعني أن الرب كان عليه أن يخلق كما فعل، وأن الرب هو أثرٌ لخلقه مثلما كان السبب فيه؛ وهذا يعني أيضًا أن الإنسان لا يمكن أن يوجهه عقلُه، ولا يمكن أن يكون السبب الأول كما هو الحال بالنسبة إلى البيوريتانيين، وأنه لم يَعُدْ حرًّا أكثر من عناصر الطبيعة الأخرى. إن هذا المذهب ليس فقط تعبيرًا عن العقل الديمقراطي، بل هو فكرة عامة تلغي كل الفروق في الطبيعة ولا تعطي أيَّ مكانة متميزة في الطبيعة للبشر. كما أنه يُعَدُّ هجومًا على العقل الديمقراطي أو أي مفهوم للعقل؛ لأنه ينكر قدرةَ البشر على أن تكون لهم أفضلية على باقي عناصر الطبيعة عن طريق التفكير والتأثير فيها، كما أنه يُعَدُّ الذروة المنطقية للموضوعية العلمية؛ حيث لا يعطي أيَّ أفضلية للبشر وأيضًا، وعلى نحو غريب، للمساواة الديمقراطية؛ فالكون بأكمله ديمقراطي.
غير أن توكفيل بعد أن أورد مباشَرةً نقاشه الموجز والمهم في ذات الوقت لمذهب الواحدية، تَناوَل فكرة التقدم التي أطلق عليها «القابلية اللامحدودة لبلوغ الكمال». السؤال الآن: ما علاقة هذا بمذهب الواحدية؟ التقدُّم هو الاعتقاد الإيجابي الأساسي للعقل الديمقراطي، على الرغم مما يحيط به من شك وميله للحتمية العمياء؛ فالتقدم سيبدو كتحسُّن معقول للوضع القائم بحيث يصبح أفضل حالًا، وسيبدو أنه المثال الأساسي على «حركة فكرية» مثل تلك التي يتحدث عنها. والآن، يبدو أن التقدم قدرة إنسانية تميِّز الإنسان عن غيره من الحيوانات وباقي الخلق؛ فالخلق إذن ليس «كلًّا واحدًا» كما يدَّعِي مذهب الواحدية، وإنما كلٌّ معقدٌ يتضمن كيانًا قادرًا على التغيير والتجديد — وهذا هو التقدُّم — بخلاف باقي الكون. إن فكرة التقدُّم لا تتلاءم مع مذهب الواحدية، غير أنهما تعبير عن العقل الديمقراطي. يرغب مذهب الواحدية في التعميم بالرغم من كل الفروق والاختلافات، لكن تصرُّ فكرة التقدم على وجود استثناء واحد؛ وهو الإنسان الديمقراطي، حتى تُبدِي احترامًا للعقل الديمقراطي الذي صاغ التعميمَ الذي يقوم عليه مذهب الواحدية. يقول الديمقراطيون إن جميع الأشياء في واقع الأمر متكافئة على نحو أساسي، باستثناء الديمقراطيين الذين يؤكدون على تلك النقطة.
يمكن تبيُّن عدم الاتساق داخل فكرة التقدُّم؛ فالمساواة، بحسب قول توكفيل، «توحي» للأمريكيين بفكرة قابلية الإنسان «اللامحدودة» لبلوغ الكمال، وهي توحي بذلك ولكن لا تُجبِر الديمقراطيين على الإيمان بالتقدُّم؛ لأن الإجبار سينتقص من مكانة الابتكار الإنساني ومن تصوُّر طريقة أفضل للوجود أو للفعل والترويج لتلك الطريقة. السؤال: لماذا التقدُّم الديمقراطي غير محدود؟ يمكن أن يحدث التقدُّم في النظم الأرستقراطية، لكنه سيكون محدَّدًا في ظلها؛ فهو عبارة عن تطوير باتجاه الكمال أو تقدُّم «في حدود معينة لا يمكن تجاوزها»؛ فلا يمكن للتقدُّم أن يتجاوز حدَّ الكمال، ولا يستطيع سوى الاقتراب من الكمال، باعتبار أن البشر ناقصون.
لا تسعى النُّظُم الديمقراطية وراء الكمال وإنما وراء شيء مختلف؛ وهو: «صورة كمال مثالي صعب الوصول إليها دائمًا»؛ «عظمة كبيرة» دائمًا ما تتوارى لكن يمكن لمحها فقط على نحو مشوش. إنها لا تعرف المقصود بالكمال، لكنها في الوقت نفسه لا تنكر وجوده؛ إنها غير فلسفية لأنها تنكر وجودَ أي منطق أو حقيقة خارج ذواتها، غير أنها في الوقت ذاته تتبع «نظرية فلسفية» تقوم على القابلية اللامحدودة لبلوغ الكمال التي تؤيِّد سيادة العقل على المادة، لكنها تقرُّ بأن بإمكان كل البشر والدول تحقيقَ التقدُّم. ذَكَرَ توكفيل طُرفة بطلها بحار أمريكي قال إن سفن بلاده لم تُبنَ حتى تبقى للأبد؛ لأن التقدُّم سريعُ الخطى جدًّا بحيث سرعان ما تصبح السفن القديمة عديمةَ الجدوى. بالنسبة إلى الأمريكيين، لا يوجد ما يُسمَّى بالسفينة الكاملة المثالية، لكننا — على نحوٍ ما ودون أن نعرف ما المقصود بالكمال — نعرف على نحوٍ غامض وغير محدد أن الجديد دائمًا يكون أفضل.
وهكذا، فإن للعقل الديمقراطي نظرية خاصة بالتقدم، لكنها تتجاهل النظريةَ المجردة الخاصة بالكمال، وتفضِّل تطبيقَ النظرية على الممارسة. قال توكفيل: «المساواة تثير في كل شخص الرغبةَ في الحكم على الأشياء بنفسه؛ فهي تعطيه فيما يتعلَّق بكل الأشياء رغبةً في الأشياء الملموسة والواقعية، وازدراءً للتقاليد والنظم.» فالناس في ظل حركة النشاط الدءوبة للديمقراطية ليس لديهم الوقت للتأمُّل الهادئ المطلوب للوصول ﻟ «معظم المبادئ النظرية»، كما تَنقصهم الآراء المعبِّرة عن «كرامة الإنسان وقوته وعظمته» التي لها قيمتها في النُّظُم الأرستقراطية، ويستغنون عن العقل لصالح حب الحقيقة. حذَّرَ توكفيل من أن التقدم يعتمد على الاكتشافات التي تقوم على النظريات المجردة، والتي يكون احتمالُ الوصول إليها ضئيلًا — وإن لم يكن مستحيلًا — في المجتمعات الساعية للتقدم؛ فالتقدم يحدث على يد الشعوب التي لديها «شغف كبير بالحقيقة»، ولا يحدث نتيجة لحب التقدم. فالعلم، كما يبدو، ليس متعلقًا بالمنهج العلمي — الذي هو منهج الأمريكيين — بقدر تعلُّقه بحب الحقيقة؛ ففي الحركة الفكرية للأمريكيين، لا يعرف الأمريكيون وجهتهم، وهم لا يبدون اهتمامًا كبيرًا ﻟ «تأمُّل الأسباب الأولى» الضرورية للعلم المجرد. قال توكفيل: «في وقتنا هذا، يجب على المرء أن يحتجز العقلَ الإنساني في النظرية»؛ حيث إن العقل الديمقراطي يفضِّل الجانب العملي ولا يهتم بالتفكير على نحو عميق ومستقل. وفي هذا القسم من كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، كشف توكفيل عن تقديرٍ للنظرية لم يكن على هذا النحو من الوضوح في أيِّ موضعٍ آخَر في كتابه، لكنه لم يكن غائبًا؛ ففي معظم الكتاب، كان يصف الأمر ثم يثني أو يعيب عليه، لكنه هنا، بصفته معلمًا للديمقراطية، شرع في تقديم النصح.
أشار توكفيل بعد ذلك فيما يتعلق بالفنون في أمريكا إلى أن الأمريكيين، بالرغم من قدرتهم على تقدير الجمال، يفضِّلون الشيء النافع على الشيء الجميل، ويريدون أن يكون الشيء الجميل نافعًا. لكنه بعد ذلك عرض نقطة أقل وضوحًا فيما يتعلَّق بروح التصنيع لدى الأمريكيين؛ فبخلاف العصور الأرستقراطية، حيث كان الهدف من الفنون الإنتاجية هو تصنيع أفضل منتج ممكن، نادرًا ما يصنع الأمريكيون منتجات عالية الجودة؛ فهي تكون في الغالب متوسطةَ الجودة، بالرغم من أن الجميع يحصلون عليها. وباتباعهم هذا الأسلوب على نحوٍ واعٍ ومتعقِّل، فإن المهم بالنسبة إليهم أن يكون المنتج «جيدًا على نحو كافٍ»، وقد اكتشفوا أن بإمكانهم أن يصبحوا أغنياء بأن يبيعوا منتجات رخيصة الثمن للجميع. لكن — كما قد يتساءل المرء — كيف سيسعى الأمريكيون للكمال في منتجاتهم إذا كانوا لا يدركون أن فعل الشيء يعني فعله على نحو متقن؟ وحتى المنتج المتوسط الجودة يحتاج إلى وجود نموذج مثالي، إذا أراد مُنتِجُه أن يطوِّره. أثنى توكفيل على الأعمال الفنية لرافائيل، وهو رسام من عصر النهضة يبدو أن توكفيل كان يعتبره أرستقراطيًّا؛ لأنه جعلنا «نلمح الألوهية في أعماله.» وألوهية كهذه تسمو فوق الكمال البشري، لكنها مصدر إلهام للكمال البشري الضروري للتقدُّم الديمقراطي، غير أنه من المستبعد أن تتواجد في العصور الديمقراطية.
عند تلك النقطة، أثار توكفيل النقطة الخاصة بمكان العظمة في الديمقراطية؛ ففي ظل الديمقراطية، الأفراد ضعفاء، لكنَّ الدولةَ أو الأمة قويةٌ وعظيمة. ربما يعيش الأفراد في مساكن صغيرة، لكنهم في مبانيهم العامة العملاقة يتصورون رغبتهم في العظمة ويبدونها؛ فقد بنى الأمريكيون لأنفسهم مدينةً ضخمة واصطناعية (وهي واشنطن العاصمة)، التي قلَّمَا وُجدت بلدة فرنسية أقل سكانًا منها في عصر توكفيل؛ ذلك لأن الديمقراطية في المجمل تُنتج عددًا كبيرًا من المباني الصغيرة، وعددًا قليلًا جدًّا من المباني العظيمة، دون وجود وسط بين الأمرين. إن العظمة في الديمقراطية تقوم على الخيال الرحب، وقد ناقَشَ في الفصول التالية من كتابه الأشكالَ المختلفةَ للتعبير الديمقراطي عن الرأي، التي يعبِّر من خلالها العقلُ الديمقراطي عن نفسه، مركِّزًا على اتسامها بالمبالغة والغرور.
في الأدب، يحتقر الكُتَّابُ الديمقراطيون سماتِ الأسلوبِ الشكليةَ التي يتم تقديرها في النظم الأرستقراطية، كما أنهم أقل إبداعًا وأكثر جرأةً وحدَّةً، وأقل علمًا وعمقًا، وأكثر خيالًا وإقناعًا؛ فهُم يسعون لإبهار الآخرين لا لإسعادهم، ولإثارة الانفعالات بدلًا من رفع الذوق؛ فيمكن للمرء أن يلاحِظ وجودَ عددٍ قليل من الكُتَّاب العظام والآلاف من مروِّجي الأفكار. ولا تتم كثيرًا دراسةُ الكُتَّاب القدماء — باهتمامهم بالتفاصيل وجاذبيتهم بالنسبة إلى الخبراء — في النظم الديمقراطية حيث يكون التعليم علميًّا وتجاريًّا وصناعيًّا أكثر منه أدبيًّا؛ بالرغم من أنهم، بحسب اعتقاد توكفيل، «وجبة دسمة» بالنسبة إلى الديمقراطيين الذين يريدون التميز في مجال الأدب. وتعكس لغات الشعوب الديمقراطية رغبتهم في الحركة والابتكار وكرههم لأي شيء تقليدي أو تعسفي وحبهم للتجريد؛ فالشعر الديمقراطي لديه كُرْه فطري لأي شيء قديم ولأي حديث عن أي شيء مثالي. بدلًا من ذلك، هو منفتح على المستقبل ويسعى وراء أشياء رحبة مثل مصير كل الإنسانية، كما أن فن الخطابة الديمقراطي عادةً ما يعتمد على التحذلق والمبالغة في الأسلوب، في حين أن المسرح الديمقراطي «يصبح أكثر إبهارًا وأكثر فجاجةً وأكثر صدقًا» دائمًا مقارَنةً بالمسرح الأرستقراطي.
غير أن آخِر فصلين في الفصول التي تتناول أشكال التعبير الديمقراطي عن الرأي يكشفان عن الغرور الحزين الموجود في قلب العقل الديمقراطي: ما مدى أهمية الإنسان في حالة المساواة بين كل الناس؟ للإجابة عن هذا السؤال، قارَن توكفيل على نحو درامي بوجه خاص بين الديمقراطية والأرستقراطية، وقال إن المؤرخين في العصور الأرستقراطية يجعلون كل الأحداث تعتمد على الإرادات والأهواء الخاصة بأشخاص بعينهم، لكن في العصور الديمقراطية، هم لا ينسبون أيَّ تأثير تقريبًا في التاريخ لأي شخص، بل يحددون أسبابًا عامة كبرى لحقائق معينة. صحيح أن تلك الأسباب، بحسب اعتقاده، تفسِّر الكثيرَ في العصور الديمقراطية عندما يكون الأشخاص في واقع الأمر أقل تأثيرًا، لكن تلك التفسيرات تكون خطيرةً لأنها تُخضِع الأشخاص لعناية إلهية غير مَرِنة أو حتمية عمياء؛ فهي تشير ضمنًا إلى أنه بما أن الإنسان ليس سيد نفسه، فهو لا يتحكم في الأحداث؛ ومن ثَمَّ ليس حرًّا. يبدو أن المؤرخين الديمقراطيين مصممون على إثبات أن التقدم ليس هدفًا يتحقق على نحو واعٍ وطوعي على يد البشر؛ فبحسب قوله: «يُعلِّم المؤرخون القدماءُ الناسَ كيف يحكمون، أما مؤرِّخو اليومَ، فنادرًا ما يعلِّمونهم شيئًا بخلاف كيف يطيعون.»
غير أن المؤرخين يَبدون عظماء، ويتخلَّون على ما يبدو عن الأسباب الكبرى التي يصفونها ويزدرون بلا مبالاة باقيَ البشر الذين يجهلون القوى التي تحركهم. يبدو أن الفصل التالي المخصص لفصاحة أعضاء البرلمان في الولايات المتحدة غير متعلِّق بالتاريخ، لكنه في واقع الأمر يصبُّ في نفس الاتجاه. في البرلمانات الأرستقراطية، لا يكون لدى الأعضاء، الذين هم في واقع الأمر أرستقراطيون، أيُّ شيء يريدون إثباته ويقنعون بالسكوت إذا لم يكن لديهم أي شيء يقولونه. على العكس من ذلك، في أمريكا، يكون النائب شخصًا عاديًّا، وهو يشعر دائمًا بالحاجة إلى أن تكون له ولمَن انتخبوه أهميةٌ ومكانة يُبرِزها؛ لذا فهو كثيرًا ما ينزع لإلقاء خطب رنَّانة عديمة الجدوى. تتناقض روح النائب الديمقراطي الذي يقول إنه مهم مع روح المؤرخين الديمقراطيين الذين يفترضون أن الإنسان ليس له أهمية. من الواضح أن الإنسان الديمقراطي لديه رغبة في أن يُكرَم، وهي رغبة غير معروفة لمَن يعيش في ظل نظام أرستقراطي؛ حيث سيُكرم باعتباره شخصًا مهمًّا؛ فعقله المحب للتعميم والمشغول بتبرير الديمقراطية متعارِض مع عقله الشخصي الذي يحاوِل تبرير نفسه.
الفردية الديمقراطية
انتقل توكفيل من تناول أفكار العقل الديمقراطي إلى تناول «المشاعر» التي تميِّز القلب الديمقراطي، وأهم تلك المشاعر هو الإحساس بالضعف الذي أطلق عليه «الفردية». إن الفردية مصطلح نسمعه الآن كلَّ يوم وبمعانٍ مختلفة، وعادةً بمعنًى إيجابي كما في «الفردية الصارمة». لم يكن توكفيل هو أول مَن استخدم هذا المصطلح، لكنه كان أول مَن ركَّز عليه واعتبره أساسيًّا؛ فهو لم يعرِّفه بأنه نوع من الأنانية أو الأَثَرَة؛ أيْ حب شديد لِلَّذات يُعَدُّ بوجه عام رذيلةً أخلاقية، وإنما على أنه شعور ديمقراطي، تأمُّلي ومسالِم، يجعل كلَّ مواطن يميل لأن يعزل نفسَه عن جموع المواطنين الآخَرين وأن يتقوقع داخل أسرته وأصدقائه ونفسه. ويصاحب هذا الشعورَ شغفٌ بالمساواة يكون دائمًا أقوى في أي نظام ديمقراطي من الرغبة في الحرية، لكنه في ذاته حكمٌ خاطئ أكثر منه شغف أو رذيلة؛ وهذا الحكم، الناتج عن الحالة الاجتماعية الديمقراطية، هو نفسه الذي يقول به الواحديون والمؤرخون الديمقراطيون الذين يرون أن الفرد لا حول له ولا قوة، وأنه خاضع لقوًى هائلة خارج الذات، وأن الفضائل العامة عديمةُ الجدوى. وعلى عكس النظام الأرستقراطي حيث يربط النظام الطبقي الأفرادَ بعضهم ببعض وبالماضي، يساوي النظامُ الديمقراطي بينهم بحيث يهتمون في واقع الأمر فقط بمَن هم أقرب إليهم، وذلك على الرغم من أن إحسانهم وعطفهم يمتدان على نحوٍ مجرد وضعيف لكل الإنسانية.
حيث إن الأمريكيين لم يمروا بثورة ديمقراطية، فإنهم لديهم فردية أقل من الشعوب الديمقراطية في أوروبا؛ فوفقًا لتوكفيل، هم لديهم الميزة الكبرى المتمثِّلة في «أنهم وُلِدوا متساوين بدلًا من أن يصبحوا كذلك.» وحيث إنهم مدركون لفرديتهم، فإنهم «يحاربونها» من خلال الجمعيات الحرة، ومن خلال الاعتقاد الأخلاقي الغريب المتمثل في المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد، وهما أمران تناوَلَهما توكفيل في الجزء الأول من كتابه. تأخذ الجمعياتُ المواطنين من الشعور بالارتياح الخاص بالفردية إلى النشاط العام، ممَّا يرضي طموحهم ويحقِّق مصالحهم الشخصية، وفي نفس الوقت يعزِّز الصالح العام.
إن الاعتقاد الذي وصفه توكفيل هو من جديد «المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد.» وقد ذكر أن مصدره الأخلاقيون الأمريكيون الذين قدَّموه للأمريكيين، وأنه «من بين كل النظريات الفلسفية الأكثر ملائمةً لاحتياجات الناس في عصرنا الحالي.» فهو يستوعب الضعفَ الإنساني بأن يجعل المصلحة الشخصية تنقلب على نفسها: «فحتى توجِّه المشاعرَ، هي تستفيد من المثير الذي يحفِّزها.» لكن بالرغم من براعة هذا الاعتقاد، ترك توكفيل شكوكه تظهر من خلال المقارنة بين النظام الديمقراطي والأرستقراطي؛ ففي ظل النظام الأرستقراطي، يتحدَّث الناس عن الجانب المعنوي للفضيلة ويدرسون سرًّا فائدتها، لكن الآن في ظل النظام الديمقراطي، العلاقة معكوسة؛ فالأخلاقيون الأمريكيون يخشون الحديث عن الجانب المعنوي للفضيلة؛ فالجانب المعنوي للفضيلة ربما يستدعي التضحية، ويبحث الأخلاقيون الديمقراطيون — الذين لا يجرءون على النصح بذلك — عن حالاتٍ تكون فيها الفضيلةُ في مصلحة الشخص، ويستفيضون فيها محوِّلين إياها إلى معتقد عام. لم يُسمِّ توكفيل أحدًا من الأخلاقيين الأمريكيين، ولم يستشهد إلا بمونتين، لكن أبرز معلم أمريكي للمصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد سيكون بنجامين فرانكلين، الذي أوضح في سيرته الذاتية كيف يمكن للمرء شق طريقه في الحياة، وفي نفس الوقت يسعى لمساعدة الآخَرين دون أن يحاول تحقيقَ كل طموحه.
لفت توكفيل في تحليله الانتباهَ إلى نقطة دقيقة كان فرانكلين قد أشار إليها أيضًا ولكن ليس بهذا الوضوح؛ إذ أوضح توكفيل أنه في أمريكا لا تحتاج المصلحةُ الشخصية أن تُخفِي نفسها في شكل فضيلة — وهو نوع من النفاق العادي الذي تتم ممارسته في كل المجتمعات الإنسانية — وإنما الفضيلة هي التي تحتاج للتخفِّي في شكل مصلحة شخصية. وادِّعاءُ الفضيلةِ في أي ديمقراطية يعني أن تُظهِر نفسك بأنك أفضل من «المتشابهين» معك، وهذا يجعلك محل حسد من جانب الآخرين. ذكر توكفيل أن الأمريكيين «يفضِّلون احترامَ فلسفتهم أكثر من احترام أنفسهم»؛ هذا يعني أنهم يفضِّلون الاعترافَ بحرصهم على مصلحتهم الذاتية على إنكارها. ويعني تفضيلهم احترامَ فلسفتهم أنهم يحترمون الحقيقةَ، لكن من أين تأتي تلك الحقيقة؟ ليس من ذات الشخص؛ فمعتقد المصلحة الشخصية لا يأتي من المصلحة الشخصية نفسها، وإنما من السعي المخلص وراء الحقيقة؛ بهذا يناقض الأمريكيون أنفسهم؛ فهم يثنون على أنفسهم بأنهم يتصرفون وفقًا للمبادئ وليس المصالح، على الرغم من إنكارهم لهذا. وبثناء توكفيل على الأمريكيين لممارستهم الحريةَ السياسية، فقد فعل عكس ما قال الأمريكيون إنهم يفعلونه؛ فهو يثني على الأمريكيين وليس على فلسفتهم.
إن اعتقاد المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد ليس فقط متناقضًا، وإنما أيضًا مبالَغ في تجريده؛ فهو يعني ضمنًا أن هناك «ذاتًا» إنسانية عمومية تفعل أو تستجيب دائمًا بالطريقة نفسها. مع ذلك، أكد توكفيل على أن تلك الذات العمومية المفترضة هي بالفعل الروح الديمقراطية. وفي الفصول التي تلَتِ الفصلَ الذي تحدَّث فيه عن المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد، تناوَلَ مرةً ثانيةً الرفاهيةَ المادية المميزة للروح الديمقراطية، وخلص إلى أن الديمقراطية تُنتج مادية معتدلة ومقبولة لا تفسد الأرواح بقدر ما تهذِّبها؛ فالأمريكيون يشعرون بالاضطراب (وهو لفظ شائع في كتاب توكفيل) ولا يشعرون بالرضا بالرغم من رخائهم؛ إن إيمانهم باعتقاد «المصلحة الشخصية» لا تبرره الطبيعة الإنسانية، وإنما تحدده الديمقراطية التي يعيشون في ظلها، كما أنها ليست في الحقيقة «مفهومة على نحو جيد» من جانبهم.
في ضوء الطبيعة الأساسية للأمريكيين التي تتميز بالاضطراب والقلق، من المهم معرفة أن لديهم شيئًا طويلَ الأجل يعملون من أجله، وهذا هو الموضوع التالي الذي سيتناوله توكفيل. إن مهمة الدين هي تحريرُ الديمقراطيين، بقدر الإمكان، من التكالُب على الإشباع الفوري لرغباتهم، وجعلُهم يكتسبون عادةَ العمل من أجل هدف مستقبلي. وعندما تكون الديمقراطية منفصلة عن الدين بسبب حبِّها للرفاهية المادية، فإن المهمة السابقة تكون أيضًا مهمة «الفلاسفة ومَن في السلطة.» من الضروري «استبعاد الصدفة قدر الإمكان من العالم السياسي»، ليس باستخدام العلم للتنبؤ بما سيحدث بغض النظر عن رغباتنا، وإنما لإعطاء الانطباع بأن الجهد الصادق ستتم مكافأته. إن الاعتقاد بأن الصدفة هي التي تحكم العالم يجعل الشعوب تتسم بالسلبية والبلادة؛ إما لأن هذا الاعتقاد يجعل التضحية من أجل الفضيلة شديدةَ الخطورة إذا كنتَ تعتقد أنك غير محظوظ، وإما لأنه يجعل النجاحَ يبدو بالغ السهولة إذا كنتَ تعتقد أنك محظوظ. وعلى الرغم من أن الصدفة لا يمكن — ولا يجب — استبعادها تمامًا من الحياة البشرية، فإنه يجب التقليل من حجمها إلى الحد الذي يمكن للناس عنده أن يعتقدوا على نحوٍ معقولٍ أنهم هم مَن يتحكمون في شئونهم ويسيطرون على حياتهم. حدَّدَ توكفيل تلك الوظيفة الوحيدة الموجهة للدين والفلسفة والسياسة على حد سواء؛ فيجب على الحكومات أن تعلِّم المواطنين أن «النجاحات العظيمة تأتي بعد تحقيق الرغبات الطويلة الأمد.» فتفكيرهم في مستقبلهم في هذا العالَم سيردُّهم ثانيةً — دون وعي منهم بذلك — إلى الإيمان بالعالَم الآخَر. والفضيلةُ ذات الطابع الأمريكي، مهما تخفَّتْ في شكل مصلحة شخصية، ما دام أنها دائمة، يمكن إثبات أنها ليست حلمًا أو هبةً تحقَّقت بالصدفة، بل يمكن أيضًا إثبات أنها متأصلة في النظام الطبيعي للأمور. ومع تحقيق «نجاحات عظيمة» مستحقة، فإن الإيمان الأمريكي بالقابلية اللامحدودة لبلوغ الكمال سيتحرَّر من القلق المضطرب المصاحب له، وسيكتسب بعضَ الصحة من خلال الثقة المعقولة بالنفس.
لكن توكفيل الذي ليس من نوعية الأشخاص الذين يبالغون في تفاؤلهم حذَّرَ من أن أمريكا في المستقبل قد تشهد نظامًا أرستقراطيًّا جديدًا تخلقه الصناعة؛ فقد توقَّعَ — كما فعل كارل ماركس تمامًا — أن العامل الديمقراطي سيستسلم للخضوع والتبعية؛ حيث إن التوسُّعَ في تقسيم العمل سيضيق من رؤيته وأهليته بحيث يترك كل عمليات التخطيط والتفكير لرئيسه في المؤسسة الصناعية. إن مثل هذا النظام الأرستقراطي سيكون قاسيًا؛ لأنه سيعامل العمال باعتبارهم أشياء، لكنه ليس خطيرًا؛ لأنه لن يتحوَّلَ إلى طبقة حاكمة. ومن طبيعة الديمقراطية — لم يتحدَّث توكفيل عن الرأسمالية — أن تؤدي إلى الشعور بعدم الاستقرار وحب الصدفة؛ وهذا ما يجعل النُّظُم الديمقراطية تتحوَّل للتجارة، وهي لا تفعل هذا من أجل المكسب المادي فقط، وإنما من أجل المتعة أيضًا؛ فالأزمات الصناعية جزء من المزاج الديمقراطي؛ ومن ثَمَّ فهي متأصلة في الديمقراطية ومن المستحيل التنبؤ بها. إن الحلم الأمريكي القائم على المكافأة على ممارسة الفضيلة يتهدده تعقُّد التجارة، وهو عرضة للمفاجآت المباغِتة.
كشف توكفيل في نقاشه أن هناك شعورين ديمقراطيين دائمين غير عقلانيين على نحو جوهري؛ وهما: الرغبة في الرفاهية المادية، والشغف للمساواة؛ فالأول لا يتوقَّف أبدًا، في حين أن الثاني يفرض متطلبات لا تنتهي، ولا يمكن إشباع أيٍّ منهما. وكلاهما يميل لجعل الأشخاص الديمقراطيين ضعفاء؛ الأول عن طريق إضعاف الأرواح، والثاني عن طريق حرمان كل أشكال السلطة والطاعة من الشرعية. غير أن الأمريكيين، بممارستهم للحرية السياسية وعملهم من أجل الصالح العام إلى جانب مصلحتهم الشخصية، يُثبتون أنهم جادون بشأن نظرتهم التي تعتبر أن هناك كلًّا هُم أجزاء منه، وليس أنهم مجرد كلٍّ في حد ذاتهم. وهم يفندون «الفردية» من خلال أفعالهم دون أن يدركوا قيمتها، أو دون معرفة أنه من الأفضل لهم أن يقرُّوا بقيمتها. وتوكفيل، بتوجيهه الأمريكيين على نحو يتعارض مع رؤى الأخلاقيين الخاصين بهم، سيساعدهم على فهم مصلحتهم الشخصية على نحو أفضل.
أعراف المساواة
تحوَّلَ توكفيل من الحديث عن الأفكار ثم عن المشاعر، إلى الحديث عن الأعراف؛ فكلٌّ منها يؤدِّي إلى الآخَر، مع اعتبار أن الأعراف هي السلوك الذي يقترحه الفكر ويحفزه الشعور. في هذا القسم من كتابه الرائع، تأمَّلَ توكفيل كيف تتعامل الديمقراطية مع جوانب عدم المساواة المستعصية التي يبدو أن الطبيعة (وهي كلمة تكرَّرت كثيرًا في كتابه) تعارِضها، وحاوَلَ الإجابة على الأسئلة التالية: ما العلاقة بين السيد والتابع في ظل الديمقراطية؟ وماذا عن الأفضلية الواضحة للرجل على المرأة؟ وما الرغبة في الشرف التي تسعى لتمييز النفس على الآخرين؟ في كل حالة من تلك الحالات، تبذل الديمقراطية كل ما في وسعها لإنهاء جوانب عدم المساواة، محاوِلة تجميل الوضع وجعله أقل قسوةً واستبدادًا وقبحًا. صحيح أنها لم تنجح في القضاء على عدم المساواة لكنها صبغتها بصبغة تذكِّر الجميع بالحقيقة الجوهرية المتمثلة في المساواة بين البشر، التي هي أساس التوافق مع عدم المساواة. وفي نفس الوقت، تقدِّم الديمقراطية — حتى مع توفيرها سبلَ المساواة — تبريرَها لجوانب عدم المساواة تلك؛ ومن ثَمَّ يبدو أنها تعترف بأن هناك حدًّا معينًا للمساواة لا يمكن تجاوزه، وأن عدم المساواة البشرية هي أيضًا حقيقة جوهرية.
بدأ توكفيل بمقارنته المعتادة، معلنًا أنه حيث أصبحت هناك مساواة أكبر في الأوضاع الاجتماعية، فقد أصبحَتِ الأعراف أكثر اعتدالًا ورفقًا مما كانت عليه في ظل النظم الأرستقراطية. وأوضح رأيه بإحدى أكثر الفقرات تميُّزًا في كتابه، مقتبسًا جزءًا من إحدى الرسائل التي كانت بين السيدة دي سيفينيه — وهي سيدة أرستقراطية كانت تعيش في القرن السابع عشر — وابنتها. كانت تلك السيدة تحكي بسعادة، وسط حديثها عن أحداث اليوم، حادثةً تتعلَّق بتمرُّد دافعي الضرائب الذي تمَّ القضاء عليه من خلال تعذيب المحرِّضين عليه وإعدامهم، في حين تم طرد الباقين، «كل هؤلاء البؤساء»، من بيوتهم. كان تعليق توكفيل كما يلي: «لا تستطيع السيدة دي سيفينيه أن تدرك بوضوح معنى المعاناة التي يلاقيها الشخص إذا لم يكن من النبلاء.» يجب أن يقرأ تلك الفقرة كلُّ مَن يعتقد أن توكفيل كان متعاطفًا جدًّا مع الأرستقراطية؛ فالعطف الديمقراطي يقلِّل من تأثير المصلحة الشخصية الديمقراطية، وهو بالطبع جزء من المصلحة الشخصية المفهومة على نحو جيد. لكن الديمقراطيين أيضًا لا يدركون بوضوحٍ معنى المعاناة، ويتضح هذا من سلوكهم تجاه العبيد والأعداء في الحرب، عندما لا يمرون بنفس تلك المعاناة، وعندما لا يرون أن الآخرين «مشابهون» لهم.
لا توجد دائمًا مساواة بين السيد والتابع في ظل الأرستقراطية، لكن في الديمقراطية، يكون هذا الوضع مؤقتًا؛ لأن السبب فقط هو العقد الاجتماعي وليس الطبقة أو الأصل. والتابع الأرستقراطي من ثَمَّ يتطبَّع بطباع شخصية سيده، وتكون كرامته مستمَدة من كرامة سيده، وممارساته متعجرفة مثل سيده أو حتى أكثر. أما التابع الديمقراطي، فليس لديه هذا الميل للفخر بخضوعه؛ فكرامته تكمن في المساواة بينه وبين سيده خارج حدود العقد الاجتماعي، حيث السيد والعبد «مواطنان وفردان»، لكن هل هما متساويان كمواطنَين أو كفردَين؟
قال توكفيل إن الرأي العام يقرِّب بين الأمرين بالرغم من المسافة الظاهرية الموجودة بينهما؛ فهو «يُوجِد نوعًا من المساواة المتخيَّلة فيما بينهما.» فيبدو أن الديمقراطية ليست متفقة تمامًا مع الطبيعة؛ فالمساواة الطبيعية التي يزعم الديمقراطيون وجودها تحتاج إلى دفعة من الرأي العام الذي يزعم أن البشر متساوون بغض النظر عن وضعهم؛ فالسيد والتابع مواطنان لا يريدان أكثر من أن يكونا فردين؛ حيث إن المساواة الطبيعية ليست كافية بنفسها، لكنها بحاجة إلى عقد المواطنة الذي يهدف إلى المساواة الطبيعية. إن المساواة الديمقراطية ممكنة لأن الرأي العام الديمقراطي يرى هذا. إننا نرى حقيقة سياسية تظهر من خلال الحديث عن علاقة في المجتمع المدني، وهي أن العقد الاجتماعي الخاص بالنظرية الليبرالية التقليدية، الذي يميِّز بين الحاكم والمحكومين، ليس ناتجًا عن موافقة أشخاص متساوين في الحالة الطبيعية، وإنما عن مواطنين يزعم الرأي العام أنهم أفراد متساوون. أما رؤية توكفيل لهذا العقد، فتتمثَّل في أنه لا يُنشئ مجتمعًا، لكنه يبدأ منه، ولا يفترض وجودَ المساواة الطبيعية، ولكنه يحاول أن يحافظ عليها، وإلى حدٍّ ما إقامتها.
يمكن تتبع نفس الرؤية السياسية للعقد الاجتماعي لتوكفيل، ونفس التعديل للنسخة الليبرالية التقليدية منه في حديثه الرائع عن المرأة الأمريكية. تحدَّثت النظرية الليبرالية قبل توكفيل عن «حقوق الإنسان»، قاصدةً حقوقَ البشر بغضِّ النظر عن نوعهم. في عصرنا هذا، تتعرض تلك النظرية للهجوم نظرًا لتجريدها الشديد ولتجاهلها عدمَ المساواة التقليدية — التي من المفترض أنها طبيعية — بين الرجل والمرأة. لم يتحدَّث الليبراليون السابقون على توكفيل كثيرًا عن هذا النوع من عدم المساواة، الذي عادةً ما يعتبرونه على ما يبدو أمرًا مسلَّمًا به. صحَّح توكفيل هذا التجاهل بتقديمه خمسةَ فصول عن المرأة الأمريكية، مثنيًا عليها بشدة نظرًا لفضيلتها وأعمالها الطيبة؛ فبحسب رأيه، لا يوجد مجتمع حر دون أعراف، والنساء هن مَن يصنعن تلك الأعراف. يضع الرجل القوانين، لكن الأعراف أهم من القوانين. وهو يرى أن هناك «فائدة سياسية عظيمة» في كل شيء متعلِّق بالمرأة الأمريكية.
تكمن المشكلة في أن توكفيل أثنى على المرأة الأمريكية لابتعادها عن السياسة وتخلِّيها عن العمل؛ وهو ما يثير سخط معظم النساء الأمريكيات اليومَ. لكن لا يجب أن نتجاهل رؤيته لمجرد أن النتيجة التي خلص إليها مستهجنة، كما أن هناك الكثير لنعرفه عن ليبرالية توكفيل الجديدة من خلال حديثه عن المرأة الأمريكية.
يتمثَّل تأثير الديمقراطية على الأسرة في القضاء على السلطة الأبوية بالمعنى الأرستقراطي، التي تتمثَّل بحق في «نظام أبوي» يتجاوز معناه بمراحل المعنى الحالي لهذا المصطلح. تُساوي الديمقراطية بين الآباء والأبناء، متجاهلةً الاختلافات الطبيعية في السن والنوع، غير أنها تؤدي إلى توثيق الروابط الطبيعية داخل الأسرة حتى مع اختفاء السلطة المطلقة. تتعلم البناتُ الصغار، المتحرراتُ من سيطرة آبائهن الساعين لحمايتهن، كيفيةَ إدارة شئون حياتهن، مع تحكُّمهن في مشاعرهن وتطويرهن لقدرتهن على الحكم؛ حيث سرعان ما يفقِدْنَ بساطتَهن (التي نصيبُهن منها أقل من نصيب الفيلسوف)، ويكتسبْن «معرفة مبكرة بكل الأشياء.» فهن، بحسب قول توكفيل، لديهن «أعراف نقية أكثر من عقل عفيف.» ويكتسبن معرفتهن بالأعراف من خلال مراقبة العالم؛ عالم الرجال؛ مما يجعلهن يحصلن على تربية رجولية تعوِّضهن عن السلطة الأبوية التي يفتقدْنها؛ فالرجولة ليست سمة خاصة بالرجال فقط، بحسب اعتقاد توكفيل.
غير أن المرأة الأمريكية عندما تتزوَّج تدخل إلى الحياة الزوجية ﺑ «قيودها» الأخلاقية والأسرية، التي ركَّزَ توكفيل عليها على نحو خاص؛ فقال إن المرأة في أمريكا كان لها مسارُ حياة مختلف تمامًا عن ذلك الخاص بالرجل، من أجله يجب أن تترك الروحَ الحرة الخفيفة التي كانت تتمتَّع بها وهي فتاة، وتجد السعادة في بيت الزوجية بواجباته وقيوده، لكنها كانت تعاني من قيود الزوجية بشجاعة لأنها اختارت طوعًا قبولَها. ركَّزَ توكفيل على موضوع الاختيار هذا؛ فكلمة «اختيار» هي نفس الكلمة المستخدَمة اليومَ لوصف حياة مختلفة تمامًا للمرأة لا يُسمَح لها فيها بترك المنزل والعمل في حرفةٍ أو مهنةٍ ما فحسب، بل تكون مدعوَّة لذلك ويتم تشجيعها عليه. في رأيه، الاختيار لا يعني محاولةَ الهروب من المسار المرسوم للنساء، وإنما اختيار الزوج الذي ستعيش في كنفه؛ فبالرغم من أن المرأة في معظم الأحوال ليس أمامها إلا طريق الزواج، فهي لديها حق اختيار زوجها، وليس عليها قبول الشخص الذي اختاره لها أبوها. إن توكفيل هنا من خلال وصفه اختيارًا نعتبره أمرًا مسلَّمًا به، يجعلنا ندرك أن الاختيار الحر يجب أن يتم على نحو حكيم، وحيث إن الطلاق كان نادرًا في تلك الأيام، لم تكن المرأة لديها رفاهية الوقوع في الخطأ ثم تصحيحه؛ فقد كان يجب عليها أن تكون حَذِرة ومسئولة. والزواج بالنسبة إلى الرجل لم يكن مسألةَ اختيارِ زوجةٍ مناسِبة بقدرِ ما كان اختيارًا لامرأة ينجذب إليها جسديًّا؛ ربما ما زال هذا الاختلافُ في طرق تعامُل الرجال والنساء مع الزواج ملحوظًا حتى الآن.
من أجل اختيار المرأة زوجَها المستقبلي واستقرارها في زواجها، كانت تُعمِل عقلَها بحُرية كاملة، وكان يعاونها في ذلك تعاليمُ دينها، ونجد أن توكفيل في كل المواضع التي ذكر فيها المرأة في كتابه، يقول إنها كانت تستعين بعقلها ودينها. وعلى الرغم من أنه قد ذكر في الجزء الأول من كتابه أن الدين هو مَا يهيمن على روح المرأة، فإنه الآن يوضِّح أن تلك الهيمنة يشاركه إياها العقلُ؛ فالدين في أمريكا لا يجعل المرأةَ في حالةٍ من الاعتماد الشديد على أبيها وزوجها ورجال الدين؛ ويرجع ذلك جزئيًّا لتأثير البروتستانتية هناك، وجزئيًّا أيضًا للتربية الدنيوية الخاصة بها؛ فهي مستقلة بالرغم من عيشها في ظل «نير» الزواج، وهي تمارس ما يسميه توكفيل «الفضيلة» وما نسميه نحن اليومَ «القِيَمَ الأسرية» باختيارها وباستخدامها لعقلها بدلًا من خضوعها لسلطة دينية.
في أمريكا، تعتقد المرأة أنَّ أي زواج يحتاج إلى قائدٍ، وأن «القائد الأكثر طبيعيةً لرباط الزوجية هو الرجل.» تتباهى «النساء الأكثر فضيلةً» ﺑ «تنازلهن الطوعي عن رغباتهن» (هن «يقُلْنَ» ذلك)؛ ولهذا يُنظَر إليهن باحترام كبير، في حين يُنظَر إلى النساء في أوروبا، بالرغم من أن لهن مكانةً أكبر (حتى إن بعضهن حَكَمْنَ «إمبراطورية استبدادية»)، على أنهن كائنات ضعيفة يسعَيْن لغواية الرجال حتى يحصلن على ما يُرِدْنَ. إن «عدم المساواة الكاملة بين الرجل والمرأة» ما زال حتى اليوم له على ما يبدو «أصوله الدائمة في الطبيعة»، وهو أمر لم يتحدَّاه توكفيل؛ فقد قبِلَه بالشكل الذي اتخذه في أمريكا — أو بالشكل الذي قال إنه وجده في أمريكا — معبِّرًا عن ذلك بالكلمات الرائعة التالية: «إذا سألني أحدٌ عن العامِل الذي أعتقد أنه يُعزَى إليه على نحوٍ أساسي الرخاءُ الفريد والقوة المتزايدة لهذا الشعب، فسأجيب بأنه يتمثَّل في المكانة العالية للنساء فيه.» يا له من ثناء! لكنه لم يَذكر إن كانت النساء الأمريكيات أعلى شأنًا من النساء الأخريات أم من الرجال الأمريكيين؛ ربما هن أعلى شأنًا من الاثنين.
لا شك أن المرأة الأمريكية اليومَ، بسبب تَلهُّفِها على العمل وحرصها على مكانتها في المجتمع، ستكون مستعِدَّة للتخلِّي عن ثناء توكفيل على فضيلتها بالمعنى الذي أصبح مهجورًا تمامًا الآن. لكن علينا عدم إغفال مضمونه الفلسفي. صحيح أن الديمقراطية تدعم سيادةَ الشعب، التي تتطلب كما رأينا سيادة البشر، لكن البشر لا يمكنهم تجنب الضرورة أو الهروب من مصيرهم، وتتطلَّب سيادةُ البشر توافُقَ اختياراتهم مع القوى الخارجية التي ربما يبدو أنها تُخضِعهم وتستعبِدهم. وتوكفيل، في تصويره الرائع وربما المبالغ فيه، والمقدم على هيئة حقيقة لكنه في الواقع أمر مفترض أكثر من كونه حقيقة، أعطى للمرأة الأمريكية مهمة اختيار قبولها الضرورةَ بكرامة؛ فقد عارَضَ العقد الاجتماعي الخاص بالنظرية الليبرالية الذي تجاهَلَ الضرورة الإنسانية الخاصة بعيش الأفراد بعضهم مع بعض، وحاوَلَ أن يجعلها تبدو اختيارًا، كما لو أن الفرد لديه حرية الاختيار في كل شيء. وبدلًا من هذا العقد، قدَّمَ عقد الزواج وأوضح طبيعةَ هذا العقد من خلال التركيز على نموذج المرأة الأمريكية وحديثها.
العظمة الإنسانية واستبداد الديمقراطية
في نهاية عمل توكفيل الرائع عن الديمقراطية، كشف النقاب عن الشر السياسي الذي تميل الديمقراطية على نحو طبيعي باتجاهه، ويمثل قمة مخاوفه فيما يتعلق بالديمقراطية، وقد عبَّرَ عنه أكثر من مرة. يتمثَّل هذا الشر السياسي في تسلُّط المساواة الديمقراطية على الحرية الديمقراطية. هنا، يطلق على هذا الشر «الاستبداد الهادئ»؛ وفي مواضع أخرى، أطلق عليه استبداد الديمقراطية أو استبداد الإدارة؛ إنه شر جذَّاب وليس مزعجًا، ناعم وسلبي، بل ويبدو حتى في الظاهر مفيدًا، وقد أصبح بالنسبة إلى توكفيل مصدرَ خوفه الأساسي وليس استبداد الأغلبية (المذكور في الجزء الأول من الكتاب)، الذي كان يتسم بالخشونة والتعسُّف كما تمثَّلَ في استعباد السود في أمريكا. وقد رأينا بذرة هذا الاستبداد الهادئ في الجزء الأول من كتابه في وصفه السلطةَ الغامضة للرأي العام، لكننا رأيناه في الجزء الثاني متجسِّدًا في الدولة الديمقراطية المركزية.
الاستبداد الهادئ هذا ليس حتميًّا ويمكن معارضته في أي نظام ديمقراطي، وهناك قوة مضادة له في الطبيعة الإنسانية، وقد بدأ توكفيل في القسم الأخير من الكتاب نقاشًا مفاده أن المساواة تعطي الإنسان «على نحو طبيعي» رغبةً في وجود مؤسسات حرة، وليس في الاستبداد؛ فهي بحسب قوله تجعله مستقلًّا عن الآخرين؛ ومن ثَمَّ متشكِّكًا من السلطة وميَّالًا لاتِّباع إرادته وليس إرادة أحد غيره. وهي تؤدي إلى نوع من العناد، وهو رغبة واعية في التحرُّر تذكِّرنا بالجزء النَّشِط من الروح عند أفلاطون (روح الحياة)، وهذا مفيد للإصرار الديمقراطي على الحرية. ربما يبدو هذا العناد متناقِضًا مع ولع الأمريكيين بتكوين الجمعيات، وربما يكون كذلك بالفعل، لكنَّ رفضهم السلبي للتعاون مع الآخرين يمكن جعله مسئولًا عندما يجد الناسُ منفعةً ومكانةً في تنفيذ مهمةٍ ما. ربما يقول أحدٌ اليومَ إن الأمريكيين بوجه عام معادون للسلطة؛ ومن ثَمَّ من الصعب حكمهم، غير أن لهم أيضًا روحًا مقابلة تجعلهم يستسلمون للسلطة في مواقف معينة.
بالرغم من العناد الموجود في الطبيعة الإنسانية الذي يجعل أي نظام حكم يبدو صعبًا، فإن الديمقراطية تتحرك على نحو طبيعي في الاتجاه المقابل الذي يجعل نظام الحكم أكثر سهولةً وقبولًا. ويمثِّل قلقُ توكفيل النابع من فقدان الناس الرغبةَ في وجود مؤسسات حرة، موضوعَ القسم الأخير من كتابه «الديمقراطية في أمريكا»؛ فالإنسان الديمقراطي، كما عرفنا، يصبح بسهولة ضحية للفردية، وهو ذلك الشعور بالضعف الباعث على التراخي الذي يحوِّل المواطنين إلى أفراد منعزلين مهتمين فقط بحياتهم الخاصة، وعندما يفعلون هذا، تكون الدولة هي الممثل المرئي والدائم الوحيد للمجتمع، ويتركون جمعياتهم لأنهم قد أصبح لديهم ميلٌ طبيعي لجعل الدولة تهتم بكل الشئون العامة. وعندما ينظر الأفراد للمساواة فيما بينهم، يكون لديهم ميل غريزي تجاه الإحساس بالفخر والاستقلالية، لكنهم يشعرون في داخلهم بنوع من الضعف والعزلة الناتجَيْن عن هذه الاستقلالية؛ ومن ثَمَّ يهجرون النشاطَ المحلي في السياسة والمجتمع، ويطيعون على نحوٍ لا مبالٍ «الكيانَ العظيم» المتمثِّل في الدولة (كان توكفيل قد استخدم هذا المصطلح قبل ذلك لوصف رب مذهب الواحدية).
وبينما تميل كل الشعوب الديمقراطية نحو الاعتماد على الدولة، فإن الدولة من جانبها تحب المساواة وتحاول التوسُّع فيها قدرَ إمكانها. تعود جذور الدولة الحديثة إلى النُّظُم الملكية في أوروبا التي اتبعت سياسةَ التحالف مع الشعب ضد الطبقة الأرستقراطية؛ حيث تخلَّصت تدريجيًّا من أفرادها الموجودين في حكومات البارونات والنبلاء، وتحوَّلت للإدارة المركزية للدولة. وعندما حلَّتِ الديمقراطية محل الملكية أثناء الثورة الفرنسية، ظلت الدولة كما هي واستمرت في الاستحواذ على كل السلطات لنفسها، وحل عداؤها الجديد لتكوين الجمعيات محل الغيرة الملكية من الطبقة الأرستقراطية؛ ومن ثم فإن الدولة المركزية تحب المساواة التي يحبها المواطنون الديمقراطيون وتكره تلك التي يكرهونها؛ فالطرفان يقوي كلٌّ منهما الآخر على نحو متبادل. الدولة تقوي باستمرار من سلطتها، في حين يفقد الشعب سلطاته باستمرار.
من ثَمَّ فإن الاستبداد الذي يجب أن تخشاه الأمم الديمقراطية هادئ في طبيعته؛ فعلى الرغم من أنه لا يحبط رغباتهم، فهو يرضي أسوأ ما فيهم. وأسوأ رغبة في الديمقراطية هي التخلِّي عن الإحساس بالفخر الذي يدعم استقلالية الفرد وضياع الحرية؛ مما يحطُّ من شأن الشعب دون أن يعرِّضهم للتعذيب، ودون أن يثير معارضتهم أو حتى يُشعِرهم بما فقدوه. وهكذا يصبح الشعب «حشدًا من الأفراد المتشابهين والمتساوين … الذين يحصلون على المتع الصغيرة والعادية التي يملئون بها أرواحهم.» فكلٌّ منهم «منعزل ومنزوٍ» ويقتصر وجوده «على نفسه ويعيش فقط لنفسه.» وتسيطر على الأفراد «سلطة وصائية كبيرة» ترعاهم بأسلوب ناظر المدرسة أو الوصي، وتوفر عليهم — بحسب تعبير توكفيل بسخرية شديدة — «عناءَ التفكير وألمَ العيش». وقد سبق توكفيل نيتشه في وصفهم بأنهم «قطيع من الحيوانات المستأنسة والكادحة التي تقوم الحكومة على رعايتها.»
في هذا الوضع، يشعر الشعب الديمقراطي بالحاجة إلى الحرية والحاجة إلى أن تتم قيادته، ويُعزِّي نفسه لقيادة الآخرين له بفكرة أنه قد اختار قادته. وعند مشاركته في الانتخابات، يترك تبعيته لبعض الوقت، فقط ليعود إليها بعد ذلك. قال توكفيل على نحوٍ فخور متحدِّثًا عن نفسه: «هذا ليس كافيًا بالنسبة إليَّ.»
هناك حقائق عرضية معينة، بحسب اعتراف توكفيل، يمكن أن تزيد أو تقلل من الاتجاه نحو مركزية الإدارة؛ على سبيل المثال، عدم حدوث ثورة ديمقراطية في أمريكا. ولأن أمريكا لم تكن مرغمة على القيام بثورة ديمقراطية ضد نظام أرستقراطي — نظرًا لأن الأمريكيين وُلِدوا متساوين، ولم يتعين عليهم أن يسعوا كي يصبحوا كذلك — فقد كانت لديها حرية أكبر في استعارة بعض الأمور من النظام الأرستقراطي حتى تدعم حريتها. وقرب نهاية كتابه، ذكر توكفيل أن هناك ثلاثَ سمات للمساواة تحتاج الشعوبُ الديمقراطية أن تحترس منها؛ تتمثَّل الأولى في فائدة النُّظُم التي نُوقِشت بالفعل، والتي لا تعيها بسهولة الشعوبُ الديمقراطية وتشعر بازدراءٍ تجاهَها. هناك غريزة ديمقراطية ثانية، وهي أيضًا طبيعية جدًّا، ويعتقد بوجه عام أنها خطيرة جدًّا، وتتمثَّل في احتقار الحقوق الفردية والتضحية بها من أجل مصالح وقوة المجتمع. قال توكفيل متحدثًا بلسان الليبرالي إن «الأصدقاء الحقيقيين للحرية والعظمة الإنسانية» يجب أن يكونوا منتبهين دائمًا حتى يضمنوا عدم التضحية السهلة بالحقوق الفردية من أجل الأهداف العامة للمجتمع؛ فحدوث هذا يضر بالفعل بالمجتمع لأنه يتعارض مع دور المجتمع باعتباره داعمًا للحقوق.
أضاف توكفيل للأمرين السابقين قلَقَه من حدوث ثورات في المجتمعات الديمقراطية، وهو قلق ربما يكون أكثر حدَّةً فيما يتعلَّق بأوروبا مقارَنةً بأمريكا؛ فحيث إن الديمقراطيين يحبون التغيير، يمكن أن تصبح الثورة عادةً بل قد يتم أيضًا تقنينها في سياسة الحكم. لم ينكر توكفيل أن الثورة أحيانًا تكون أمينة ومشروعة، لكنه اعتقد أنها علاج خطير على نحو خاص في العهود الديمقراطية. تحدَّثَ قبل ذلك عن سبب ندرة الثورات العظيمة مثل الثورة ضد الديمقراطية، قائلًا إنه كان يخاف جمود الطبقة الوسطى أكثر من تمردها العنيف الذي يحدث غالبًا في النظم الديمقراطية. لكن الجمود في الديمقراطية يتوافق مع الاضطراب العام المتدني الناتج عن الطموح العادي والتنافس على المتع المادية.
ما علاج الفردية الديمقراطية والأداء العادي للديمقراطية واللامبالاة الديمقراطية؟ تبرز الإجابة في العبارة المقتبسة أعلاه التي تصف المخاطبين بكلام توكفيل بأنهم: «الأصدقاء الحقيقيون للحرية والعظمة الإنسانية.» يكمن الحل في تضافُر الحرية والعظمة الإنسانية. في البداية، سيفكر البعض في مزج حرية الديمقراطية مع عظمة الأرستقراطية في نظام مختلط من النوع التقليدي، لكن كما هو الحال دائمًا في كتاب «الديمقراطية في أمريكا» وخاصةً في نهايته، أصَرَّ توكفيل على أن الديمقراطية وُجِدت لتبقى، وأنه لا يوجد احتمال «لإعادة إنشاء مجتمع أرستقراطي»، وأن علينا أن نكون داعمين للمساواة ونتبنَّى نظامًا ديمقراطيًّا غير مختلط معتبرين إياه «مبدأنا وعقيدتنا الأساسيين»؛ لذا فإنه لا يخاطب هنا الرجالَ العظماء، «عظمة القلة»، باعتبارهم مصدر إلهام الديمقراطية. فهو لم يذكر مؤسِّسي أمريكا الذين أثنى عليهم من قبلُ، أعضاء الحزب الفيدرالي الذي قال عنه إنه حزب أرستقراطي، بدلًا من ذلك، قال إنه على الرغم من أنه لا يمكن إعادة إنتاج نظام أرستقراطي، فإنه يعتقد «أنه عندما يترابط المواطنون العاديون معًا، يمكنهم أن يصبحوا أفرادًا غاية في الثراء والنفوذ والقوة؛ بعبارة أخرى، يصبحون أشخاصًا أرستقراطيين.»
يؤدِّي الارتباط الحر فيما بين المواطنين العاديين إلى نشوء أرستقراطية الديمقراطية، وهؤلاء المواطنون هم نبلاؤها؛ فهم يمارسون حريتهم، وبقيامهم بهذا يدافعون عنها ويحمونها وينشرونها، وهذا الارتباط يجعلهم يقدِّمون تضحياتٍ ويُقدِمون على مخاطر في طموح عام لا يظهر لدى مَن يكوِّنون مؤسساتٍ هدفُها تجاري بحت. وعلى الرغم من أن المواطنين العاديين لديهم ما يكسبونه من السياسة، فإن المقابل الذي سيحصلون عليه سيكون إحساسهم بالفخر أكثر منه مكاسب مادية. صحيح أن الأمريكيين برجوازيون، وقَلِقون ولديهم نهم لتحقيق المكاسب بحسب وصف توكفيل لهم، لكنهم عندما يتجمعون معًا في جمعيات حرة، يكون لديهم قدرٌ من النبل في أرواحهم. هذا هو رد الديمقراطية — الرائع وإن لم يكن الملائم على نحو كامل — على الاتهامات الموجَّهة إليها بأنها تؤدِّي إلى اللامبالاة والأداء العادي.
إذن فالخطر الذي يجب أن يكون الأصدقاءُ الحقيقيون للحرية والعظمة الإنسانية على استعدادٍ لمنعه هو أن تضحي «السلطة الاجتماعية» بسهولة بحقوق الأفراد من أجل تحقيق هدفٍ اجتماعيٍّ ما. قال توكفيل: «ليس هناك مبرر لظلم أي مواطن مهما بلغت درجةُ تهميشه.» غير أن الضمانين الأساسيين بالنسبة إلى المواطن المهمش، اللذين ذكَرَهما توكفيل هنا هما: حرية الصحافة، والسلطة القضائية. قال هنا عن الصحافة الحرة، متجاوِزًا الثناءَ المتوازن الذي أبداه قبل ذلك في كتابه، إنها «مهمة أكثر بكثير في الأمم الديمقراطية منها في الأمم الأخرى.» فهي تتيح للمواطنين التواصل بعضهم مع بعض؛ ومن ثَمَّ الخروج من دائرة التهميش. أما السلطة القضائية، فمهمتها الاستماعُ للمواطنين المهمشين عندما يشعرون بالظلم؛ هنا نرى جانبًا أرستقراطيًّا غيرَ محدَّد وغير معروف، يمارس تأثيره في ظل الديمقراطية لدعم حقوق الأفراد، ربما في مواجهة الجزأين الأكثر ديمقراطيةً من الحكومة، وهما: السلطتان التشريعية والتنفيذية، اللتان تمثِّلان «السلطة الاجتماعية».
تتمثَّل «المهمة الأساسية للمُشرِّع» في العصر الديمقراطي في وضع حدودٍ للسلطة الاجتماعية تكون «واسعة النطاق، وفي ذات الوقت واضحة وثابتة.» سيبدو «المشرع» شخصًا فوق السلطة التشريعية، ربما يكون عالم سياسة مثل توكفيل نفسه. بالنسبة إلى هذا الشخص، وضْعُ حدود للسلطة الاجتماعية يتضمَّن وضْعَ دستور ويتضمَّن أيضًا، على ما يبدو، الدفاعَ عن الديمقراطية ضد الأفكار التي تروِّج للسلطة الاجتماعية في مقابل التخلِّي عن حقوق الفرد. وعلى الرغم من كل إصرار توكفيل السابق على كون الحالة الاجتماعية هي السبب الأول للديمقراطية، فقد أشارَ في هذا المقام إلى «فكرتين متناقضتين، ومتساويتين في الخطورة في ذات الوقت»، ربما تنبعان من الحالة الاجتماعية الديمقراطية، ولكن قد تمثِّلان تهديدًا لها. تتمثَّل الأولى في أن أهم ما في الديمقراطية هو ميولها اللاسلطوية؛ فمَن يتبنَّونها يخافون من إرادتهم الحرة، «يخافون من أنفسهم». في حين تتمثَّل الأخرى في أن الديمقراطية تؤدِّي بالضرورة إلى العبودية والخضوع؛ ممَّا يجعل المدافِعين عنها ييأسون من البقاء أحرارًا، ويُعجبون على نحو غير معلَن بالاستبداد الذي يعتقدون أنه حتمي.
في ضوء هذا الوصف المباشر للفكرتين، لم يذكر توكفيل أسماء، ولم يقدِّم المادةَ التي يمكن للقراء من خلالها تخمين تلك الأسماء. كالمعتاد، اهتم توكفيل بتبعات هاتين الفكرتين أكثر من مضمونهما. ومع ذلك، ختم كتابه العظيم بشجب هذين «الاعتقادين الخاطئين والجبانين» اللذين يعصفان بالديمقراطية التي وجدها في أمريكا. وقد أعلن، مستخدِمًا أسلوبًا يماثِل أكثر أسلوبَ أرسطو منه أسلوب الليبراليين السابقين عليه، أن الرب لم يخلق الجنس البشري «حرًّا على نحو كاملٍ، ولا عبدًا على نحو تامٍّ.»