فخر توكفيل
في ضوء انتقادات توكفيل للفلسفة، ربما يبدو وصفه بالفيلسوف أمرًا ينطوي على نوع من التناقض والتجاوز، لكنه وصَف نفسه بأنه «ليبرالي من نوع جديد»، وأوضح معالم الليبرالية الجديدة التي توصَّلَ إليها؛ ففي كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، انتقد الفلسفةَ المادية لتشجيعها على عادة الديمقراطية المتمثلة في عدم السعي وراء أي شيء سوى المتعة المادية، كما انتقدها لحرمانها الديمقراطية من الإحساس بالفخر الذي يثيره الدين. في كتاب «النظام القديم والثورة»، انتقد الفلسفة العقلانية لسعيها وراء نُظُم الإصلاح دون الاهتمام بالحرية. ليس من الصعب النظر لهاتين الفلسفتين باعتبارهما جانبين من الفلسفة السياسية الحديثة التي تُعَدُّ أصل الليبرالية: المادية من أجل الإصلاح وليس الاستسلام لما هو حتمي، والعقلانية من أجل التطور المادي للحياة بدلًا من التأمل. استعرض توكفيل في كتابه «ذكريات» الإحساسَ بالفخر الذي أراد أن يضيفه للِّيبرالية، إحساسه هو بالفخر الحزين بعض الشيء، أثناء تناوله للثورة التي اندلعت عام ١٨٤٨ في فرنسا، والتي شهدها وشارك فيها. إنه تناوُلٌ لفشل الثورة، وليس انتصارًا للفخر. لكنه أيضًا عرضٌ تعليمي للفلاسفة الذين يظنون أنفسهم سياسيين، وللمواطنين الذين سمحوا لهؤلاء الفلاسفة أن يكونوا مصدر إلهام بالنسبة إليهم.
هل كتب توكفيل كتابه «ذكريات» لنفسه فقط؟
اختلف عمل توكفيل «ذكريات» عن عملَيْه الكبيرين السابقين اختلافًا بيِّنًا، وقد تمَّ تأليفه فيما بين هذين العملين في عامَيْ ١٨٥٠ و١٨٥١. في البداية، قال إنه «أُبعِد مؤقتًا عن مسرح الشئون السياسية»، وإنه لم يَعُدْ قادرًا على الاستمرار في أي دراسة بسبب متاعب صحية. في أكتوبر من عام ١٨٤٩، أُجبِر على الاستقالة من منصبه باعتباره وزيرًا للشئون الخارجية، وهو أعلى وآخِر منصب تقلَّدَه في مجال السياسة؛ استمر فيه لمدة خمسة أشهر فقط، ثم في مارس من عام ١٨٥٠، تقيَّأَ دمًا للمرة الأولى، وكانت هذه علامة على المرض الذي أودى بحياته بعد ذلك بتسعة أعوام. لقد أصبح وحيدًا في تلك الفترة «وسط حالة من العزلة»، وذلك بحسب تعبيره الدرامي مستخدمًا أسلوب روسو، وقد قرَّرَ استعراضَ أحداث ثورة عام ١٨٤٨ وتصوير الأشخاص الذين رآهم يشاركون فيها. لم يكن من المفترض أن يكون هذا العمل «عملًا أدبيًّا» مثل عملَيْه الآخرين اللذين كانَا مكتوبين للجمهور؛ فقد كان عملًا بحسب قوله مخصَّصًا لنفسه فقط. لم يعرض توكفيل في واقع الأمر عمله هذا إلا على بعض الأصدقاء، ولم يُنشَر في حياته، لكنه نُشِر فقط في عام ١٨٩٣ من خلال الإذن بذلك الذي نصَّ عليه في وصيته.
قال توكفيل إن هذا العمل سيكون بمنزلة «مرآة» يرى من خلالها معاصِرِيه ونفسه، ليس باعتباره «لوحة» مقدمة للناس يمكنهم الاطِّلاع عليها؛ فقد كان هدفه الوحيد هو الحصول على «متعة فردية» لنفسه، و«التأمُّل المنفرد» للوحة حقيقية للمجتمع، ورؤية «الإنسان من خلال حقيقة فضائله ورذائله من أجل فهم طبيعته والحكم عليها.» وحتى تكون كلماته صادقة، يجب أن يجعلها «خفية بالكامل». هذا تمييز واضح بين نظره في المرآة، وهو الأمر الذي سيفعله، وبين تصوير الآخرين، وهو الأمر الذي لن يفعله. وعلى الرغم من ذلك، قال بالفعل إنه سوف يصوِّر الرجال الذين رآهم، وفي الفقرة التالية تحدَّثَ ثانيةً عن الأحداث التي أراد تسليط الضوء عليها. علاوة على ذلك، في باقي الكتاب، أخذ «يصور الرجال والأحداث مستخدِمًا أسلوبه الشديد البراعة، ولم يكن يكتب على الإطلاق لمتعته الشخصية فقط.» وعلى الرغم من أنه في أحد الخطابات وصف عمله بأنه نوع من «أحلام اليقظة»، فقد تحدَّثَ بالفعل مع آخَرين شاركوا في الثورة، وراجَعَ الوثائق حتى يتأكَّدَ من صحة عمله. السؤال: لماذا تلك المراوغة في الحديث عن الجمهور المستهدف من عمله؟
يُعَدُّ عمل توكفيل «ذكريات» في واقع الأمر لوحةً، لكن للجيل التالي؛ فسِمته المميزة تتمثَّل في تصويره الرائع للعديد من الشخصيات، بخلاف عملَيْه الآخرَيْن، اللذين درسَا الأسبابَ وذكرَا الشخصيات فقط لتوضيح التعميمات. هنا، وبدءًا من التحليل اللاذع للملك لويس-فيليب، يستعرض القارئ لوحاتٍ بارزةً وساخرة، واحدةً بعد الأخرى للشخصيات ليس باعتبارهم متحكمين في سير الأحداث، وإنما باعتبارهم ضحية لأخطائهم، وفي بعض الأحيان لفضائلهم؛ ولم يسلم من العرض أسرته (أخت زوجته)، ولا صديقه (جيه جيه أمبير)، وقرب نهاية الكتاب انتقد بشدةٍ الرئيسَ لويس نابليون (الذي سرعان ما أصبح الإمبراطور)، معتبرًا إياه متآمِرًا قديمًا ومحبًّا شديدًا للمتع السهلة. إنَّ نشر تلك الأشياء أثناء حياته يُعَدُّ نوعًا من الطيش الذي ربما كلَّفَه حريته، لكنه بتسجيله لها للأجيال التالية استطاع أن يوضِّح كيف تكون طبيعة السياسة العملية. في عملَيْه «الديمقراطية في أمريكا» و«النظام القديم والثورة»، أثنى على ممارسة الحرية السياسية؛ إنه يوضِّحها هنا وهي محل التطبيق، أو بالأحرى يشير إلى عدم تحقُّقها في فرنسا.
الأكثر من ذلك أن توكفيل أظهر نفسه وهو يعمل، أو بالأحرى وهو يفشل؛ فهو نفسه كان مفكِّرًا في مجال السياسة، تمامًا مثل المفكرين الذين هاجَمَهم في كتابه «النظام القديم والثورة». إنه يوضِّح الآنَ إلى أي مدًى يمكن أن يذهب المفكِّر في محاولته توجيه السياسة، ومقدار اعتماده على الصدفة، ومدى اعتماده الكبير على التعاون مع الأشخاص العاديين الذين يجب أن يعمل معهم. هذا هو جانب «المرآة» في العمل الذي يعمل في تناغم، لكن أيضًا في تعارض، مع جانب تصويره للشخصيات والأحداث؛ فهو عندما ينظر لنفسه، يرى رسَّامًا منخرطًا في السياسة ويعلوها باعتباره معلمًا. في نهاية كتاب «الديمقراطية في أمريكا»، قال إنه سعى للنفاذ إلى وجهة نظر الرب حتى يوازِنَ بين النظامين الديمقراطي والأرستقراطي. لكنه قال أيضًا إن الرب، بخلاف البشر، يرى الأحداثَ الفردية والتعميمات أيضًا. إن توكفيل ينظر هنا إلى الإنسانية من منظور الفردية؛ حيث إن الأحداث فردية لأن الأفراد مختلفون؛ فالفيلسوف السياسي، شأنه شأن المفكرين في فرنسا في القرن الثامن عشر، يميل للاعتقاد بأن الحقائق العامة يمكن تطبيقها على نحو منهجي لإحداث تطور دائم في شئون البشر؛ لذا فإن حقيقة عامة يمكن أن تُوجِب الطاعةَ من ظروف معينة، وتجبر هذه الظروف على تنفيذ ما تريد.
أشار توكفيل في كتابه «ذكريات» إلى أن تلك الطاعة لن تحدث، وقد ضرب مثالًا على هذا من واقع ثورة عام ١٨٤٨ في فرنسا؛ حيث أراد باعتباره مفكرًا أو فيلسوفًا أن يسيطر على الأحداث، لكنه لم يكن قادرًا على ذلك. بالطبع، عارض توكفيل المُنظِّرين، وفي مقدمتهم الاشتراكيون، الذين كانوا يريدون تلك الثورة، ولم يزعم أنه كان يمثِّل «الفلسفة» أو أي شيء آخَر في واقع الأمر غير نفسه، لكنه بمعارضته للثورة، اضطلع بدور المعارض للفيلسوف، الذي يكشف عن ضلال الفلاسفة المتغطرسين. أسقطت ثورة عام ١٨٤٨ النظامَ الملكي للويس-فيليب، وهي نتيجة عارَضَها توكفيل عبثًا، ثم تمَّ إنشاء جمهورية أضعفها التحزُّب، وقد انضمَّ لحكومتها بدافع المسئولية ولكن دون حماس. بعد ذلك، تمَّ إسقاط تلك الجمهورية على يد لويس نابليون في عام ١٨٥١، الذي أعاد تأسيس إمبراطورية نابليون، التي أصبحت حينها استبدادًا ديمقراطيًّا هادئًا يجمع بين مركزية الإدارة والغطرسة البرجوازية. لم يحقِّق ثوارُ ثورة عام ١٨٤٨ ما كانوا يريدونه، وهكذا الحال بالنسبة إلى توكفيل؛ فقد رأى أسوأ المخاوف التي توقَّعَها وقد تحقَّقَتْ أمام عينَيْه، وكان قريبًا على نحو كافٍ من الأحداث الحاسمة، بحيث لم يستطع تقديمَ النموذج الخاص به المتعلِّق بعجز المفكرين. وبعدم نشر توكفيل ذكرياتِه هذه عن تلك الأحداث إلا بعد فترة طويلة، سمح لنا بالنظر داخل عقله وبإصدار حكم مثله؛ حيث تتكشَّف أمامنا تلك الأحداث من خلال تعليقات بديهية هدفها إرضاء جمهور من المعاصرين.
أعطى توكفيل مثالًا جوهريًّا على فشل نصحه، وعلى الرغم من أنه كان بالكاد مناصِرًا للنظام الملكي، فإنه كان يعتقد أنه من الأفضل لفرنسا أن تُبقي على نظام ملكي دستوري بمجلس تشريعي منتخب، من أن تخاطر بإنشاء جمهورية برئيس منتخب؛ الأمر الذي سيمهِّد الطريقَ لوجود خليفة لنابليون، وهو الشيء الذي حدث بالفعل، وقد تم إسقاط النظام الملكي من خلال هجوم عنيف على المجلس التشريعي (مجلس النواب) من قِبَل حشد مسلَّح من الغوغاء في ٢٤ فبراير من عام ١٨٤٨. أعطى هذا الحدث شرعيةً لحقِّ أي حشد في باريس في القيام بأعمال عنف باسم الشعب الفرنسي، واستخدام العنف الثوري ضد الدستور، وهذا ما دفع لاحقًا الطبقةَ الوسطى والفلاحين — كردِّ فعلٍ لهذا — لدعم لويس نابليون من أجل حماية أملاكهم من هذا التهديد.
كان توكفيل، الذي كان عضوًا في مجلس النواب، هناك في ذلك اليوم، وحكى القصةَ في كتابه «ذكريات»؛ قائلًا إنه مع احتشاد جَمع من الناس، بحث حوله عن شخص يمكن أن يحاول تهدئة هذا الجمع، ووقع اختياره على ألفونس دي لامارتين، الشاعر والمؤرخ، الذي كان في تلك اللحظة أشهرَ سياسي في المجلس. ذهب توكفيل إليه وهمس في أذنه، وقال له إنهم سيهلكون إذا لم يخطب في الناس، لكن لامارتين رفض؛ فلم يكن ليفعل شيئًا يمكن أن ينقذ النظامَ الملكي أو يضر بشعبيته، لكنه تحدَّثَ لاحقًا لكن بعد فوات الأوان، وكانت فرصةُ إنهاء الأزمة قد ضاعت؛ فقد وصلت مجموعة صغيرة من أفراد الحرس الوطني، وذلك بحسب قول توكفيل، متأخرة أيضًا نصف ساعة. كان توكفيل في المكان الذي كان يجب أن يكون فيه، لكن لم يُؤخَذ بنصيحته، والنتيجة التي ترتَّبَتْ على ما حدث «غيَّرت مصير فرنسا». ربما تكون هذه القصة مختلقةً على نحوٍ ما، لكن لغرض معين؛ فهي تكشف القيودَ على النصائح الخاصة بعلماء السياسة، ومحاولات الإصلاح الممكنة وفضائل الحرية السياسية. في كتابَيْ توكفيل الآخَرين المنشورَيْن، أثنى على إنجازات السياسة في أمريكا واستنكر عدم حدوثها في فرنسا، لكن العمل الذي لم يُنشَر في حياته انتهى بعبارة ساخرة تقول إنه بعد تحقيق نجاحين صعبين في مجال الشئون الخارجية، سقطَتِ الوزارةُ التي كان وزيرًا بها. في هذا العمل، كشف توكفيل عن القيود المفروضة على السياسة وأهمية الحرية السياسة، لكن بعد فترة طويلة.
الاشتراكية
أعرف دائمًا أن الأشخاص العاديين، وكذلك الأشخاص ذوو المكانة، لهم أنف وفم وعينان، لكنني لم أستطع قطُّ أن أثبت في ذاكرتي الشكلَ المحدَّد لتلك الملامح لكل واحد منهم؛ فأنا أسأل باستمرار عن أسماء هؤلاء الأشخاص غير المعروفين لي، الذين أراهم كلَّ يومٍ وأنساهم باستمرار … أنا أحترمهم لأنهم يقودون العالم، لكنهم يُشعِرونني بملل شديد.
هذا ليس موقفَ سياسيٍّ راغبٍ في إرضاء الآخرين أو قادر على ذلك؛ فوراء هذا الازدراء غير المقصود يكمن حكمُ توكفيل المتمثِّل في أن «الاشتراكية ستظل الطابعَ الأساسي وأكثر الذكريات المخيفة» لثورة عام ١٨٤٨؛ فلفترة طويلة، كان الناس يكتسبون قوةً، وكان من المحتم، إن عاجلًا أو آجلًا، أنهم سيدخلون في مواجهة مع امتياز الملكية باعتباره العائقَ الأساسي أمام المساواة. سيبدو أن الاشتراكية تمثِّل المرحلةَ التالية للثورة الديمقراطية التي جعلها توكفيل الموضوعَ الأساسي في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»؛ فتقييمه لثورة عام ١٨٤٨ على أنها اشتراكية، يتعارض على نحو ملحوظ مع حكم كارل ماركس في كُتَيِّبه «الانقلاب الثامن عشر من برومير للويس نابليون» (١٨٥٢)؛ حيث أدان ماركس الثورة باعتبارها مهزلة برجوازية رخيصة. كان ماركس مُجبَرًا على تضمين خيبة أمله في نظريته عن التاريخ، وهو الأمر الذي فعله بملاحظة أن التاريخ عندما يكرِّر نفسه (كما قال مرجعيته هيجل)، يكون الأمرُ بمنزلة مهزلة بعد مأساة. لقد كانت المأساة هي الثورة الفرنسية التي قامت في عام ١٧٨٩، ولم يقصد ماركس بالمأساة عهدَ الإرهاب في عام ١٧٩٣، وإنما أحداث ثيرميدور التي كانت ردَّ فعلٍ لها. أتبع توكفيل تقييمَه بتأمُّل معاكس عن الازدراء العام للاشتراكية في عام ١٨٤٨، قائلًا إنها قد تعود ثانيةً لأن المستقبل منفتِح أكثر مما يتخيَّل الناسُ الذين يعيشون في كل مجتمع. لقد كان بالطبع يعتبر الملكية، خاصةً الملكية البرجوازية العادية، ضروريةً للحرية السياسية، في حين كان ماركس ضدها، فقط لأنها كانت تدعم وَهْمَ الحرية السياسية.
إن الاشتراكية بالنسبة إلى توكفيل مزيجٌ من شغفٍ لدى الناس وأوهامٍ لدى مفكرين، لديهم «معتقدات بارعة وخاطئة»، وسيهاجم توكفيل جيلًا لاحقًا منهم في كتابه «النظام القديم والثورة». تتمثل الروح الأدبية في السياسة في تحديد ما هو بارع وجديد أكثر ممَّا هو حقيقي، وتفضيل الشيء الجذاب على الشيء المفيد، وإبداء التأثُّر بالأشخاص الذين يتصرَّفون ويتحدَّثون على نحو جيد، بغضِّ النظر عن عواقب تصرُّفاتهم، واتخاذ القرار على أساس الانطباعات وليس الأسباب؛ كل الأمور التي وجدها في صديقه عالِم الأدب أمبير، وربما كان سيَرَاها في شخصية ماركس الأكثر فظاظةً.
إن أوهام المعتقدات، السخيفة في حد ذاتها، ضارة في الواقع العملي، غير أن توكفيل كان لديه إعجاب كبير بهؤلاء الذين قد يثورون أكثر من مُنظِّري الثورة غير المكترثين؛ فبجانب الشخصيات العديدة التي «رسمها» في كتابه «ذكريات»، قدَّمَ لوحةً من بيته رسَمَ فيها حارِسَ بيته (لم يذكر اسمه) وخادمه أوجين. كان حارس بيته جنديًّا سابقًا ذا سمعة سيئة في المنطقة، وكان شخصًا مخبولًا صغير الحجم، لا فائدة منه، وكان الوقت الذي لا يضرب فيه زوجته يقضيه في الحانة؛ باختصارٍ، كان اشتراكي المولد أو الطبع. وفي أثناء ثورة يونيو ١٨٤٨، أخذ هذا الرجل ذات يوم يتجول في المنطقة وبيده سكين مهدِّدًا أن يَقتل بها توكفيل عندما يراه، لكن عندما عاد توكفيل في المساء، لم يفعل الحارس أيَّ شيء، وأوضح أنه لم يكن ينوي أيَّ شيء مطلقًا. أشار توكفيل إلى أن الناس في أوقات الثورات يفتخرون بجرائمهم المتخيَّلة تمامًا كما يفتخرون في الأوقات العادية بأفعالهم الخيِّرة المتخيلة. على الجانب الآخر، كان أوجين جنديًّا في الحرس الوطني، وقد استمر بهدوء شديد في أداء مهام عمله باعتباره خادمًا أثناء الخدمة في الجيش الذي قام بقمع الثورة؛ لم يكن أوجين فيلسوفًا، لكن كانت لديه رصانةُ الفلاسفة؛ ولم يكن كذلك اشتراكيًّا، لكن لو كانت الاشتراكية انتصرت، لكان سيصبح واحدًا من أتباعها بسبب اتِّزانه وسهولة تكيُّفه. إن تحقيق الاشتراكية يحتاج إلى جرأة ستختفي في كنف هذه الاشتراكية.
إن قيام ثورة عام ١٨٤٨ لم يكن مقصودًا من قِبَل المُنظِّرين الذين دعَتْ نظرياتهم لإصلاحٍ لم يكن من الممكن تحقيقه إلا من خلال الثورة، ولم يتوقعها حتى أحد سوى توكفيل في بيانٍ في أكتوبر من عام ١٨٤٧، وفي خطابٍ تحذيري في مجلس النوَّاب في ٢٧ يناير من عام ١٨٤٨، قبل شهر من وقوع الثورة. تعجَّبَ توكفيل قائلًا: «أَلَا تشعرون — لنَقُلْ — بنسيم الثورة في الهواء؟» ميَّزَ توكفيل — متناوِلًا في هذا الكتاب أحدَ الموضوعات التي استعرضها في كتابَيْه الآخَرين — بين الأسباب العامة والحوادث العارضة الخاصة، ووجد ستة من كلٍّ منهما فيما يتعلَّق بتلك الثورة. ركَّزَ المفكِّرون على الأسباب العامة، خاصةً تلك «المعتقدات المطلقة» التي قال إنه يبغضها، والتي وصفها بأنها «محدودة في عظمتها المزعومة، وخاطئة فيما يتعلَّق بحقيقتها الرياضية.» وعلى النقيض، أرجَعَ السياسيون الذين كانوا يعيشون وسطَ الأحداث اليومية، كلَّ شيء للحوادث العارضة التي كانوا جزءًا منها؛ ذكر توكفيل أن العديد من الحقائق التاريخية حدث بالصدفة أو بمزيج من الأسباب الثانوية التي ترقى للصدفة، لكنه أكَّدَ أن الصدفة لا تصنع أيَّ شيء لم يتم إعداده مسبقًا. ربما يمكن توقُّع هذا الإعداد فيما يتعلَّق بالأسباب العامة، فقط من قِبَل عبقري مثل توكفيل، ليس بسبب تبصُّره الخارِق، ولكن بسبب أن بصيرته المدهشة لم يشوش عليها وَهْمُ أيِّ معتقد يختصر كلَّ الأسباب والصدفة في نظرية خاصة به، كما لو كان هو مسئولًا عن الكون. إن الروح الأدبية في السياسة هي روح مستبِد، وأفضل شيء لمواجهتها هو عناد الحقيقة مدعومًا بعدم قابلية الصدفة للتنبؤ.
الصدفة والعظمة
يمكن للفضيلة البشرية أن يكون لها دخل في أفعال الإنسان بقدر ما تسمح به الصدفة، حيث إن الصدفة تكون السبب في كل الأفعال فيما عدا تلك التي تكون نتاج الفضيلة البشرية، والتي تتطلب نطاقًا للفعل؛ فعندما يقوم الشخص الفاضل بفعل، فإنه يستبدِل ما قام به بما كان سيحدث بالصدفة أو بالأفعال العادية للأشخاص غير الفضلاء؛ لذا، فإن الفضيلة لديها هدف «إبعاد» عامل الصدفة، وذلك كما قال توكفيل في كتابه «الديمقراطية في أمريكا». لكن الفضيلة تقتضي ضمنًا وجود الصدفة حتى يمكن أن تحلَّ محلها؛ في النظريات العلمية الحتمية التي رفضها توكفيل، لا يوجد مجال للفضيلة ولا للصدفة؛ فالفضيلة لا تصبح فضيلة إذا كان الشخص مُجبَرًا على القيام بها، بل يجب أن يقوم بها طوعًا؛ فالشخص الفاضل يجب أن يكون حرًّا؛ فالفضيلة أفضل مؤشر على الحرية لأن الاستخدام السيئ للحرية — على سبيل المثال: فساد الحكومة الفرنسية تحت حكم لويس-فيليب — من المرجح أنه كان مفروضًا ولم يتم طوعًا، كما هو الحال في نفس هذا المثال فيما يتعلَّق بالشغف بالمتع المادية الذي اتسم به هذا النظام.
غير أن توكفيل لم يكن أحد دعاة الفضيلة، الذين يروِّجون لها باعتبارها الحرية الحقيقية الوحيدة؛ فليبراليته الجديدة لم تتبع الاعتقاد الذي اعتنقه كانط، والمتمثل في وجود قانون أخلاقي عام ومطلق يوفِّر الحريةَ ويضمنها. فعندما تأمَّلَ توكفيل أشخاصًا فعليين في عمله «ذكريات»، انبهَرَ بحدود الفضيلة البشرية؛ فهي في المقام الأول فريدة ومنقسمة إلى فضائل عامة وخاصة بحيث قد يتحلَّى الفرد بمجموعة منهما دون أخرى، حتى لو تعارَضَتْ إحداهما مع الأخرى. تُعَدُّ الأمانةُ أكثرَ الفضائل توافُرًا، لكن عندما تكون هناك حاجة إلى الفعل، قد يصبح «وغد جريء» أفضل من شخص أمين. إن الديمقراطيين كثيرًا ما يمزجون بين «الهراء» وأمانتهم. اكتشف توكفيل أن السيدة دي لامارتين امرأة ذات «فضيلة حقيقية»، لكنها إلى جانب فضيلتها «أضافت تقريبًا كلَّ النقائص التي يمكن أن تكون متضمنةً فيها، والتي إن لم تتغير فإنها ستجعلها أقل قبولًا.» في كتابه «الديمقراطية في أمريكا»، قال إن «فكرة الحقوق ليست سوى فكرة الفضيلة» في السياسة، لكنه لم يتناول مسألةَ الحقوق في عمله «ذكريات».
بدلًا من ذلك، تناول توكفيل التمييز بين ما هو عادي وما هو عظيم؛ فقد كان النظام الملكي البرجوازي الذي تمَّتِ الإطاحة به، والجمهورية الاشتراكية التي كانت بمنزلة مصدر تهديد ولم تتحقق قطُّ، والإمبراطورية النابليونية الثانية كلها أمثلة على انتصار ما هو عادي على ما هو عظيم. تُعَدُّ العظمةُ عبر كل أعمال توكفيل مصدرَ إلهام للحرية، ويمكن القول إنها هي السمة الأساسية لِلِيبراليته التي «من نوع جديد». إن الرغبة في العظمة هي الدافع الذي يبرِّر ويعلي من شأن الوطنية الديمقراطية، وحتى النظم الإمبريالية والاستعمارية الديمقراطية.
لقد زاد الاهتمام مؤخرًا بكتابات توكفيل عن الجزائر التي تؤيد الإمبريالية الفرنسية، وهو موقف يُعتقَد أنه أساء لسمعته باعتباره صديقًا للديمقراطية؛ لكنه أيَّدَ الاستعمار الفرنسي للجزائر (بالطبع دون استخدام أسلوب الرق)، باعتباره تعبيرًا عن رغبةٍ في العظمة تُعَدُّ ضروريةً للإعلاء من شأن الديمقراطية فوق ادِّعاء المساواة العالمية العادية. اتفق توكفيل مع صديقه جون ستيوارت ميل على أن «الحضارة» أفضل من «الهمجية»، على الرغم من أنهما ربما قد يختلفان حول ما إذا كانت تلك الأفضلية يمكن أن تذهب إلى حد تبرير الاستبداد، كما قال ميل في كتابه «عن الحرية». غير أن علو مكانة الأمم الديمقراطية والعظمة الناتجة الخاصة بالوطنية الديمقراطية يشيران لاحتمال حدوث الاستعمار، إذا كان أيٌّ من تلك الأمم تسعى ﻟ «نشر التحضُّر» (وهي عبارة ليست خاصة بتوكفيل). يتمثَّل الحل اليومَ في إسقاط الفارق بين الحضارة والهمجية؛ ومن ثَمَّ تحويل الحضارة إلى «ثقافة»؛ فالثقافات كلها متساوية؛ ومن ثَمَّ فإن فكرة التعددية الثقافية اليومَ ليست لديها ما تقوله عن العظمة. وهي بذلك تصبح قريبةً من العولمة، وهما مفهومان غير سياسيين في سعيهما لتجاوز التقسيمات السياسية؛ ومن ثَمَّ معارضان لإصرار توكفيل على الحرية السياسية؛ حيث إنهما يتطلَّبان كيانات سياسية مختلفة. وبقدرِ ما تكون الرغبةُ في العظمة هي مصدر إلهام للحرية السياسية، فإنها تخاطر ببدء مشروعات هدفها صالح الآخرين في الوقت الذي قد يفضِّل فيه المنتفعون منها السعيَ من أجل صالحهم هم فقط.
إذا كان توكفيل ليبراليًّا من نوع جديد لأن عينه كانت تركِّز دائمًا على العظمة الإنسانية، فما الداعي لاعتباره ليبراليًّا من أي نوع من الأساس؟ أليست العظمة أرستقراطيةَ الطابع على نحوٍ حتميٍّ بحيث لم يكن هو بالفعل ليبراليًّا على الإطلاق مع وضع العظمة دائمًا في اعتباره، فضلًا عن مدى كونه ديمقراطيًّا من عدمه؟ للإجابة على هذا السؤال، يمكن أن نقارنه بأرسطو الذي لا يمكن أن نتهمه بأنه كان ليبراليًّا؛ فَتوكفيل اتفق مع أرسطو على أن الإنسان بطبيعته حيوان سياسي. إنه لم يكرِّر قطُّ تعريفَ أرسطو، لكنه على نحو واضح لم يُشِرْ للبديل الليبرالي له، الذي ذُكِر أولًا في أفكار هوبز الذي قال إن الإنسان بطبيعته حر، ويدخل السياسة بموافقته فقط على الخضوع لحاكم مصطنع. كيف اختلف إذن عن أرسطو؟
يمكن رؤية اختلافه على وجه الدقة في فكرة العظمة الإنسانية التي طوَّرها باعتبارها مختلفةً عن الفضيلة والخيرية الإنسانية عند أرسطو. يرى أرسطو أن الفضيلة هي السائدة؛ لأن أي شيء نسعى إليه نحن البشر «نعتقد» أنه فضيلة، ووسع أرسطو تلك النظرة الإنسانية لتشمل كل الطبيعة. لكن سيادة الفضيلة هي الأمر الذي أنكره هوبز، أول المفكرين الليبراليين؛ فهو يفترض أننا جميعًا نرغب في الحفاظ على الذات، وهي الفضيلة التي نشترك فيها جميعًا، لكننا نستخدم تلك الفضيلةَ بطرق مختلفة لنسعى وراء فضائل نختلف في اعتقادنا بفضيلتها؛ فلا توجد فضيلة تُعَدُّ أسمى الفضائل، ولكنَّ هناك تمييزًا فقط بين الفضيلة الأدنى العامة — وهي الحفاظ على الذات — والفضائل المختلفة التي نسعى وراءها بحسب اعتقادنا. في السياسة، يؤدِّي هذا إلى التمييز الليبرالي الجوهري بين الدولة من جهة، التي تضمن فضيلة حفظ الذات، وبين المجتمع من جهة أخرى حيث نختلف ونعيش في وضعٍ نطلق عليه اليومَ التعدديةَ.
اتبع توكفيل هذا المسار الليبرالي، مقتديًا بهوبز ومختلفًا عن أرسطو والفكر السياسي التقليدي بوجه عام، لكنه اتفق مع أرسطو فيما يتعلَّق بالروح، وتحدَّثَ عن «الأرواح المنحطة»؛ فالليبرالية تهاجم الروح لأنها تجمع بين الفضيلة الأدنى المتمثِّلة في حفظ الذات، والهدف الأسمى المتمثل في عيش حياة خيِّرة. إن الروح المنحطة ستكون تلك التي على مسافة كبيرة من الحياة الخيرة، وتلك رؤية مختلفة تمامًا عن الرؤية الليبرالية التي ترى أن النفس قد اتخذت فحسب اختيارها بالعيش بحسب ما ترغب، وأن قيمتها لا يمكن قياسها من خلال تصورٍ واحدٍ يُزعم أنه صحيح ويتمثَّل في الحياة الخيرة. لكن بدلًا من الحديث عن «الحياة الخيرة»، تحدَّثَ توكفيل عن «العظمة». ما الفارق الذي يُحدِثه هذا؟
لا توجد العظمة في الطبيعة لكنها تُنسَب خصوصًا للبشر من جانب البشر أنفسهم؛ فهي تشير للعظمة من وجهة نظر البشر، أو كما سمَّاها توكفيل «العظمة الإنسانية». إنها جزئيًّا متغيرة واختيارية، لكن التطلُّعَ للعظمة وحبَّها متأصلان في الطبيعة الإنسانية؛ فالبشر فقط هم الذين يصدرون أحكامًا تتعلق بما أو مَن هو مهم، والعظمة تمثِّل ما يعتقد البشر أنه مهم. وهي تختلف عن العديد من الأشياء التي هي مفيدة فقط، وتُعَدُّ خيرةً؛ ومن ثَمَّ تمثِّل جزءًا من «الفضيلة»، لكن ربما تكون غير مهمة. إن العظمة ممكنة دون فضيلة، كما قال توكفيل عن نابليون إنه «كان عظيمًا بالرغم من أنه كانت تنقصه الفضيلة.» لكن مع امتلاك المرءِ الفضيلةَ، يمكن أن يصبح أكثر عظمةً، لكن الفضيلة نادرة، والعظمة كذلك نادرة جدًّا، ولكن نظرًا لكونها تمثِّل ما يعتقد البشر أنه مهم، وهو الأمر الذي يفعلونه بطرق متعددة وأحيانًا متعارضة، فهي أكثر تنوُّعًا من الفضيلة؛ ومن ثَمَّ هي تتناسب أكثر مع الحرية السياسية؛ فكل البشر لديهم تصوُّر عمَّا هو عظيم، وهو الشيء الذي يطمحون إليه. لكن لا يوجد توحد أو اتفاق ضروري فيما يتعلَّق بما هو «عظيم»، كما هو الحال فيما يتعلَّق بما هو «فضيلة»؛ وهذا هو السبب في رفض سيادتها من قِبَل المفكرين الكلاسيكيين. والعظمة هي أيضًا نتاج التطبيق وليس النظرية؛ فعندما وصف أرسطو الرجل ذا الروح العظيمة، كان يتحدَّث عن مجال الفضيلة الأخلاقية في الجانب التطبيقي منه، في مقابل الفضيلة الفكرية الخاصة بالفلاسفة؛ فالفلاسفة ربما يكون لديهم تصوُّر متعلق بالعظمة الخاصة بكل الطبيعة، لكنهم قد يستخدمونه في التقليل من شأن الأشياء التي يعتبرها معظمُ الناس عظيمةً. لم يختلف توكفيل مع رأي معظم الناس فيما يتعلَّق بتلك النقطة؛ فعدم ثقته في الفلسفة تَظهر في إصراره على العظمة؛ فربما كانت لديه فلسفة خفِيَّة قريبة على نحوٍ ما من فلسفة أرسطو لتبرير تجاهُله الفلسفةَ، وربما يكون هدف هذه الفلسفة الدفاع عن السياسة، لكنه في الغالب كان يعتقد أنه من الضروري الدفاع عن السياسة من خلال الهجوم على الفلسفة؛ حيث إن الفلسفة الليبرالية التي كان يعرفها كانت تُعَدُّ في ذلك الوقت الخطرَ الأكبر على الحرية والليبرالية.