الخطر القادم من الفضاء
الحدث الفلكي الأبرز في هذا القرن
في عام ١٩٩٣ جاء اكتشاف كارولين شوميكر — زوجة عالم الكواكب الراحل يوجين شوميكر الذي حزن على رحيله الكثيرون — وزميلها ديفيد ليفي ليغير إلى الأبد تصورنا عن الأرض كملاذ آمن ومريح معزول عن أصوات الطنين والانفجارات التي تحدث في كونٍ عنيفٍ متقلب. كان فريق شوميكر قد رصد ٢١ كتلة صخرية ضخمة كانت ذات يوم جزءًا من مُذَنَّب تمزَّق بفعل مجال الجاذبية الهائل لكوكب المشتري، وهو كرة عملاقة تتألف أساسًا من غازَي الهيدروجين والهيليوم، وتبلغ من عِظَم الحجم ما يكفي لتضم داخلها أكثر من ١٣٠٠ أرض مثل أرضنا. لكن بدلًا من الدوران حول الشمس — كما تفعل معظم المذنبات — أمسكت بها جاذبية كوكب المشتري، فصارت تلك الشظايا الصخرية الآن تدور حول كوكب المشتري نفسه الذي يطلَق عليه «ملك الكواكب». وبما أن كوكب المشتري لديه بالفعل عدد كبير من الأقمار، فإن إضافة عدد قليل إلى تلك الأقمار لم يكن مثيرًا للاهتمام كثيرًا، إن لم يكن مستغربًا. إلا أن الغريب في الأمر هو أن تلك «الأقمار» الجديدة كانت سريعة الزوال للغاية. فما إن يمر عام حتى ينتهيَ وجود تلك «الأقمار» عن طريق اصطدامها بسطح كوكب المشتري، وهو ما يمنح العلماء على الأرض فرصةَ النظرِ إلى ما يحدث عندما يُضرب كوكب بكتلة كبيرة من الحطام الفضائي.
في السادس عشر من شهر يوليو عام ١٩٩٤ — الذي كان يوافق ذكرى مرور ٢٥ عامًا على إطلاق أبولو ١١، وهي أول بعثة فضائية للبشر تهبط على سطح القمر — ضرب أول جزء من مُذَنَّب شوميكر-ليفي كوكب المشتري مسببًا تصاعد سحابة ضخمة من الغاز والحطام، ومفجرًا موجة صدمة سريعة الانتشار. ولما توالت الشظية تلو الشظية على ضرب كوكب المشتري جُمعت صور رائعة عن طريق التليسكوب الفضائي «هابل» الذي يدور في مدار حول الأرض، وعن طريق المسبار الذي يعمل دون طاقم «جاليليو» وهو في طريقه إلى كوكب المشتري. وبعد يومين من وقوع الاصطدام الأوَّلي اصطدمت كتلة صخرية قطرها أربعة كيلومترات — يُطلق عليها اسم الشظية «جي» — بكوكب المشتري بقوة تعادل قوة انفجار ١٠٠ مليون مليون طن من مادة تي إن تي الشديدة الانفجار؛ وهو ما يعادل تقريبًا ثمانية مليارات قنبلة ذرية في حجم تلك التي ضربت هيروشيما. وكان الوميض الناتج عن ذلك الاصطدام المثير من الشدة حتى إن العديد من تليسكوبات الأشعة تحت الحمراء التي كانت ترقب الحدث حُجبت عنها الرؤية مؤقتًا. ومع ذلك فقد تلاشى ذلك الوميض سريعًا ليكشف عن أثر داكن هائل للاصطدام تفوق رقعته حجم كوكب الأرض. وحتمًا مَرَّ بذهن كل من رأى تلك الصورة الرهيبة الخاطرُ نفسُه: ماذا كان سيحدث لو أن الشظية «جي» ضربت كوكب الأرض بدلًا من كوكب المشتري؟
بين عشية وضحاها بدا كوكبنا مكانًا أكثر عرضة للخطر، وبدت سيطرة الجنس البشري على الكوكب أوهى بكثير. وفجأةً بدأ العلماء، وعامة الناس، بل والسياسيون، يأخذون الخطر الآتيَ من الفضاء على محمل الجد. وظهر اثنان من أكثر أفلام هوليود رواجًا ليزيدا من الاهتمام المتصاعد بأحداث الاصطدام عن طريق إظهار ما يمكن أن يحدث — بدرجات متفاوتة من الدقة العلمية — في حال تحرك مُذَنَّب أو كويكب باتجاه الأرض.
في عام ١٩٩٦؛ أي بعد عامَين فقط من اصطدام كوكب المشتري، شُكِّلت هيئة دولية تُعرف باسم مؤسسة «حماية الفضاء» كرست أهدافها لتعزيز البحث عن الكويكبات والمذنبات التي يُحتمل أن تكون خطرة، ولرفع المستوى العام للوعي بخطر اصطدامها بالأرض. في الولايات المتحدة، بدأت وكالة ناسا ووزارة الدفاع — وإن كان بقدر قليل — تمويل المشاريع ذات الصلة بتلك الهيئة، وأنشأت حكومة المملكة المتحدة فريق عمل لدراسة خطر اصطدام الكويكبات والمذنبات بالأرض. فجأةً صار الجميع يريدون أن يعرفوا ما هي احتمالات اصطدام الأرض بشيءٍ من هذا في مرحلةٍ ما في المستقبل، وماذا سيكون أثر ذلك التصادم على كوكبنا وعلى جنسنا البشري. والجواب عن السؤال الأول سهل: الاحتمال يبلغ مائة بالمائة. عبر تاريخ الأرض الطويل مُنيت الأرض بضربات كثيرة من حطامٍ جاء من الفضاء، ومع أن مثل هذه التصادمات صارت الآن أقل شيوعًا بكثير مما كانت عليه منذ مليارات السنين، فإن كوكبنا سيُضرب مرة أخرى. والسؤال الجوهري: متى سيكون هذا؟ وأما عن السؤال الآخر بخصوص مدى سوء أثر ذلك على الجنس البشري، فهذا يعتمد كثيرًا على حجم الكتلة الصخرية التي ستصطدم بالأرض.
العاصفة الرملية الكونية
إن أردنا الحصول على فكرة أفضل عن الوتيرة التي من المرجح أن تحدث بها تلك الاصطدامات بكوكب الأرض، فنحن بحاجة إلى معرفة عدد الصخور التي تندفع في أرجاء نظامنا الشمسي، وعلى وجه الخصوص، عدد ما يقترب منها من كوكب الأرض بما يكفي ليثير قلقنا. ومع أن كمًّا هائلًا من الحطام قد جرفته الكواكب في مرحلة تكوُّنها خلال فجر النظام الشمسي، فقد ظلت هناك بقايا لا تُعد ولا تُحصى تتراوح أحجامها صعودًا من ذرات صغيرة لا يعدو قطرها بضعة مليمترات إلى صخور ضخمة، مثل كويكب سيريس الصغير الذي يتجاوز قطره ألف كيلومتر. الأرض دائمة التعرُّض للقصف في أثناء رحلتها عبر النظام الشمسي، تمامًا كمن يصارع عاصفة رملية في الصحراء. ولحسن حظنا فإن معظم المليارات من الشظايا التي تصطدم بكوكبنا ضئيلة الحجم للغاية، وتختفي ما إن تحتك بدرع الغلاف الجوي لكوكبنا. ومع ذلك، فبين الحين والآخر تصطدم الأرض مع أجرام سماوية أكبر حجمًا.
كل خمس دقائق تأتي إلينا شظية من الحطام في حجم حبة البازلاء فتحترق حين تحتك بالغلاف الجوي للأرض، في حين أنه في كل شهر تقريبًا تأتي إلينا شظية من الحطام في حجم كرة القدم فتضيء السماء مع احتراقها في الغلاف الجوي. وقد تنجح بعض الأجرام الأكبر حجمًا في اجتياز الغلاف الجوي للأرض والوصول إلى سطحها، لكنه أمر نادر الحدوث، ولا يحدث إلا بضع مرات في السنة. وربما يحدث كل بضعة قرون أن تصطدم بالأرض صخرةٌ يتراوح قطرها بين ٤٠ و٥٠ مترًا، وجِرم بهذا الحجم كفيل بأن يطمس من الوجود مدينة كبيرة بأكملها لو كان اصطدامه بالأرض مباشرًا. وقد وقع آخر اصطدام موثَّق من هذه النوعية عام ١٩٠٨، وسنعاود الحديث عن هذه النقطة لاحقًا.
مع أن النظام الشمسي بأكمله يعج بالحطام، فمن منظور الخطر نحن لا نهتم إلا بتلك الشظايا التي تهدِّد بإنهاء وجودها عن طريق التصادم مع كوكبنا. وغالبية تلك الأجرام التي تهدد الأرض هي كويكبات صخرية لها مدارات حول الشمس تقترب من مدار الأرض أو تتقاطع معه. ومن المستحيل تحديد الأعداد الحقيقية لهذه الكويكبات القريبة من الأرض، لكن التقديرات الحالية تبعث على الفزع.
وإجمالًا هناك ما يصل إلى ٢٠ مليون كتلة صخرية يتجاوز قطرها ١٠ أمتار ربما تندفع الآن عبر مسار كوكبنا خلال دورانه حول الشمس أو بالقرب منه. ويُعتقد أن ما يصل إلى ١٠٠ ألف من هذه الكتل الصخرية يتجاوز قطرها ١٠٠ متر، وهو ما يكفي لإبادة مدينة مثل لندن أو نيويورك إن كانت الضربة مباشرة، بينما قد يصل قطر ٢٠ ألفًا منها إلى نصف كيلومتر، وهي بهذا كفيلة بأن تُبيد دولة صغيرة إذا ضربت اليابسة، أو تولِّد أمواج تسونامي مدمرة إذا ضربت المحيط. وهناك كويكبات أقل عددًا — ولكن أشد تدميرًا — يبلغ قطرها كيلومترًا واحدًا أو أكثر، وهي بذلك قد تُبيد بلدًا مساحته مثل مساحة إنجلترا، وغيرها مما يبلغ قطره كيلومترين أو أكثر قد يلحق الدمار التام بجميع أنحاء العالم. القدر الهائل لطاقة الحركة التي يتضمنها اصطدام جرم قطره كيلومتران — أي ما يعادل في الطول ٢٠ ملعب كرة قدم مصطفة في خط واحد — بالأرض كفيلة بأن تخلِّف وراءها فوهة قطرها ٤٠ كيلومترًا أو نحو ذلك، وأن تتسبب في تصاعد قدر من الحطام المسحوق إلى الغلاف الجوي يكفي لحجب أشعة الشمس وغمر الأرض بشتاء كوني قارس البرودة يستمر سنوات.
نُشرت مجموعة من التقديرات لعدد الكويكبات القريبة من الأرض التي يبلغ قطرها كيلومترًا واحدًا فأكثر، وتشير أحدث تلك التقديرات إلى أن عددها يقارب الألف. في شهر أغسطس عام ٢٠٠٥، كان العلماء قد حددوا ٧٩٤ جرمًا من هذه الأجرام — ربما ما يعادل ثلاثة أرباع مجموعها الكلي — ومداراتها المتوقعة مستقبلًا لمعرفة ما إذا كانت تشكل خطرًا على الأرض في المدى المتوسط أم لا، والبحث مستمر للعثور على تلك الأجرام كلها؛ وهي مهمة من شأنها أن تستغرق بضعة عقود أخرى على الأقل. بمجرد أن ينتهيَ ذلك، وعلى افتراض أنها ستكون بمنأًى عنا، يمكننا حينها أن نشعر بقدر ولو بسيطًا من الطمأنينة. لكن للأسف لا تنتهي المشكلة عند هذا الحد؛ فلا يزال علينا القلق بسبب المذنبات.
المذنبات عبارة عن كميات هائلة من الصخور والجليد قد يصل قطرها إلى ١٠٠ كيلومتر أو أكثر. وعلى النقيض من المدارات شبه الدائرية للكويكبات، نجد معظم المذنبات تتبع مسارات إهليجية الشكل تحملها من المواضع الشديدة البرودة في النظام الشمسي الخارجي، أو ما يقع وراءه، إلى أن تصير على مقربة من الشمس، ثم تخرج مرة أخرى. وفي أعماق الفضاء تكون المذنبات أجرامًا غامضة يصعب رصدها. ومع ذلك فحين تدخل إلى داخل النظام الشمسي تخضع لتحوُّل ملحوظ؛ حيث يبدأ ضوء الشمس في تبخير الغاز وجسيمات الغبار الموجودة في نواتها المركزية، فيتشكل «ذيل» بديع المنظر يمكن أن يمتد عبر الفضاء على مسافة ١٠٠ مليون كيلومتر أو أكثر. ولطالما نظرت البشرية إلى ظهور ذلك الذيل الخلاب في مؤخرة المذنب على أنه نذيرُ شؤمٍ بالموت والكوارث، وهو اعتقاد لا يبعد عن الحقيقة بصورةٍ ما. وتتراوح سرعة المذنبات عادةً بين ٦٠ و٧٠ كيلومترًا في الثانية، وهذه سرعة تفوق سرعة طائرة من طراز كونكورد مائة مرة، وتعادل نحو ثلاثة أضعاف سرعة الكويكبات القريبة من الأرض. وهذا يجعل وقوع تصادم بين أحد المذنبات والأرض أشد تأثيرًا؛ ومن ثَمَّ أشد تدميرًا وفتكًا.
هناك مشكلة أخرى تتعلق بالمذنبات، وهي أن البارامترات المدارية لها — خلافًا للكويكبات — لا نعرف عنها سوى القليل؛ ومن ثَمَّ فمن الصعب استشراف المستقبل لمعرفة ما إذا كانت تشكل أي تهديد أم لا. يتبع مذنب هالي — وهو بلا شك المذنب الأكثر شهرة — مدارًا حول الشمس يستغرق إكماله ٧٦ سنة فحسب. ونتيجةً لذلك، فقد شوهد عشرات المرات على مدى آلاف السنين، ومداره معروف بدرجة تجعل من الممكن حساب مساره في المستقبل البعيد. وهذا يدل على أن المذنب هالي لن يقترب من تهديد كوكب الأرض، على الأقل حتى عام ٣٠٠٠ ميلاديًّا. ومع ذلك، فالمذنبات الأخرى تسير في مدارات قطعية مكافئة تأخذها في رحلات بعيدة للغاية قد تصل إلى ما هو أبعد من حدود النظام الشمسي. وقد شاهد أجدادنا الأوائل بعضها مرة واحدة أو مرتين، لكن البعض الآخر قد يكون في أول زيارة له إلى داخل النظام الشمسي. في هذه الظروف، لم تكن هناك أي فرصة للتنبؤ بمداراتها على أساس ما قامت به من قبلُ من زيارات لنظامنا الشمسي، وإن رأينا لأول مرة أحدها متجهًا نحونا، فلن يكون أمامنا سوى ستة أشهر فقط قبل حدوث اصطدام كارثي لا مفر منه. وعلاوةً على ذلك، فنظرًا لأن هذه المذنبات حبيسة الفضاء الخارجي، فإنها تكون ضخمة؛ إذ ربما يبلغ قطر الواحد منها ١٠٠ كيلومتر أو أكثر. والسبب في ذلك أنها لم تتعرض للتآكل بفعل الرياح الشمسية (دفق الجزيئات الشمسية) التي تتسبب في تبخُّر أجزاء من المذنب لتنتج ذلك الذيل المميز وهي تشق طريقها عبر النظام الشمسي الداخلي.
عندما تتصادم العوالم
خاض أنصار هذه النظرية نوعًا من الصراع على مرِّ القرون القليلة الماضية لإقناع العلماء وعامة الناس أن ملايين الفوهات الموجودة على سطح القمر لم تظهر نتيجةً لانفجارات بركانية، بل نتيجة اصطدامات مع أجرام من الفضاء. منذ فترة طويلة، وتحديدًا في أوائل القرن التاسع عشر، كان العلماء «الجادون» يسخرون من قول الفيلسوف الطبيعي الألماني البارون فرانز فون بولا جرايتهازن إن تلك الفوهات القمرية كانت نتيجة «قصف كوني وقع في العصور الماضية.» (لا شك أن ادعاءاته الأخرى بشأن الكشف عن أدلة على وجود بشر وحيوانات على سطح القمر ليست لها علاقة تذكر بهذا.) وفي نهاية القرن التاسع عشر، حاول الجيولوجي الأمريكي جروف كارل جيلبرت عمل محاكاة في المختبر لتشكل الفوهات القمرية بإطلاق أجسام إلى أجزاء تتكون من المسحوق أو الطين. ومع ذلك انتابت جيلبرت الحيرة عندما لاحظ أن الأجسام التي أُطلِقت رأسيًّا فقط هي التي شكلت حفرًا دائرية كالتي تغطي سطح القمر. وفي ضوء هذا، أعلن دبليو إم سمارت عام ١٩٢٧ أن الفوهات البركانية الموجودة على سطح القمر لا يمكن أن تكون ناجمة عن اصطدامات؛ لأنه «لا يوجد أي سبب بديهي يفرض على الشهب ألا تسقط إلا عموديًّا.» وبعد رصد اصطدامات مليارات الأطنان من القنابل التي أُلقيت في الحرب العالمية الثانية فحسب، بدأ الجيولوجيون يرَوْن أنه إن كان الانفجار عنيفًا بما يكفي فدائمًا ما تتشكل بسببه حفرة دائرية مهما كانت زاوية الضرب. بعبارة أخرى، فإن الانفجار الهائل الذي يتولَّد عندما يضرب جرمٌ ما القمر يكاد يسفر دائمًا عن تكوُّن حفرة دائرية. ومن اللافت للنظر أن الأمر قد استغرق ربع قرن آخر لينال القول إن تلك الفوهات تكونت نتيجة اصطدام قبولًا واسع النطاق، وحتى اليوم لا يزال قلة قليلة من العلماء المنشقين يؤيدون القول إن أصلها بركاني مع أن القول الآخر قامت عليه الأدلة الدامغة. إن نيل أي مبدأ جديد للقبول في الأوساط العلمية معركة، والجيولوجيا ليست استثناءً من ذلك. وكما أن أنصار النظرية الثورية التي تقول بالصفائح التكتونية خاضوا في البداية صراعًا مريرًا ضد القوى الرجعية، فإن أولئك العلماء الذين قالوا إن الأرض، وكذلك القمر، تعرضا لضربات من أجرام سماوية وجدوا صعوبة في إقناع غيرهم بذلك.
منذ فترة طويلة، وتحديدًا عام ١٩٠٥، قال بنيامين تيلجمان إن فوهة بارينجر الشهيرة في ولاية أريزونا (التي أيضًا تُعرف الآن باسم فوهة النيزك) قد تكونت نتيجة «اصطدام نيزك ذي حجم هائل ليس له مثيل إلى الآن.» ومع ذلك لم يقتنع الناس بهذا القول؛ لأن تيلجمان وزميله المهندس دي إم بارينجر ظلَّا ربع قرن ينقِّبان عن الجرم الذي ضرب الأرض هناك لكن دون جدوى. ونحن نعلم الآن أن هذا الجرم قد تبخر بفعل الحرارة الهائلة الناتجة عن الاصطدام، ولكن في ذلك الوقت كان عدم العثور على دليل دامغ كفيلًا بأن يجعل المصداقية من نصيب أصحاب القول الآخر.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية بكثير، عانى العديد من علماء الأرض فقرًا في الخيال؛ إذ قبلوا أن تلك الفوهات الموجودة على القمر إنما هي أثر اصطدام أجرام به، ومع ذلك ظلوا يتمسكون بأي قشة كي لا يؤيدوا القول إن الفوهات الموجودة على كوكبنا هي أثر اصطدام أجرام به. وبالنظر إلى ذلك، وبسبب ما تتمتع به الأرض من حجم أكبر ومجال جاذبية أقوى بكثير، فإنه لا بد أن تكون قد ضُربت ربما بوتيرة تزيد ثلاثين مرة عن الوتيرة التي ضُرِب بها القمر؛ ومن ثَمَّ تزداد غرابة هذا الإنكار. ومع ذلك، ربما لا يكون هذا الإنكار مستغربًا تمامًا، عندما نضع في الاعتبار أن الطبيعة النشطة جدًّا لكوكبنا لا تتواءم تمامًا مع الحفاظ على فوهات اصطدام، لا سيما ما كان منها شديد القِدَم. بسبب الصفائح التكتونية، وعلى وجه الخصوص عملية الاندساس، التي يتم عن طريقها وبشكل مستمر تآكل صفائح المحيطات البازلتية في باطن الأرض الملتهب، نجد أن ما يقرب من ثلثَي سطح الأرض لا يجاوز عمره بضع مئات من ملايين السنين. وإن وضعنا في اعتبارنا أن المرحلة التي شهدت أكبر قدر من القصف كانت خلال مليارات السنين القليلة الأولى من تاريخ كوكبنا، فإن الأدلة على هذا الآن لن توجد إلا في الأعماق القديمة للقارات الجرانيتية التي هي في مأمن من عملية الاندساس. وقد اشتُهر عن تلك الفوهات صعوبة رصدها؛ وذلك نظرًا لتعرضها لأزمان طويلة من التآكل والتعرية. فضلًا عن ذلك فإن أقدم الصخور — التي من المرجح أن تدعم معظم الفوهات — توجد في مناطق نائية مثل سيبيريا وشمال كندا وأستراليا، وبعض الفوهات كبيرة جدًّا لدرجة أن صورتها الحقيقية لا يمكن رؤيتها إلا من الفضاء. ساعدت الأقمار الصناعية اليوم في تحديد أكثر من ١٧٢ فوهة اصطدام في جميع أنحاء العالم، وفكرة أن الأرض عرضة للقصف من الفضاء صارت الآن مقبولة مثلها مثل نظرية الصفائح التكتونية.
ومع ذلك، فمما لا شك فيه أن الجدل لا يزال قائمًا ومستمرًّا في الأوساط العلمية، ولا سيما حول وتيرة الاصطدامات وانتظامها، وحول آثار الاصطدام الكبير القادم على حضارتنا، وهو ما يهم رجل الشارع على وجه الخصوص. أما عن وتيرة تلك الاصطدامات فهي بعيدة عن أن تكون مسألة هينة، وهناك خلاف كبير بين المدارس الفكرية؛ فمنها ما يذهب إلى القول إن هناك تدفقًا مستمرًّا من تلك الأجرام التي تصطدم بالأرض، ومنها ما يقول بنظرية تُسَمَّى «التجمعات التصادمية». وبالرغم من القصف العنيف جدًّا الذي شهدته الحقبة الأولى من تاريخ الأرض، نجد أتباع نظرية «تواتر الاصطدامات» يرَوْن أن تلك الاصطدامات تقع بمعدل موحد وثابت. وهذا يتعارض مع ما يقوله مناوئوهم من العلماء الذين يروجون لنظرية بديلة هي نظرية «ترابط الكوارث»، التي تقول بأن الأرض — لسبب أو لآخر — تتعرض دوريًّا للهجوم من عدد متزايد من الكويكبات أو المذنبات.
إذا أردنا إجراء تقييم واقعي لخطر الاصطدامات المستقبلية على حضارتنا، فمن الواضح أنه لا بد أن نقرر بأسرع ما يمكن ما إذا كان عدد تلك الاصطدامات سيظل بمعدله الحالي أم أننا سنتعرض في المستقبل لصدمة قاسية تخبئها لنا الأقدار. إذا ثبتت صحة القول الأول، فلنا أن نتوقع أن يظل الوضع على ما هو عليه، وهذا يعني أن تتعرض الأرض كل بضعة قرون أو نحو ذلك لاصطدامٍ بجرم سماوي قطره ٥٠ مترًا من المحتمل أن يدمر مدينة كبيرة بأكملها، وأن تتعرض كذلك كل عدة عشرات من آلاف السنين لاصطدام بجرم سماوي قطره نصف كيلومتر من شأنه أن يدمر دولة صغيرة، وأن تتعرض كل ٦٠٠ ألف سنة لاصطدام بجرم سماوي قطره كيلومتر واحد من شأنه أن يؤثر على العالم أجمع. ولحسن حظنا، يبدو أن أحداث الانقراض الجماعي — مثل ذلك الاصطدام الذي وقع بين الأرض وجرم سماوي قطره عشرة كيلومترات، والذي أنهى عهد الديناصورات قبل ٦٥ مليون سنة — تقع كل ٥٠ إلى ١٠٠ مليون سنة؛ ومن ثَمَّ فإن فرص وقوع واحد منها عما قريب ضئيلة. وبناءً على ما سبق ذكره من معدلات اصطدام أجرام سماوية بالأرض، خرج أنصار نظرية الخطر القادم من الكويكبات والمذنبات علينا باحتمالات جديرة بالتفكير بشأن التعرض للفناء بسببِ واحدٍ من تلك الاصطدامات. لو استطعتَ بناء آلة زمن وانطلقت بها إلى المستقبل فوصلت إلى عام ١٠٠٠٢٠٠٥ حيث بحثت واستشرت مركز التسجيلات الكوكبية، لخرجتَ بحقيقة مذهلة، وهي أن عدد من لقوا حتفهم في اصطدامات جوية (وفضائية أيضًا) خلال فترة المليون سنة الفاصلة — الذي قد يتراوح بين ١ و١٫٥ مليار شخص — سيكون ضعف عدد من لقوا مصرعهم بسبب أحداث اصطدام أجرام سماوية بالأرض، والذي قد يتراوح بين ٥٠٠ إلى ٧٥٠ مليون أو أكثر، وذلك على افتراض حدوث تصادم أو اثنين مع جرمين سماويين قُطر الواحد منهما كيلومتر واحد. ومعنى هذا أنه على مدار حياتك يكون احتمال وفاتك بسبب اصطدام كويكب أو مذنب بالأرض نصف احتمال وفاتك في حادث تحطم طائرة، وهو احتمال يدعو للتفكير فيه بجدية لو كان حقيقيًّا. دعونا نوضح الأمر بتشبيهٍ آخر فنقول إن احتمال وفاتك بسبب اصطدام كويكب أو مذنب بالأرض يفوق احتمال فوزك بمسابقة يانصيب بمقدار ٣٥٠ مرة. قد يصيبك هذا بالفزع الشديد، لكن الوضع الحقيقي قد يكون أسوأ من ذلك. إذا كان أصحاب نظرية «ترابط الكوارث» على صواب، فإن تاريخ الأرض قد شهد فترات معينة كان فيها كوكبنا، أو ربما نظامنا الشمسي بأكمله، يدور في بقعة من الفضاء تحتوي على حطام يفوق في كثرته الحد الطبيعي بمراحل؛ ما أدَّى إلى زيادة كبيرة في أحداث الاصطدام على كافة المستويات.
وهناك عدد من النظريات تلقي باللوم في هذه الزيادة الدورية للحطام الفضائي التي تهدد الأرض على الخلل العارض الذي سببته «سحابة أورت»، وهي سرب كروي كبير من المذنبات تغلف نظامنا الشمسي بأكمله فيما هو أبعد من مدار بلوتو. وفي العادة تسير المذنبات في تلك السحابة في مدارات ضخمة تستغرق ما يقرب من ربع الطريق إلى أقرب نجم، ونادرًا ما تدخل النظام الشمسي الداخلي، ولا تفعل ذلك إلا مَثنى وفُرادى. ومع ذلك، يقال إنه إذا تداخل أي تأثير خارجي مع السحابة، فقد يتغير مدار المئات أو الآلاف منها فيحثها ذلك على التوجه نحو الشمس، وهو ما يزيد كثيرًا من خطر تصادمها مع كواكب النظام الشمسي بما في ذلك كوكب الأرض. وقد طرح الباحثون احتمالات متعددة لكيفية حدوث اختلال دوري في سحابة أورت، بسبب المرور عبر سحابة الكوكب إكس الأسطوري الذي طالت رحلة البحث عنه، والذي يعتقد بعض العلماء أنه يدور في مدار أبعد بكثير من كوكب بلوتو المتجمد، وكويكب سيدْنا الذي اكتُشف مؤخرًا، أو بسبب جرم بعيد معتم شبيه بالشمس.
هناك نظرية بديلة مثيرة للاهتمام تُعرف باسم «فرضية شيفا»، وقد سُميت باسم إله الفناء والبعث عند الهندوس، وقد روَّج لها بقوة مايك رامبينو من جامعة نيويورك وزملاؤه؛ إذ يعتقدون أن حالات الانقراض الكبرى المدونة في السجلات الجيولوجية للأرض جاءت نتيجةً لأحداث اصطدام كبيرة تقع بانتظام كل فترة تتراوح بين ٢٦ و٣٠ مليون سنة. ويربط رامبينو وزملاؤه هذا بمدار نظامنا الشمسي — بما في ذلك كوكب الأرض — حول مركز مجرتنا درب التبانة، وهو مدار يتحرك صعودًا وهبوطًا في حركة تشبه حركة الأمواج. كل ٣٠ مليون سنة أو نحو ذلك، يأخذ هذا المدار المتموج الشمس وكواكبها فيمر بها خلال سطح مجرتنا التي تشبه القرص، وذلك حين توفر جاذبية الكتلة الضخمة من النجوم الموجودة في قلب المجرة مزيدًا من قوة الجذب. ووفقًا للمدرسة التي يتبعها رامبينو، فإن هذا يكفي لإيقاع خلل في مدارات مذنبات سحابة أورت يكفي لإرسال دفق جديد من المذنبات إلى قلب النظام الشمسي؛ ما يزيد كثيرًا من وتيرة الاصطدامات الكبيرة للأجرام السماوية بكوكب الأرض. لم تمر إلا بضعة ملايين من السنين منذ أن مر نظامنا الشمسي الماضي عبر سطح المجرة؛ فهل يمكن أن تكون كوكبة من المذنبات في طريقها نحونا في هذه اللحظة؟ بحلول الوقت الذي نكتشف فيه ذلك، سيكون الوقت قد فات بالفعل.
تنادي فرضية شيفا بدورية حدوث تعمل على مقاييس زمنية جيولوجية؛ ولهذا السبب نادرًا ما يجري تناولها في المناقشات التي تدور حول الخطر المباشر القادم من حوادث الاصطدام بجرم كوني. ومن الأمور التي تتعلق كثيرًا باعتبارات سلامتنا وبقائنا — نحن وأسلافنا — قول العالمَين الفلكيين البريطانيين فيكتور كلوب وبيل نابير إن مجموعات من الأجرام الكونية تضرب الأرض كل بضعة آلاف من السنين، وإن كوكبنا قد تعرَّض لقصف عنيف خلال العصر البرونزي؛ أي قبل ٤٠٠٠ سنة فقط من الآن. ولمعرفة ما قد يكون السبب في وقوع ذلك القصف الذي بلغ قرب عهده مبلغًا يثير القلق، نحتاج إلى العودة إلى سحابة أورت في أعمق أعماق الفضاء. وإذا نحينا جانبًا اختلال السحابة نظرًا لمرور النظام الشمسي حول المجرة، فالأمر الطبيعي هو أن نشهد هبوط مذنب جديد من السحابة بين الحين والآخر إلى النظام الشمسي الداخلي، وهو ما قد يتكرر كل ٢٠ ألف سنة. وسرعان ما «تستحوذ» حقول الجاذبية القوية للشمس أو المشتري على الوافد الجديد وتمزقه إربًا إربًا لتتشكل حلقة من الحطام تنتشر على طول المدار، لكنها تتركز تحديدًا حول موضع المذنب الأصلي نفسه. ويمكن لمذنب كبير تفكَّك بهذه الطريقة أن «يبذر» النظام الشمسي الداخلي بما قد يصل إلى مليون كتلة صخرية قطر الواحدة منها كيلومتر واحد؛ ما يسبب زيادة هائلة في عدد الأجرام التي تهدد كوكب الأرض، ويزيد كثيرًا من فرص تعرُّض كوكبنا للاصطدام. ويرى كلوب ونابير، وغيرهما من أتباع مدرسة نظرية «ترابط الكوارث»، أن آخر دخول لمذنب عملاق من سحابة أورت إلى نظامنا الشمسي كان في نهاية العصر الجليدي الأخير — أي لا يفصل بيننا وبين ذلك الحدث سوى ١٠ آلاف سنة أو نحو ذلك — مما تسبب في تشكيل كتلة من الحطام تُعرف باسم التجمع الثوري (نسبة إلى كوكبة الثور). في شهر ديسمبر من كل عام تمر الأرض عبر جزء من هذا التجمع الحطامي؛ مما يؤدى أحيانًا إلى ظهور عرض ضوئي مذهل سببه عاصفة النيازك الثورية، وتكون في صورة شظايا صخرية صغيرة وصخور في حجم الحصى تحترق في الغلاف الجوي العلوي. ومع ذلك، فهذه الجسيمات والقطع غير المؤذية ليست سوى ذيل التجمع الثوري الذي يضم في قلبه مذنبًا قطره ٥ كيلومترات يعبر أرضنا ويُعرف باسم إنكي، ويرافقه ما لا يقل عن أربعين كويكبًا، لو اصطدم أحدها بكوكبنا لَسبَّبَ فوضى تشمل العالم بأسره.
يتشابه توزيع الحطام على طول مدار التجمع الثوري حول الشمس مع توزيع العدَّائين في سباق لمسافة ١٠ آلاف متر؛ ففي حين يتجمع أغلب العدائين معًا في زمرة واحدة، تنتشر بقيتهم هنا وهناك حول مضمار السباق. ويقول أصحاب نظرية «ترابط الكوارث» إنه في معظم السنوات يعبر مدارُ الأرض مدارَ التجمع الثوري عند نقطة يقل فيها الحطام؛ ما يؤدي إلى ظهور مشهد ما قبل عيد الميلاد. وكل فترة تتراوح بين ٢٥٠٠ و٣٠٠٠ عام أو نحو ذلك، تمر الأرض عبر ما يشبه زمرة المتسابقين، فتجد نفسها على الطرف المستقبِل لوابل من الكتل الصخرية قد يصل قطر الواحدة منها إلى ما يتراوح بين ٢٠٠ و٣٠٠ متر. ويرى بيني بيسر — وهو متخصص في علم الأنثروبولوجيا الاجتماعية في جامعة جون مورز ليفربول — أنه قبل نحو ٤٠٠٠ سنة أدَّى قصفٌ من هذا النوع إلى انهيار العديد من الحضارات القديمة خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد. وفسر هو وغيره الكتابات المعاصرة لذلك في ضوء سلسلة من الاصطدامات كانت من الضآلة بحيث لا تكفي ليكون لها أثر يشمل الكوكب بأكمله، لكنها كانت كافية جدًّا لإيقاع الفوضى في العالم القديم، وذلك عن طريق توليد موجات صدمة مدمرة في الغلاف الجوي، وزلازل، وموجات تسونامي، وحرائق غابات. ويبدو أن العديد من المراكز الحضرية في أوروبا وأفريقيا وآسيا قد انهارت في وقتٍ واحد تقريبًا، وذلك نحو عام ٢٣٥٠ قبل الميلاد، بينما كثرت الفيضانات والحرائق والزلازل والفوضى العامة. وبطبيعة الحال، فإن تلك الروايات الخيالية في بعض الأحيان مفتوحة أمام التفسيرات البديلة، ولا تزال الأدلة الدامغة على وقوع قصفٍ من الفضاء في ذلك الزمان بعيدة المنال. قدَّر العلماء أعمار سبع فوهات اصطدام في أستراليا وإستونيا والأرجنتين بين ٤٠٠٠ و٥٠٠٠ سنة، ولا يزال البحث عن فوهات أخرى مستمرًّا. والأمر الذي يصعب الدفاع عنه هو قول البعض إن انهيار الإمبراطورية الرومانية وبداية العصور المظلمة لعلهما قد نجما — بطريقة أو بأخرى — عن زيادة أعداد الاصطدامات حين مرت الأرض آخر مرة عبر الجزء الكثيف من التجمع الثوري بين عامَي ٤٠٠ و٦٠٠ للميلاد. والأدلة المادية على ذلك ضعيفة، وفترات تدهور المناخ التي تُعزى إلى الاصطدامات في ذلك الزمان يمكن أن تُفسرها انفجارات بركانية كبيرة. الواقع أنه في السنوات الأخيرة كانت هناك نزعة مثيرة للقلق في أوساط علماء الآثار وعلماء الأنثروبولوجيا والمؤرخين إلى محاولة تفسير كل حدث تاريخي في ضوء وقوع كارثة طبيعية من نوعٍ ما — سواءٌ أكانت اصطدامًا للأرض بكويكب، أم ثورة بركانية، أم زلزالًا — وكان العديد منها يقوم على أوهى الأدلة. ولما كان الهدف من هذا الكتاب هو تسليط الضوء على كيفية تأثير الكوارث الطبيعية علينا جميعًا، فسيكون من الحماقة القول إن الحضارات الماضية لم تعانِ عدة مراتٍ ويلاتِ الطبيعة. ومع ذلك، فمَنْ ينسب كل الأحداث — من الحرب الأهلية الإنجليزية والثورة الفرنسية، إلى سقوط روما وزحف جنكيز خان غربًا — إلى كوارث طبيعية، لا يفعل شيئًا سوى التقليل من قيمة التبعات الكارثية المحتملة للأخطار الطبيعية، وتهميش دور الطبيعة في تشكيل مسيرة الحضارة.
أيَّ طريقة موت تفضِّل؟
لو صدَّقْنا مؤيدي نموذج التجمع الثوري — وينبغي أن أقول الآن إن آراءهم لا تزال تشكِّل أقلية بين مؤيدي فكرة الأخطار الناجمة عن الاصطدام بالأجرام السماوية — فربما لا يكون أمامنا إلا نحو ألف سنة أخرى فحسب قبل أن تأتيَ سلسلة من الومضات التي تبهر الأبصار، ومن الانفجارات المدوية لتعلن وصول الدفعة التالية من مذنَّب مجزَّأ. قد نُمحَى من الوجود غدًا أو يكون علينا الانتظار ١٠٠ ألف سنة أو أكثر قبل أن تُباد إحدى المدن، أو الانتظار مليون سنة قبل أن يغرق العالم في شتاء كوني تحت سحابة من الصخور المفتتة. لكن حين تسقط السماوات فوق رءوسنا في المرة القادمة، كيف سيؤثر ذلك علينا؟ يعتمد ذلك على ثلاثة أمور: حجم الجرم، وسرعته، وهل سيصطدم باليابسة أم بالمحيط. إن تساوت جميع العوامل، يمكننا القول إنه كلما كبر حجم الجرم الذي سيصطدم بالأرض كان أشد تدميرًا، وكانت آثاره أوسع نطاقًا. أكرر أن جرمًا كونيًّا يتراوح قطره بين ٥٠ و١٠٠ متر من شأنه أن يحمل قوة تدميرية تكفي لإبادة مدينة كبرى أو دولة أوروبية صغيرة أو ولاية أمريكية. ومستوى الدمار المصاحب لذلك ومداه يزدادان باطِّراد مع ازدياد حجم الجرم الذي سيصطدم بالأرض إلى أن يصل الأمر إلى الحد الحرج حين يصير قطره كيلومترين. بالإضافة إلى التسبب في الدمار المروع على نطاق إقليمي أو شبه قارِّي، فإن وصول جرم كوني بهذا الحجم من شأنه أن يؤثر على كوكب الأرض بأسره عن طريق توليد فترة صقيع ونقص في نمو النبات. فإذا كان قطر الجرم الذي سيصطدم بالأرض يفوق كيلومترين، فإن تبعات اصطدامه على النظم الإيكولوجية للكوكب تشتد تدريجيًّا إلى أن يحدث الانقراض الشامل فيمحو نسبة كبيرة من جميع أنواع الكائنات الحية. والجرم الكوني الذي بلغ قطره ١٠ كيلومترات، والذي ضرب الأرض قبالة الساحل المكسيكي في نهاية العصر الطباشيري قبل ٦٥ مليون سنة، لم يؤدِّ فقط إلى انقراض الديناصورات، لكنه أنهى كذلك وجود ثلثَي جميع أنواع الكائنات الحية التي كانت موجودة في ذلك الوقت. ومما يثير الإزعاج أكثر هو أن هناك أدلة على أن اصطدامًا كبيرًا وقع في نهاية فترة العصر البرمي قبل نحو ٢٥٠ مليون سنة، لم يُبْقِ على قيد الحياة من أنواع الكائنات الحية سوى ما يقل عن ١٠ بالمائة. وفي الإجمالي، ربط العلماء ٧ على الأقل من أصل ٢٥ عملية انقراض كبرى في السجل الجيولوجي للأرض بأدلة على حدوث اصطدامات كبيرة، مع أن هناك — كما ذكرت في الفصل السابق — مدرسة فكرية تقلل من أهمية التبعات البيئية لأحداث الاصطدام، وتفضل أن تُرجِع حالات الانقراض الكبيرة تلك إلى التدفقات الهائلة للحمم البازلتية.
ترتبط القدرة التدميرية لكتلة صخرية تندفع داخل كوكب الأرض ارتباطًا مباشرًا بالطاقة الحركية التي تحملها، وهذا لا يعكس فقط حجم الجسم، بل وسرعة الاصطدام أيضًا. ولأن ما يُسَمَّى بمُذَنَّبات الفترة الطويلة — التي تحملها مداراتها بعيدًا إلى فضاء ما بين النجوم — تتحرك بسرعة فائقة، فإن الاصطدامات الخاصة بها تسبب قدرًا من الدمار أكبر من الذي تسببه الكويكبات القريبة من الأرض أو المذنبات المحلية التي تتحرك في مدارات مقتصرة على مركز النظام الشمسي. علاوةً على ذلك، فإن طبيعة الدمار الحادث وحجمه يعتمدان على ما إذا كان الجرم سيصطدم باليابسة أم الماء. الماء يغطي ثلثَي سطح كوكبنا؛ لذلك فمن الناحية الإحصائية ستكون أغلب ضربات الكويكبات والمذنبات في المياه. في مثل هذه الحالات، يمكن تقليل كمية الصخور المفتتة التي تندفع إلى الغلاف الجوي، مقارنةً بما يحدث في حالة الاصطدام باليابسة. ومع ذلك، قد لا يظهر أثر هذه الفائدة الضئيلة أمام تكوُّن موجات تسونامي عملاقة قادرة على أن تعيث فسادًا في مختلِف أنحاء المحيط. وعلاوةً على ذلك، قد تؤثر كميات الماء والملح الهائلة والمندفعة إلى الغلاف الجوي كثيرًا على المناخ، بل وقد تقضي مؤقتًا على درع الأوزون الذي يحمينا. ومعظم الأدلة عن الآثار البيئية للاصطدامات تأتي من دراسات أُجريت على حدثَين اثنين فقط؛ أحدهما صغير والآخر مهول.
عام ١٩٠٨، اخترق كويكب صغير — يقدَّر قطره بنحو خمسين مترًا — الغلاف الجوي للأرض، وانفجر على ارتفاع أقل من ١٠ كيلومترات فوق سطح سيبيريا في منطقة معروفة باسم تونجوسكا. وسُمع صوت هذا الانفجار الضخم — الذي استنفد طاقة تعادل تقريبًا ٨٠٠ قنبلة ذرية من نوعية القنابل التي أُلقيتْ على هيروشيما — على مساحة تعادل أربعة أضعاف مساحة المملكة المتحدة، وأتى على مساحة تفوق ٢٠٠٠ كيلومتر مربع من الغابات المكتملة النمو فسوَّاها بالأرض. ومن فرط قوة الانفجار، التقطته أجهزة سيسموجراف (مقياس الزلازل) تبعد عنه آلاف الكيلومترات، والتُقطت موجة الصدمة الناجمة عنه مرارًا وتكرارًا بواسطة أجهزة الباروجراف (راسم الضغط الجوي) أثناء مرورها ثلاث مرات حول الكرة الأرضية قبل أن تتلاشى. وبسبب الغاز والغبار الناتجَين عن ذلك الانفجار، أضاءت سماء الليل في أوروبا على نحوٍ لا مثيل له، حتى إن أحد التقارير المعاصرة ذكر أن هذا الضوء كان يكفي لممارسة لعبة الكريكيت في لندن بعد منتصف الليل. وبسبب تعذُّر الوصول إلى تونجوسكا، فإن أول بعثة روسية إلى هناك لم تصل إلا بعد مرور رُبع قرن على وقوع الانفجار، وحينها أصابت الحيرة ليونيد كوليك وفريقه؛ إذ لم يعثروا على الحفرة الكبيرة التي كانوا يتوقعون أن يجدوها؛ فبدلًا منها وجدوا رقعة دائرية من أشجار بلغت درجة عالية من التفحم على مساحة ٦٠ كيلومترًا، شكَّلها الانفجار الهوائي حين تفككت الصخور تفككًا انفجاريًّا بسبب الضغوط الهائلة الناجمة عن دخول الجرم الغلاف الجوي. ونظرًا لندرة السكان في تلك المنطقة؛ كانت الخسائر في الأرواح ضئيلة، فلقي عدد قليل مصرعه، بينما أصيب نحو عشرين شخصًا، وإن كانت التقارير مقتضبة لأسباب يمكن تفهُّمها. ولكن لو تأخر ذلك الاصطدام أربع ساعات لكانت الأرض قد دارت بما يكفي لجعل مدينة سان بطرسبرج الكبرى في نطاق الاصطدام بالكويكب، ولكانت النتيجة مفجعة.
يتضاءل حجم حادثة تونجوسكا مقارنةً بما حدث قبالة ساحل شبه جزيرة يوكاتان في المكسيك قبل ذلك الوقت بخمسة وستين مليون سنة؛ حيث اصطدم كويكب أو مذنَّب — فطبيعة الجرم السماوي غير مؤكدة — قطره ١٠ كيلومترات بالمياه فغيَّرَ وجه العالم إلى الأبد. في غضون أجزاء من الثانية، أطلق انفجارٌ لا يمكن تصوُّره قدرًا من الطاقة يعادل ما تطلقه مليارات من قنابل هيروشيما إذا انفجرت في آنٍ واحد، ونشأت عنه كرة نارية عملاقة أكثر سخونة من الشمس بخَّرت المحيط وتركت في قشرة الأرض فوهة قطرها ١٨٠ كيلومترًا. انطلقت موجات الصدمة صعودًا لتمزق الغلاف الجوي وتطلق أكثر من مائة تريليون طن من الصخور المنصهرة في الفضاء، التي سقطت بعدها على الأرض. وفي لمح البصر سُويَّت مساحة تفوق مساحة أوروبا بالأرض، وأُبيدَ كل ما عليها من أشكال الحياة، في حين هزت الزلازل الضخمة أرجاء الكوكب. وقد أطلق الغلاف الجوي أصوات انفجارات مدوية تزامنًا مع قيام أعاصير عملاقة — تفوق في قوتها أعتى الأعاصير بمقدار خمس مرات — بتمزيق الأرض، مصحوبة بأمواج تسونامي عاتية ضربت سواحل على بُعد عدة آلاف من الكيلومترات.
لم يكن الأسوأ قد حدث بعد. عندما بدأت الصخور التي قُذِف بها في الفضاء بقوة خارقة تعود لتنهمر على جميع أنحاء الكوكب، تسببت الحرارة المتولدة عن عودة تلك الصخور إلى الغلاف الجوي في توهج السطح وشيِّ الحيوانات حيةً وكأنها وُضعت في أحد الأفران، واندلعت حرائق كبيرة دمرت غاباتِ العالم ومراعيَه، وحوَّلت ربع الموارد المعيشية إلى رماد. حتى عندما استقر الغلاف الجوي والمحيطات، وتوقفت قشرة الأرض عن الاهتزاز، وتوقف قصف الحطام من الفضاء، لم تكن النهاية قد حانت بعد؛ ففي الأسابيع التالية، حجب الدخان والغبار الموجودان في الغلاف الجوي الشمسَ لتنخفض درجات الحرارة بنسبة تصل إلى ١٥ درجة مئوية. وفي ظل الظلام المتزايد والبرد القارس ذوت الحياة النباتية، بينما تضورت الديناصورات الباقية التي تقتات بالعشب جوعًا. ولم تكن الحياة في المحيطات أفضل حالًا؛ إذ امتلأت المحيطات بالسموم الناجمة عن حرائق الغابات العالمية والمطر الحمضي الناتج عن الكميات الهائلة من الكبريت التي تُضخ في الغلاف الجوي من الصخور في موقع الاصطدام، فانمحى ثلاثة أرباع الحياة البحرية. وبعد سنوات من الصقيع، انقشعت في نهاية المطاف العتمة التي تلت اصطدام تشيككسولوب — كما أُطلق عليه — لتكشف عن شمس حارقة من بين فتحات في طبقة الأوزون الممزقة بسبب التفاعل الكيميائي لأكاسيد النيتروز المتكونة داخل الكرة النارية التي نتجت عن الاصطدام؛ وهكذا حلَّ «ربيع فوق بنفسجي» — في أعقاب شتاء كوني — فأحرق الكثير مما تبقى من الكائنات الحية التي كانت تصارع من أجل البقاء على قيد الحياة. كان اختلال التوازن الطبيعي للأرض هائلًا؛ إذ يقول البعض إن الأرض بعد اصطدام تشيككسولوب ربما تكون قد استغرقت مئات الآلاف من السنين للعودة إلى وضعها الطبيعي. وعندما حدث ذلك، كان عصر الزواحف الكبرى قد انتهى، تاركًا المجال أمام الثدييات البدائية — أسلافنا الأوائل — وفاتحًا ممرًّا تطوريًّا بلغ ذروته بظهور الجنس البشري. ولكن هل يمكن أن نستمر بالطريقة بنفسها؟ لتقييم الاحتمالات في هذا الشأن دعونا نُلقِ نظرة فاحصة على القوة التدميرية لأحد أحداث الاصطدام.
في تونجوسكا، كانت الحرارة الهائلة المتولدة عن الانفجار أحد أسباب تدمير الغابات، لكن السبب الرئيسي كان موجة الانفجار التي أوقعت الأشجار وسوَّتها بالأرض. وتتوقف قوة هذه الموجة الانفجارية على ما يُسَمَّى «الضغط الزائد الذُّروي»، وهو الفرق بين الضغط البيئي وضغط موجة الانفجار. ولكي يُحدِث هذا الضغط دمارًا هائلًا، لا بد أن يتجاوز أربعة أرطال لكل بوصة مربعة، وهو ضغط زائد يجعل سرعة الرياح تفوق ضِعف قوة الرياح التي عادةً ما تصحب الأعاصير. قد تُسبب الضغوط الزائدة الهائلة التي تتولد عن انفجار جرم كوني قطره ٥٠ مترًا على ارتفاعٍ منخفضٍ ضررًا يشبه انفجار قنبلة نووية كبيرة جدًّا، وينسف كل شيء تقريبًا يقع في نطاق الطريق الدائري المحيط بإحدى المدن، حتى ولو كانت هذه الضغوط ضئيلة مقارنةً بمساحة مثل مساحة لندن. ولو زاد حجم الجرم الذي سيصطدم بالأرض لصارت الأمور أسوأ بكثير جدًّا؛ فكويكب قطره ٢٥٠ مترًا فحسب قادر على اختراق الغلاف الجوي وتكوين حفرة قطرها ٥ كيلومترات، وتدمير مساحة تقارب ١٠ آلاف كيلومتر مربع؛ أي ما يعادل مساحة مقاطعة كينت الإنجليزية. وإن زاد قطر الكويكب إلى ٦٥٠ مترًا، تزداد المساحة المعرضة للدمار إلى ١٠٠ ألف كيلومتر مربع؛ أي ما يقارب مساحة ولاية ساوث كارولاينا الأمريكية.
بالرغم مما يثيره كل هذا من فزع، فإنه لن يكون كافيًا ليؤثر على الكوكب بأسره. فلِكي يكون للجرم الذي سيصطدم بالأرض ذلك الأثر العالمي، لا بد أن يكون قطره ١٫٥ كيلومتر على الأقل إذا كان من المذنبات الأكثر سرعة، أو يكون قطره كيلومترين إذا كان من الكويكبات الأقل سرعة. قد يولِّد الاصطدام بأحد هذه الأجرام انفجارًا يعادل انفجار ١٠٠ ألف مليون طن من مادة تي إن تي الشديدة الانفجار، وهو ما قد يمحو من الوجود مسافة ٥٠٠ كيلومتر — أي ما يساوي مساحة إنجلترا مثلًا — وأن يقتل على الفور ربما عشرات الملايين من البشر حسب موقع الاصطدام.
سرعان ما ستواجه بقية العالم المشكلات الحقيقية، وذلك حين يبدأ الغبار الموجود في الغلاف الجوي في إظلام السماء وخفض مستوى ضوء الشمس الذي يصل إلى سطح الأرض. وبالمقارنة مع اصطدام تشيككسولوب الضخم، من المؤكد أن هذا سيؤدي إلى انخفاضٍ كبير في درجات الحرارة العالمية، لكن لم يُجمع العلماء على مدى السوء الذي سيكون عليه هذا الأمر. ومع ذلك فهناك احتمالات أن اصطدامًا بهذا الحجم من شأنه أن يؤديَ إلى ظروف جوية مروعة وتلفٍ للمحاصيل لا يقل حدة عما جرى في العام الذي أطلق عليه العلماء «عام بلا صيف»، والذي أعقب ثورة بركان تامبورا عام ١٨١٥ في إندونيسيا. وكما ذكرنا في الفصل السابق، فمع احتفاظ البلدان المتقدمة نفسها بطعام يكفي سكانها لمدة شهر فقط أو نحو ذلك، لا شك أن تلف المحاصيل على نطاق واسع في جميع أنحاء العالم سيكون له تداعيات خطيرة. من المرجح أن تكون النتيجة هي الترشيد على أقل تقدير، بينما تكون أسوأ السيناريوهات المتوقعة حدوث خلل واسع النطاق في النسيج الاجتماعي والاقتصادي للدول المتقدمة. أما في دول العالم النامي حيث تسود زراعة الكفاف، فسرعان ما سيسفر تلف المحاصيل على نطاقٍ واسعٍ عن مجاعة عارمة. ويتوقع بعض الباحثين أن ما يصل إلى رُبع سكان العالم سيقعون فريسة لمناخ متدهور في أعقاب اصطدام جرم كوني قطره كيلومتران بكوكب الأرض. وإذا زاد حجم الجرم عن هذ الحجم، فسيتوقف التمثيل الضوئي تمامًا. ما إن يحدث ذلك، لن تكون المشكلة في عدد من سيلقَوْن حتفهم من البشر، بل في بقاء الجنس البشري على قيد الحياة من الأساس. وفقًا لأحد التقديرات، فإن اصطدام الأرض بجرم كوني قطره ٤ كيلومترات فقط من شأنه أن يضخ إلى الغلاف الجوي كميات من الغبار والحطام تكفي لتقليل مستويات الضوء أدنى من المستوى المطلوب لإتمام عملية التمثيل الضوئي.
ولأننا ما زلنا نجهل عدد الأجرام التي تهدد الأرض، ونجهل ما إذا كانت ستأتي على فترات قصيرة أم لا، يكاد يكون من المستحيل القول متى سيضرب الأرض كويكب أو مذنَّب يسفر عن نهاية العالم الذي نعرفه. إن أحداث الاصطدام التي تكون بحجم اصطدام تشيككسولوب الذي أفنى الديناصورات لا تقع إلا كل عشرات الملايين من السنين؛ ولذلك نجد أنه في أي سنة من السنين ستكون فرص حدوث ذلك ضئيلة. ومع ذلك فإن أي تفاؤل تضعفه حقيقة أن السرب القادم من مذنبات سحابة أورت ربما يسرع الآن نحو النظام الشمسي الداخلي؛ ذلك إذا افترضنا صحة فرضية شيفا. وإذا لم يحدث ذلك، فقد يكون أمامنا ألف سنة أخرى فحسب قبل عودة الجزء الكثيف من «التجمع الثوري» وحدوث اصطدام كويكبي آخر. حتى لو اتضح أنه ليس هناك تلازم في توقيت أحداث الاصطدام، فمن الناحية الإحصائية ليس هناك سبب يمنع اصطدام كوكبنا بكويكب قريب منه لم يُكتشف بعدُ أو بمذنَّب طويل الأمد لم يسبق له دخول النظام الشمسي الداخلي. أما الأجرام التي تصطدم بالأرض وتكون بحجم جرم تونجوسكا فإنها تشكل خطرًا أقل؛ لأن اصطداماتها المدمرة صغيرة مقارنةً بمساحة سطح الأرض. وسيكون من سوء الحظ لو ضرب أحد هذه الأجرام منطقة حضرية؛ إذ سيسقط معظمها في البحار. قد يبدو هذا أمرًا جيدًا، لكن اصطدام جرم كوني أكبر حجمًا بالمحيط سيكون كارثيًّا؛ فإذا سقطت صخرة قطرها ٥٠٠ متر في حوض المحيط الهادي على سبيل المثال، فستولد موجات تسونامي عملاقة من شأنها أن تسفر عن أضرار جسيمة في كل مدينة ساحلية تقع في نصف الكرة الأرضية في غضون عشرين ساعة أو نحو ذلك. واحتمالات حدوث ذلك مرتفعة جدًّا — نحو ١ بالمائة خلال السنوات المائة المقبلة — وقد يبلغ عدد القتلى حينها عشرات الملايين وربما أكثر.
تشير أحدث التقديرات إلى أن اصطدام الأرض بجرم قطره ١ كيلومتر يتكرر كل ٦٠٠ ألف سنة، لكن أحدث فوهة اصطدام سبَّبها جرم كوني بهذا الحجم يبلغ عمرها ما يقرب من مليون سنة. وبالطبع، ربما حدث العديد من الاصطدامات الكبيرة منذ ذلك الحين، لكنها إما حدثت في البحر وإما لم يعثر العلماء حتى الآن على موضعها على اليابسة. لعلك الآن تقول إنه من الواضح أن هناك خطرًا، لكن هل يلوح أي شيء في الأفق؟ الواقع أن الجواب هو «نعم». هناك نحو اثني عشر كويكبًا — صغيرة جدًّا في الغالب — من المرجح أن تصطدم بكوكب الأرض قبل عام ٢١٠٠. لكن من الناحية الواقعية، هذا ليس مرجحًا؛ إذ إن الاحتمالات القائمة لا تتخطى كثيرًا نسبة ١ في العشرة آلاف، لكن ضع في الاعتبار أن هذا احتمال ليس بالقليل. أكثر ما يثير القلق هو كويكب إم إن ٤ القريب من الأرض، والذي يبلغ قطره ٣٢٠ مترًا، والمكتشَف في أواخر عام ٢٠٠٤، وسُمي مؤخرًا باسم «أبوفيس»، وهو الاسم اليوناني للإله المصري أبيب بمعنى المدمِّر. في مرحلةٍ ما كان يُعتقد أن احتمال ضرب أبوفيس للأرض في الثالث عشر من أبريل من عام ٢٠٢٩ يساوي ١ في ٣٧. والآن صار ذلك الاحتمال ١ في ٨٠٠٠، وهو ما يبعث على الشعور بالارتياح. ومرة أخرى، قد تبدو هذه احتمالات بعيدة، لكنها في الواقع تفوق بواقع ٨٠ مرة فحسب توقعات صيف ٢٠٠١ بفوز إنجلترا على ألمانيا ٥-١ في لعبة كرة القدم. قبل بضع سنوات، وضع العلماء مؤشرًا يُعرف باسم مقياس تورينو يُستخدم لقياس خطر الاصطدامات، وحتى الآن فإن أبوفيس هو أول جرم كوني يسجل على هذا المقياس قيمة أكبر من الصفر ويحافظ عليها. وفي الوقت الحاضر يسجل أبوفيس درجة واحدة فقط على هذا المقياس؛ ومن ثَمَّ يُعرف بأنه «حدث يستحق الرصد الدقيق». وهذا الجرم الكوني محور اهتمام كبير مع استمرار الجهود لتقييد مداره بصورة أفضل، ومن الممكن تمامًا — عندما نكتشف المزيد عنه — أن يرتفع تقييمه عن واحد على مقياس تورينو، فيصبح «حدثًا يستحق القلق إزاءه». ومع ذلك فإنه من المستبعد كثيرًا أن يرتفع تقييمه عن ذلك، ودعونا نأمل أن تنقضيَ سنوات عديدة قبل أن نرى جرمًا من الفئة الأولى يسجل عشر درجات على ذلك المقياس، وهو ما يعني «حادث تصادم مؤكد ذي تبعات عالمية». إن توافرت لنا علامات إنذار كافية، فقد يتسنَّى لنا دفع أحد الكويكبات بعيدًا للخروج من طريقه إلى الأرض، لكن الأمر يختلف مع المذنبات الجديدة التي تتجه نحونا؛ نظرًا لحجمها وسرعتها الكبيرة وظهورها المفاجئ.
حقائق مثيرة للقلق
-
يقترب نحو ١٠٠٠ كويكب — أو أكثر — قطره ١ كيلومتر أو أكثر بانتظام من مدار الأرض أو يعبره، وسينهي نحو ثلث تلك الكويكبات حياته بالاصطدام بكوكبنا.
-
قد يودي اصطدام جرم كوني قطره كيلومتران بالأرض بحياة رُبع سكان العالم.
-
قد لا نحصل إلا على فترة تحذيرية مدتها ستة أشهر قبل اصطدام أحد المذنبات بالأرض في المستقبل.
-
يضرب كويكب كبير بما يكفي لتدمير لندن، أو نيويورك، أو باريس الأرضَ كل عدة قرون.
-
ربما تكون الاصطدامات التي وقعت قديمًا قد قضت على ما يصل إلى ٩٠ بالمائة من جميع أشكال الحياة على الأرض.
-
هناك احتمال واحد بالمائة أن يضرب جرم كوني قطره ٥٠٠ متر المحيط الهادي في السنوات المائة المقبلة.
-
يرى البعض أننا قد ننتظر نحو ألف سنة أخرى قبل أن يتلقى كوكبنا ضربة أخرى من الفضاء.