أمراء العائلة الملكية
(١) ترجمة الأمير عمر طوسون باشا
حضرة صاحب السمو الأمير عمر طوسون.
ولد الأمير عمر بن طوسون بن سعيد بن محمد علي الكبير بمدينة الإسكندرية في ٨ سبتمبر سنة ١٨٧٢م، وفي السنة الرابعة من عمره توفي والده فكفلته جدته لأبيه خير كفالة، وعنيت بتربيته هو وإخوته وأخواته أجل عناية فنبت نباتًا حسنًا، وشب على الكمال خَلْقًا وخُلُقًا. ودرس مبادئ العلوم على أساتذة قصر والده إلى أن بلغ الحلم فنزح إلى سويسرا ودرس فيها دراسة مستفيضة. ولما تخرج تاقت نفسه إلى السياحة، فرحل إلى إنجلترا وفرنسا باحثًا مدققًا معتبرًا بما هنالك من تقدم اجتماعي وعلمي وصناعي وزراعي، ثم قفل إلى الديار المصرية حاملًا بين جنبيه همة علية ونفسًا زكية وقلبًا ألمعيًّا وأدبًا عبقريًّا. وهو يجيد اللغات التركية والعربية والفرنسية والإنجليزية قراءة وكتابة، ويشارك في مختلف العلوم مشاركة تدل على سمو مداركه. وسعة معارفه وقد نال من الرتب والوسامات المصرية أسماها وأعلاها. واقترن بإحدى كريمات الأمير حسن باشا بن الخديوي إسماعيل، فرزقه الله منها النجباء والنجيبات من البنين والبنات، وسعادتهم بتثقيفه وتعليمه لهم تتفق مع سعادة طالعهم. وتبشر بأنهم سيطلعون نجوم سماء ويسطعون كواكب علاء.
ومنذ بلغ أشده جعل نصب عينيه أن يقبض يومًا على زمام دائرته ويدير شؤونها بنفسه. فانكب على التمرن وكان من وقت لآخر يطوف بمزارعه الواسعة وينعم النظر في كتب الفلاحة، ويعنى بالوقوف على أسرارها وأصولها العملية. كما يعنى إذا رجع إلى ديوان دائرته بالشؤون الإدارية والمالية. ولما كملت أهليته تولى أمره بنفسه وقد أصبح الآن ممن يشار إليهم بالبنان في سعة الإطلاع على المعارف الزراعية والمعاملات المالية. وعهدت إلى إدارته بعد دائرتين من أكبر الدوائر وهما دائرة الأمير حسن باشا وزوجه الأميرة خديجة هانم، ودائرة الأمير محمد إبراهيم فتبرع بإدارة شؤونهما غيرة منه على مصالح المستحقين فيها من أبناء أسرته الكريمة، وأبي أن يأخذ على ذلك أجرًا، وطالما كلفه الطواف على مزارع الدائرتين ورعاية مصالحهما مالًا. فتأبى نفسه الكريمة إلا أن يكون على حسابه الخاص. فهو يضحي بالكثير من وقته وماله في سبيل منافع بعض أعضاء أسرته شأنه في محبة الخير، وإسداء النصيحة إلى القريب والبعيد. وقد بلغت الدوائر الثلاث بحسن إدارته أعلى مكانة. وغدا مركزها المالي ثابتًا على أقوى الدعائم، ونهضت بها عزيمته نهضة جعلتها في مقام رفيع.
ومن وقف على حياة الأمير عجب أشد العجب من انكبابه على العمل دون سآمة أو ملل، فهو مع أعمال الدوائر العظيمة لا ينقطع عن القراءة والدرس في مكتبته الحافلة بالنفائس. وله غرام باقتناء كتب التاريخ والوقوف على آثار الأقدمين، ولا يخلو الكثير من أيامه من النظر في شأن هام، أو دعوة لاكتتاب، أو رئاسة جمعية كما لا يخلو شهر من سفره إلى ضياعه مرة أو أكثر. وقد يبقى في الأرياف أسبوعًا لمشارفة الأعمال الجارية في أراضيه وأراضي الدائرتين الموكولتين إليه.
والأمير بعيد بفطرته السليمة وتربيته القديمة عما يغضب الله وهو يكره الخمر، ويكره شاربيها ويعاقب من يعلم أنه يشربها من موظفيه أشد العقاب. ويجل الإسلام وأوامره. وإيمانه بالله عظيم، واعتقاده فيه راسخ. يعجبه من الناس الصدق والإخلاص ويقربهم إليه أكثر مما يقربهم جاههم ومناصبهم. ومحبته للمصريين تعدل محبتهم له وهم في نظره سواء لا فرق بين مسلمهم ومسيحيهم. وكثير من موظفي دوائره من الأقباط وبينهم من بلغوا مراكز سامية. وتولوا المناصب العالية عنده، وفيهم سوريون وأجانب، وهو شرقي في ميوله، ويعتبر أن أكبر جزاء له من الأمة المصرية على التفاته السامي نحوها، وعنايته التي يظهرها في ظروف مختلفة لصالحها، هو ذلك الحب الخالص الذي يتجلى لسموه في غدوه ورواحه، وعند كل فرصة تمكنها من إظهار ما تكنه لشخصه المحبوب. وفي أيام المظاهرات الوطنية الكبرى كان يقف الجمع المحتشد تحت شرفات دائرته هاتفًا له داعيًا. ولا ينصرف حتى يطل سموه عليهم ويحييهم. وكذلك حالهم معه في كل مشهد واحتفال.
بعض مآثر الأمير وميراثه
لا ينتظر القارئ أننا نحصي له مبرات الأمير وأعماله العظيمة في هذه العجالة وإنما سبيلنا في ذلك أن نلمع إلى بعضها إلماعًا، ونذكر ما حضرنا منها؛ ليقاس عليه ما غاب عنا فكرمه الواسع لا تحضرنا عبارة تفي بالإفصاح عنه خصوصًا إذا أهابت بجدواه دواعي البذل، ونزلت بالناس سنو الشدائد فهناك تتجلى أريحيته للعطاء، ويكون بأياديه الجسام أندى كفًّا من الغمام وأسخى راحة من السحاب الماطر، والبحر الزاخر، فالحرب الطرابلسية إنما كانت مادتها ماله، ولو لم يسعفها بمعونته وجاهه ومبرته لما أمكن أهلها الدفاع عن حوزتهم بضعة أشهر، وكذلك حرب البلقان التي شبت نارها على أثر حرب طرابلس فقد أقر فيها عين الدولة والملة، ورأس لجنة الإعانة في مصر فلبته الأمة والتفت حوله، وألف اللجان في المديريات والبلدان وكان يستندي الأكف بنفسه، ويخطب الخطب الرنانة في المشاهد الحافلة بالأمراء والأعيان، فيجري النضار بين يديه سيلًا متدفقًا وهو يبعث به إلى الدولة تباعًا.
ولقد عرفت الدولة العثمانية مواقفه العظيمة لها في مواطن كثيرة خصوصًا في هاتين النازلتين، وفي جمعية الهلال الأحمر، وأرادت أن تكافئه بالوسامات والرتب بل والولايات فأبى شاكرًا، وقال: إني لم أفعل غير الواجب وليس على الواجب جزاء.
وغرضه الأقصى من أعماله هذه إحياء عاطفة التعاون والتعاضد بين الشرقيين، وإحكام روابط الألفة والاتحاد التي تقويهم لعلمه أنهم إذا لم يتمسكوا بهذه العروة الوثقى فقد ذهبت ريحهم.
والأيام تبين عن كثب صدق ما يرى وليس أصدق من عبر الدهر وحوادثه، وهذا هو مذهبه السياسي للشرقيين عامة، ورأيه أنهم لو عملوا بهذا المبدأ، مبدأ التضامن، ما تخطفتهم ذئاب الغرب، ولا التهمت بلدانهم واحدة تلو الأخرى، وطالما مد يد المساعدة للدولة في ظروف مختلفة فقد حدث حريق هائل في الأستانة وحدث مثله في الشام ومصر في وقت واحد، فأعمل همته وجمع للمصابين في البلدان الثلاثة مبالغ ذات بال نفست من خناقهم، وأزالت بعض كربتهم، ولم ننس تبرعه للأسطول العثماني والطيارين العثمانيين، واحتفاله بهم في مضمار الإبراهيمية من رمل الإسكندرية في يوم مشهود.
ومن مآثره الغراء عوله لجماعة البخاريين الذين سدت عليهم الحرب الأوربية الكبرى طريق الوصول إلى بلادهم، بعد أدائهم فريضة الحج، فقد كفاهم ببره معرة السؤال والتكفف أكثر مدة هذه الحرب المشئومة، وحاطهم بمعروفه في ستر وكفاية، حتى تمول منهم المعدم واشتغل العاطل وفتحت في وجوههم الطريق إلى غير ذلك من المكارم، التي تعفر في وجه حاتم وتنسينا ذكر الغيث الركام، وتعيد لنا ذكرى الأجواد في سالف الأيام. ولما تمخضت الحرب الكبرى عن انتصار الحلفاء، واقتطاعهم أكثر الولايات العثمانية، واحتلالهم عاصمة الخلافة وانحازت فلول الجيش التركي، وعلى رأسها مصطفى كمال باشا إلى داخل الأناضول، يدافعون عن البقية الباقية من بلادهم وهم خلو من المال والسلاح، أهاب هذا الأمير الكبير بالمصريين فلبوه مسرعين إلى معاضدة هؤلاء الأبطال ومساعدتهم بالمال، ونهجت الأمم الإسلامية وخصوصًا الهنود هذا السبيل مقتفين أثره في هذا العمل الإنساني، الذي بيض وجه مصر وعطر الخافقين بذكرها.
وقد دامت هذه المعونة ثلاث سنوات متواليات، وهي تتدفق على الأناضوليين من غيث جوده سيلًا منهمرًا حتى فازوا على اليونان وأخرجوهم مدحورين من بلادهم، ثم استمرت وما زالت لإعالة أيتام الأناضول إلى أن توارى شبح الموت والجوع عن أعينهم.
ولكن بعد أن تم الفوز للكماليين ثملوا بخمر الانتصار، وقلبوا السلطة العثمانية جمهورية على رأسها مصطفي كمال، ثم تمادى بهم السير في هذا الطريق، فألفوا الخلافة وأخرجوا الخليفة عبد المجيد وسائر أسرة آل عثمان مشردين في الممالك الأجنبية، مجردين مما يقوم بأود معيشتهم فظهر بطل الإسلام مرة أخرى في ميدان العمل، وأثارت هذه الكوارث نخوته المعروفة فقام يدافع عن مقام الخلافة المقدس، ويذود يد الدهر عن هذه الأسر الكريمة، وألف جمعية لإمداد الخليفة عبد المجيد، وأمراء البيت العثماني وأميراته كان أول مدد لها أرسل إليهم أربعة آلاف جنيه.
أما أعماله لمصر والمصريين فهي أجل وأعظم فبابه مجمع العفاة، ومزدحم الواردين والصادرين عن ذلك المنهل العظيم، وسدته قبلة عرائض أولي الحوائج وكعبة آمال ذوي الخلة من الفقراء والمستورين، وهو يسعهم بفضله، ويعمهم بثيبه، وموظفو الدوائر من أياديه في بحر خضم، فهو الذي يواسيهم في مرضهم وفي موتاهم، ويعينهم في زواجهم وفي ولادة أولادهم وختان ذكورهم، وقد رتب لهم نطس الأطباء وتبرع لهم بما يحتاجون إليه من الدواء، وهو الذي يمون بيوتهم بالغلال منذ بداية الحرب ومدارسه لأبناء الفلاحين في ضياعه العامرة، وأبناء الموظفين فيها تعلمهم بدون أجر مبادئ العلوم، وتصرف لهم أدوات الدراسة كلها بغير مقابل.
وذلك غير إقامته للمساجد فيها وتعليم موظفيه عامة على نفقاته علوم اللغة العربية في دروس يومية تعطى لهم عقب فراغهم من أعمالهم، وإعطائه الجوائز السنية للناجحين في امتحانها كل عام، وقد يرى في بعض هؤلاء نجابة فيعينه على تتميم دراسته، ومن أبناء الموظفين وغيرهم من بعث بهم إلى مدارس أوربا العالية على مصاريفه لامتيازهم بالنبوغ، ولا يزال بعضهم فيها إلى الآن.
وأعطياته لمعاهد العلوم، والجمعيات الخيرية، لا تدخل تحت حصر نذكر منها تلك الهبة الجليلة التي نفح بها جمعية العروة الوثقى، وجمعية المواساة على أثر رجوعه الأخير من أوربا، فقد وهبهما من أجود أطيانه ما جعل الألسنة تنطق بشكره عليه، وكم وهب هاتين الجمعيتين والملجأ العباسي هبات أخرى جزيلة سابقة ولاحقة في ظروف متعددة، وله في مشيخة العلماء بالإسكندرية كل مأثرة جميلة، فمنها عطاياه لترقية المتعلمين بها، وهباته لمكتبتها وأننا نثبت أبياتًا من قصيدة لفضيلة الشيخ إبراهيم سليمان أحد شيوخهم تلاها بين يدي سموه على أثر عطية من تلك العطايا، وقد جاءه منهم وفد شكر تحت رئاسة شيخهم إذ ذاك وهو الأستاذ الأكبر الشيخ محمد أبو الفضل شيخ الجامع الأزهر الآن وهي.
ومن شكر العروة الوثقى لسموه أنها سمت مدرستين من مدارسها إحداهما للبنات والأخرى للبنين باسمه الكريم، والدار التي فيها مدرسة البنين موهوبة لها من سموه، ومن أفضل أياديه المشكورة إيعازه لجمعية المؤاساة التي يرأسها سموه رئاسة شرف بتوزيع مقدار كبير من الدقيق على فقراء الإسكندرية، عندما اشتدت الضائقة بهم، وخلت الأسواق أو كادت من هذه المادة الضرورية للحياة.
وقد أخذ يعضد مشروع الكشافة الآن لعلمه بما فيه من الفوائد الجلية للبلاد، فلقب عن جدارة من جمعية الكشافة بالإسكندرية بلقب «الكشاف الأعظم»، بعد أن جعلها تحت رعايته العالية.
وإذا لم تقم في وجه هذا المشروع الجليل عقبات، فسيبلغ بجميل رعايته مبلغًا عظيمًا، ويجني شبان مصر منه نفعًا عميمًا.
أما أعماله العامة فلا تكاد تجد مشروعًا نافعًا ظهر تحت سماء مصر إلا وله فيه يد بيضاء، ومن ذلك تعضيده للمعارض الزراعية، واشتراكه في الاكتتابات لإحياء العلم، وتشجيع المشروعات الأهلية، وبلغ به هذا التعضيد أن تنازل واشترك مع الإسكندريين بخمسمائة سهم في جمعية المشروعات الأهلية، وكان غرضها تجاريًّا محضًا ولما كان الكثير من أعماله العظيمة واقعًا تحت أعيننا، وهو كل يوم يتجدد فلا حاجة بنا إلى عده، وإنما نذكر هنا إعانته «الوفد المصري» إلى مؤتمر فرساي بعشرة آلاف جنيه، وبهذه المناسبة نذكر أن سموه هو أول من ألقى في أذن رئيس الوفد «سعد زغلول باشا» هذه الفكرة، عندما وضعت الحرب أوزارها، وأول من أراد جمع المصريين عليها بدعوة صدرت منه فعلًا في يوم معين، ونشرت في الجرائد ولكن الظروف حالت دون هذا الاجتماع.
ومما لا يفوتنا ذكره اكتتابه في لجنة الأمراء التي صرفت جل مالها في تخفيف الويلات، التي نتجت عن ضحايا المظاهرات، ولم يكتف حفظه الله بذلك بل دعا الإسكندرية إلى مثل هذا العمل؛ ليكون خاصًّا بضحايا المظاهرات في الإسكندرية وحدها وكان لهم نعم القدوة الحسنة، وشأنه في انضمام الأمراء إلى بقية الأمة في نهضتها الوطنية الأخيرة والمطالبة بالاستقلال التام مشهور معلوم.
ومما نذكره لسموه مقرونًا بالشكر والإعجاب دعوته في الصحف للمصريين عامة إلى مد يد المساعدة للجمعية الخيرية الإسلامية، وتقدمهم إلى الاكتتاب لها بمبلغ خمسة آلاف جنيه، بمجرد ما علم سموه بحاجة الجمعية إلى المال، واستصراخها لذوي البر والإحسان، فكان أول الملبين وإمام المحسنين.
والغرض الأقصى لي من ذلك أن أشرف على مضمار للخير في مصر بين الأخوين الشقيقين «المسلم والقبطي» تتسابق فيه العزائم، وتتبارى الهمم، لأنظر إلى أية غاية يجري الأخوان المتباريان، وأيهما يحرز قصبات السبق في هذه الحلبة الخيرية، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
تلك سجية فيه عرفتها له مصر فهي ما هزت مواضع الأريحية من أنفس كرمائها إلا رأت ذلك الأمير المحبوب يرتجل الندى ارتجالًا، ويرسل مكارمه أمثالًا.
وكثيرًا ما تقدمت أريحية سموه دعوة الداعين، فأحالت دعوتهم دعاء وثنتهم عن الطلب إلى الثناء.
فإنا لم نكد نسجل للأمير الجليل تلك النفحة التي شمل بها الجمعية الخيرية الإسلامية، حتى ارتجل مبرة أخرى فشمل الجمعية الخيرية القبطية بنفحة ترفع القواعد من بنائها، ولم نكد نفرغ من شكر هاتين المبرتين حتى بدهنا بثالثة لا ينقطع برها، ولا ينقضي شكرها: فإنه لم يكد تمثال «نهضة مصر» يتصل حديثه بسموه، حتى تفضل فتبرع بخمسمائة جنيه مصري من ثمن ذلك التمثال.
ومن مبراته الخالدة التي زادت أواصر الاتحاد متانة، ما تبرع به أخيرًا لمدرستي البطركخانة والمشغل البطرسي على أثر زيارته غبطة الأنبا كيرلس بطريرك الأقباط الأرثوذكس، فمنح المدرستين سندات من الدين الموحد لتعطى أرباحها السنوية جوائز لأوائل الناجحين والناجحات منهما، وهكذا غرس يديه الكريمتين يبقى نفعه ما توالى الجديدان.
مكارم يتلو بعضها بعضًا، ومبرات يسطع في العصر شذاها، إلا أن مصر التي تقدر كل عامل لها من أبنائها لتحمد للأمير أياديه البيضاء، وتذكر له أنه لم يدع فرصة سانحة للبر بها إلا انتهزها مشكورًا، وأن حياته المباركة نجح لكل عمل عميم النفع. وبالجملة فالأمير الذي يزدان به صدر هذا الجزء من كتابنا بإجماع الأمة المصرية أكرم عظماء مصر يدًا، وأعمهم ندًا، وأرفعهم ذكرًا وأجلهم قدرًا، وهو بعد صاحب الأيادي العديدة، والأعمال المجيدة والشيم الحميدة، والآثار الخالدة، والسيرة الطاهرة والمناقب الفاخرة، سمو صفات، وجمال ذات، ورأي صائب، ونظر ثاقب وبعد عن الشهوات، وترفع عن الغايات وثبات عند الملمات. واجتهاد وجد، ويمن طائر وسعادة جد، وحياء وكمال، وعلاء وجلال، يشبه سميه سيد المسلمين عمر بن الخطاب في الصلابة في الحق، والثبات على العهد، والميل إلى الجد، ثابت على مبادئه ثبوت الجبال حتى ليس في مقدوره أن يقول ما لا يعتقد أو يعمل ما لا يريد أو يعد فيخلف، أو يحكم فيجحف، صبور وقور، ذو أناة وحلم، لا تنال الملمات من نفسه الكبيرة، ولا يظهر لها أثر عليه، وذلك من عجيب ما أودعه الله فيه من الخلائق فهو نسيج وحده، ووحيد هذا العصر في كرم الخلال، وشرف الفعال فما أجدره بقول القائل:
أما العلم والتأليف وهما مما تنبو عنه عادة طباع أهل النعمة والسراء فضلًا عن الأمراء، فقد بلغ الأمير فيهما الشأو البعيد والغاية التي ليس بعدها غاية.
وما ظهر إلى الآن لهذا الأمير النابغة من آثار قلمه البليغ باللغتين العربية والفرنسية ودبجته براعته من المباحث الممتعة، وكلها من الطريق الذي لم يكن معروفًا قبل يجعل له القدح المعلى في هذا المضمار.
وذلك مثل مقالاته التي نشرتها الصحف والمجلات العلمية عن الجيش المصري أيام محمد علي وعن المدارس، والصنائع، والإرساليات، في ذلك العهد. ومحاضراته القيمة التي ألقاها في المجمع العلمي المصري، وتلقتها أندية العلم في الشرق والغرب بمزيد الاهتمام، وكتابه النفيس عن أفرع النيل القديمة الذي ظهر منذ عهد قريب مطبوعًا باللغة الفرنسية، وسيظهر عن قريب باللغة العربية، ورسائله التاريخية عن منارة الإسكندرية، وسد أبو قير، وترعة المحمودية، إلى غير ذلك مما شارك الأمير فيه أكابر العلماء المحققين وسلكه في سلك جهابذة المؤرخين المتميزين.
وقد تغنى الشعراء بمدحه وأكثروا من القول فيه مما لو جمع لكان ديوانًا كبيرًا، وإننا نختم هذه السيرة المتضوعة بقصيدة في الأمير لشيخ الشعراء إسماعيل صبري باشا، بعث بها إلى سموه أيام حرب البلقان والهلال الأحمر، وهي:
ومما اطلعنا عليه أخيرًا في مدحه قصيدة لحضرة الأديب محمد محمد عبد الرازق أفندي وهي:
رويدًا فما الجود إلا عمر
•••
(٢) ترجمة ساكن الجنان طوسون باشا سعيد
هو طوسون بن سعيد بن محمد علي الكبير، ولد في يناير سنة ١٨٥٤م، ولم يرزق والده المرحوم سعيد باشا من الذرية غيره، لا قبله ولا بعده؛ ولذا كان شغفه به عظيمًا، فرباه أحسن تربية، ونزل من عنايته في أكرم منزلة، ولما بلغ سن التعليم أسلمه إلى أبرع أساتذة عصره، فتخرج على أيديهم ثم التحق بالمدرسة الخاصة التي أنشئت لأبناء الأسرة المحمدية العلوية وأبناء المقربين إليها من كبار الحكماء، وسراة الأمة، فنبغ بين أقرانه، وبعد أن استكمل حظه من العلم في مصر قصد أوربا متنقلًا بين ربوعها مدة، ثم عاد إلى الديار المصرية مرجوًّا لكل عظيمة لما امتاز به من دماثة الأخلاق، وكرم الخلال مع الصلاح والتقوى والتمسك بالدين والبر بالمساكين.
تهنئة الأمير طوسون باشا بزفافه على كريمة الخديوي إسماعيل باشا
وقد أنجب من الذرية الأمير سعيدًا، فالأمير عمر، فالأميرة أمينة، فالأمير جميلًا، فالأميرة عصمت، والأخيران من ابنة إسماعيل.
ومما يروى عن الجلة من الأكابر الذين كانوا في عصره، أنه اطلع وهو في أوربا على كتاب عربي في إحدى مكتباتها في سيرة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب اسمه نعم السمر في مناقب عمر — فأشرب من هذا الوقت حب الفاروق، وكان لهجًا بذكره معجبًا بمناقبه ولما رزقه الله بالذرية سمى ثاني أبنائه «عمر» راجيًا أن يكون له نصيب من هذا الاسم المبارك، فحقق الله في صاحب السمو الأمير «عمر طوسون»، هذا الرجاء العظيم رحم الله المترجم رحمة واسعة وأطال حياة ولديه الباقيين الأميرين «عمر» و«جميل».
ولقد كان كريم الأخلاق لطيف المعاشرة محبًّا للخير يسعى جهده في تفريج هم المكروبين، وكان أكبر نصير للإنسانية بارًّا بالأدباء معضدًا للعلم عاملًا على إسعاد وطنه، لا يرد سائلًا قصده إلا أن المنية عاجلته، فراح مبكيًّا عليه في يوليو سنة ١٨٧٦م، وهو في شرخ الشباب، ومقتبل العمر، قصف الموت غصنه الرطيب، فحرمت البلاد والأمة من أمير عظيم كانت مخايل الخير فيه موجودة، وحزنت الأمة المصرية لفقده على بكرة أبيها، فما كنت ترى في ربوع البلاد في ذلك اليوم إلا مأتمًا عامًّا لا فرق بين القصر الرفيع والكوخ الوضيع، إذ إن الكل في الأسف على فقده سواء، ولقد رثاه الشعراء والكتاب، ونذكر من بين تلك المراثي مرثية ذلك الشاعر العبقري السيد علي أبي النصر شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية مضمنًا إياه تاريخ وفاته حيث قال:
رثاء المرحوم طوسون باشا
(٣) ترجمة حضرة صاحب السمو الأمير الجليل محمد علي باشا الأفخم
مولده ونشأته
هو صاحب السمو الأمير الجليل محمد علي باشا، شقيق صاحب السمو عباس باشا حلمي الثاني خديوي مصر السابق، والنجل الثاني للمغفور له محمد توفيق باشا ابن المغفور له إسماعيل باشا ابن المغفور له إبراهيم باشا ابن المغفور له محمد علي باشا الكبير، مؤسس الأسرة المالكة ومنشئ مصر الحديثة.
ولد صاحب السمو الأمير في ١١ شوال سنة ١٢٩٢ﻫ بمدينة القاهرة، ولما بلغ أشده دخل المدرسة العليا بعابدين «مدرسة الأنجال»، وتلقى بها مبادئ العلوم والمعارف مع شقيقه صاحب السمو عباس باشا حلمي الثاني الخديوي السابق، ثم برح مصر ميمما الغرب؛ لينهل من بحر علومه الفياضة فدخل كلية هكسوس بسويسرا، فتعلم فيها من العلوم ما شاء وشاءت له مقدرته الفائقة وذكاؤه النادر، ولقد كان موضع إعجاب العالم الغربي، فضرب للعالم المثل على ذكاء المصريين بما كان يبهر به العالم بين حين وآخر من آيات النبوغ وعلو الهمة وعزة النفس والشجاعة والإقدام، وقد نال أسمى الشهادات العالية، وقد كان في إبان دراسته يصرف إجازاته السنوية في الرحلات العلمية المفيدة، ولا يترك صغيرة ولا كبيرة مما يقع تحت حسه إلا ويحرر به المذكرات، ويقابل بينها وبين ما يراه بمصر ويستنتج الاستنتاجات التي تدل على مبلغ إصابة رأيه، وقد زار كل عواصم أوربا مع شقيقه الخديوي السابق، فكان يقابل أينما نزل بما يليق بمقامه الرفيع من الاحتفاء من ملوك أوربا، الذين أهدوا إليه من الأوسمة والنياشين العدد الكثير اعترافًا بقدره وتقديرًا لذكائه وأصالة رأيه وسمو مكانته.
وكان حفظه الله مع صغر سنه يجمع بين ذكاء الشباب وحكمة الشيوخ، وكان شديد الميل للأعمال الخيرية عظيم العطف على المعوزين، كبير الرغبة في الإقدام على تنفيذ كل ما يعود بالخير العميم على منفعة العباد والبلاد خاصة والشرق والإنسانية عامة.
ولقد تجلى عطفه الشديد وكرمه الفائق إبان الحرب الطرابلسية، وكذلك حرب البلقان فكان له في إعانة المنكوبين، وسد عوز المحتاجين اليد الطولي، التي بدلت بؤسهم وتعاستهم مسرة وهناء، مما لهجت بذكره الألسن، وكان سموه رئيسًا لجمعية الهلال الأحمر التي أدت إلى الإنسانية أجل المساعدات، مما يدونه التاريخ لسموه بمداد الشكر والثناء وتنطق به آيات الفخر والإعجاب.
رحلاته
لما رأيت في منشوريا اليورجوت وقارنتهم بصور الهنود الأمريكيين، التي رأيتها في بطاقات البريد (الكارت بوستال)، التي اشتريتها في مكدن علمت وقتئذ أنه لا بد أن تكون هنود أمريكانيين هؤلاء اليورجوت ومن سكان شمال آسيا، وليس ببعيد أنهم هاجروا إلى هذه البلاد في الزمن القديم من طريق كامتشكا، وعلى ذلك الرأي يكون الآسيويون هم البادئون في اكتشاف أمريكا قبل كريستوف كولمب، ولكن لما كانت حالتهم وحشية ومعارفهم قاصرة، واختلاطهم بباقي العالم معدومًا ولا توجد بينهم وبين الأوربيين مواصلات ولا مكاتبات، فإن اكتشافهم لم يعلم به أحد ومع ذلك لا يمكن تأييد هذا الرأي بإقامة برهان عليه من معلومات هؤلاء الهنود أنفسهم؛ لأنهم لا يعرفون أصل أنفسهم، ولا يدرون تاريخهم فإذًا لا يمكن الإتيان ببراهين قاطعة على حجة هذا الرأي، إلا مثل هذا الاستنتاج الذي وصلت إليه أثناء زياراتي منشوريا ومقارنتي سكانها بهؤلاء «الهنود الأمريكيين»، فهذا مثل بسيط نزفه إلى القراء والتاريخ من الأمثلة الكثيرة التي يقدمها سمو الأمير الجليل لخدمة العلم.
صفاته وأخلاقه
إن صفاء وجدانات سمو الأمير الجليل وحلاوة أخلاقه وعذوبة حديثه وتواضعه، حتى يستأنس بحديثه محدثه لدلائل كافية على عظمته، وإنك لا ترى عظيم الذهن إلا وهو عظيم النفس عظيم الخلق عظيم بالنظر إلى قلبه ونفسه، وإلا فكيف يعرف النظر إلى قلوب الناس، واستقراء ضمائرهم ووجداناتهم من تكدرت نفسه واحتجبت وراء سحاب من الأكدار والأقذاء، وهو عظيم الإخلاص لوطنه المحبوب محب للخير، وفوق ذلك يعشق الطبيعة وجمالها ومناظرها، ويحسن وصفها بأبلغ ما يمكن أن يتصوره أي إنسان، وإنه يميل إلى الهدوء والسكينة وأكبر دليل على ذلك اختياره لتلك النقطة الجميلة الهادئة ذات المناظر الطبيعية الخلابة، التي بنى عليها قصره الفخم بجزيرة الروضة، وما حواه ذلك القصر العامر من كل ما يبهر العقول، وإلى القارئ الكريم وصف بسيط لذلك القصر:
قصر سمو الأمير الأثري ومنتزهه الفخم
يقع القصر بجزيرة الروضة وهذه النقطة من أهم الضواحي التي تحوي المناظر الطبيعية، يشرف على النيل وبه حديقة غناء من أبدع حدائق العالم مساحتها نحو الخمسة والثلاثين فدانًا، خط في وسطها منتزه بديع يحوي الزهور بأنواعها، وهي التي أحضرها خصيصًا من جميع أنحاء العالم، ولا غرو فسمو الأمير الجليل مغرم بالأزهار وترتيبها، وقد أمر سموه فترجم كتاب الزهور الذي يقع في نيف ومائتين وخمسين صفحة من القطع الكبير على ورق مصقول بطبع جميل، وقد حوى من البحث في أنواع الزهور ما يفيد مصر فائدة عظمى في هذا العلم الجميل، وقد قام برحلته الميمونة في جنوب أفريقيا باحثًا ومنقبًا عن النباتات، التي يصح نقلها وتربيتها بالديار المصرية، وكتب هذه الرحلة المباركة في ست وتسعين صفحة حوت حالة تلك البلاد النائية، وأخلاق وعادات أهلها، وتربة أرضها وجوها — إلخ، مما يجعل المطلع يظن أنه ذهب إلى تلك الجهات وسبر غورها، وذلك من عادات سموه في كل رحلة من رحلاته، فإنه لا يألوا جهدًا حرسه الله في إبداء الآراء والأفكار الصائبة في كل صغيرة وكبيرة من الآراء التي تعود بأعظم الفوائد على العلم وطلابه.
(٤) ترجمة حضرة صاحب السمو الأمير الجليل يوسف كمال باشا
- (١)
سياحته في بلاد الهند الإنجليزية وكشمير سنة ١٩١٥ وقد طبع الجزء الأول بمطبعة المعارف سنة ١٩٢٠.
- (٢)
سياحته في بلاد «التيبت» الغربية وكشمير أيضًا عام ١٩١٥م طبع بمطبعة المعارف أيضًا، وكل من هذين الجزأين محلى بالصور والرسوم من المناظر التي وقع عليها نظره الكريم في هاتين الرحلتين، ومن الكتب القيمة التي أشار بتعريبها وطبعها على نفقته الخاصة كتاب الرحلة الأولى للبحث عن ينابيع البحر الأبيض «النيل الأبيض»، الصادر به أمر ساكن الجنان محمد علي والي مصر بقيادة ربان الفرقاطة البكباشي سليم قبودان، وهي ملخصة من المجموعة الرسمية للجمعية الجغرافية في عددها الصادر في شهر يوليو سنة ١٨٤٢، ونقلها إلى اللغة العربية حضرة محمد مسعود بك المحرر الفني بوزارة الداخلية، طبعت سنة ١٩٢٠م.
«ولمحة عامة إلى مصر» تأليف أ. ب. كلوت بك، ومعربها حضرة محمد مسعود بك أيضًا، وكتاب «مصر في القرن التاسع عشر»، وهي سيرة جامعة لحوادث ساكن الجنان محمد علي باشا وإبراهيم باشا، والمغفور له سليمان باشا الفرنسي من الوجوه الحربية والسياسية والقصصية تأليف إدوار جوان وتعريب محمد بك مسعود أيضًا طبع سنة ١٩٢١م.
ولسمو الأمير الجليل يوسف كمال باشا ولع عظيم بالصيد والقنص، وطالما قصد الأقطار السودانية وتوغل في غاباتها وأحراشها بغية صيد الوحوش الكاسرة كالأسد والدب وغيرهما، وقد تفضل حفظه الله وأبقاه فأهدى كثيرًا منها لحديقة الحيوان بالقاهرة، وسُموه أيضًا حصن منيع لكل مشروع خيري كملجأ الحرية والجمعيات الخيرية، ومؤسس مدرسة الفنون الجميلة، ومستشفى المطرية فهو والحق يقال أمير الخير وأمير البر وأمير الشجاعة والبأس.
ولسمو الأمير تفاتيش عديدة واسعة وأطيان شاسعة في الوجهين البحري والقبلي، ويعد سموه من أكبر المحسنين والمعضدين لكل مشروع مفيد، وله باع طويل في مساعدة الفنون الجميلة على اختلاف أنواعها، كما اشتهر سُمُوُّهُ باللطف ودماثة الأخلاق وعلو النفس والكرم الحاتمي، وهو محبوب جدًّا من عموم طبقات الأمة المصرية بوجه خاص لما آنسوا في شخص سموه الكريم من العواطف السامية والخصال النبيلة، أدامه الله وأبقاه ومتَّعه بنعيم الحياة وجعل الجنة في الآخرة مثواه.
(٥) ترجمة حضرة صاحب السمو السلطاني الأمير الجليل كمال الدين حسين
إنَّا وإنْ كُنَّا لم نتمكن من الحصول على ترجمة وافية لحضرة صاحب السمو السلطاني الأمير كمال الدين حسين، لتغيبه في رحلة نائية عن مصر، ومع ما بذلناه من المجهودات الشاقة للعثور على ما يشفي غليل القارئ الكريم عن حياة هذا الأمير الجليل، فلم نعثر إلا على فذلكة صغيرة لسموه، واعدين حضرات القُرَّاءِ الكرام أن نأتي بترجمة وافية لسُمُوِّهِ في الجزء الثاني إن شاء الله تعالى.
هو الأمير كمال الدين حسين نجل المغفور له صاحب العظمة السلطان حسين الأول وحفيد الخديوي إسماعيل باشا.
ولد حفظه الله بالقاهرة، فاعتنى المغفور له والده بتربيته التربية السامية التي تليق بمثله، فشب ملحوظًا بعناية الله وكان خير مثال للذكاء والنبوغ والهمة العالية، وإن ميله إلى الزراعة لعظيم جدًّا لعلمه أنها مصدر حياة البلاد، وله اليد الطولى في الأعمال الخيرية ومساعدة العلم، وإخلاصه لبلاده يفوق حد الحصر، كما وأنه في ميله إلى خدمة العلم ليسهل كل صعب، وكم تَجَشَّمَ من الأخطار في سبيل اكتشافات عظيمة تخلد لمصر عظيم الفخر بين أعاظم الأمم المتحضرة، التي تفخر بالمخترعين والمكتشفين من أبنائها، وإن رحلته المشهورة في الصحراء لمن أجل الرحلات وأشقها، وقد قام بها باحثًا عن رسالة الرحالة رولنس الشهير، الذي كان قد جمع من المعلومات الجغرافية، ووصف شعوب أفريقيا الشيء الكثير أودعها مذكرات قيمة، وضعها داخل زجاجة وأخفاها في مكان وصفه ضمن رسالة أرسلها عندما أحدقت به العرب وقتلته، فقد قام صاحب السمو برحلته هذه العظيمة للتوسع في الاستكشاف والحصول على هذه الرسالة، وقد كانت من الغرابة بمكان فإنه ألقى محاضرة عظيمة بالمجمع العلمي الجغرافي تضمنت ما حصل عليه من المعلومات القيمة، والغرائب الكثيرة، وما لقيه من المشاق العظيمة، فجاءت تلك المحاضرة شاهدًا آخر على ما لسموه من سمو المدارك وعلو الهمة، وعلى مقدار شغفه بالعلم وحبه العظيم له، وتضحياته الكثير من الأعمال الخيرية، وتخفيف ويلات المنكوبين والمكروبين، وسد عوز المحتاجين، فهو رجل الإحسان بالمعني الصحيح، وهو محسن في أعماله محسن في أقواله محسن في آرائه محسن في كل شيء.
وإن في تاريخ سموه الأمثلة العديدة التي يحسن سياقها للتدليل على ذلك، فقد أظهر من الكياسة وأصالة الرأي وبعد النظر والجدارة، وأنه هو الرجل الحقيقي «والرجال قليل». تولى رئاسة الجمعية الخيرية الإسلامية عقب أن سعدت البلاد بتبوء صاحب العظمة والده عرش مصر، وكانت رياسة الجمعية مسندة إليه، فأسندت رياستها إلى صاحب الترجمة فقام بما عهد إليه خير قيام، وبرهن على أنه الوحيد الذي صدق رأي الجمعية في اختياره، وأنه فوق ذلك مثال المروءة والشهامة والوفاء، وأننا لا يسعنا وصف وفائه ولو أتينا من البسطة في التعبير والقوة في الكتابة ما شئنا وشاءت لنا الأقدار، وإننا لنسجل لسموه بمداد الإعجاب تنازله عن ملك مصر بعد أبيه، وإيثاره عمه حضرة صاحب الجلالة فؤاد الأول على نفسه، فبرهن بذلك على مقدار وفائه ومحبته لمصره العزيزة، وفضل التفرغ لخدمة العلم، وخدمة بلاده لشدة محبته لهما بعيدًا عن مشاغل السياسة والملك، مقدمًا لها من يحسن سياستها وهكذا تكون الرجال وإلا فلا.
وإننا طالما التمسنا من سمو الأمير أن يتفضل علينا برسمه الكريم؛ ليزدان سفرنا بنور محياه الباهر فأبى معتذرًا بعدم وجود صورة لسموه في هذا الوقت، ولنا من حضرة القارئ الكريم مغفرة ومعذرة ونرجو أن لا يتسرب إلى ذهنه أننا أغفلنا ذلك سهوًا أو عمدًا، إنما هو الواقع وليس لنا أن نؤثر على إرادة سموه بحال.
صفاته وأخلاقه
وقد منحه المولى أجل الصفات الحميدة والخصال العالية مع جمال الخلق، فسموه على جانب عظيم من الدعة واللطف مع الشهامة والحزم، يميل بفطرته السامية إلى رفع لواء العلم لمجد وسعادة وطنه المفدى، وله في كل عمل علمي أو أدبي أو خيري مآثر غراء تنطق عن روح سامية ومروءة فائقة.
كانت مصر منذ ٣٠٠٠ سنة في عهد توت عنخ أمون مستقلة، بل صاحبة سيادة عظيمة على ما حولها من البلدان كالسودان والحبشة وسورية، هذا من جهة سطوتها السياسية ومنعتها الحربية، أما عن غناها وثروتها ومجدها وعمرانها ورقيها في الفنون والصناعات وتقدمها في العلوم والمعارف والآداب، فإن الكنوز التي وجدت في طيبة والكنوز المحفوظة في المتاحف لخير شاهد على المكان الرفيع، الذي بلغته والقسط الوافر الذي أحرزته في عصر كانت فيه دياجير ظلمات الجهل، مخيمة على العالم، فسلام على عصر توت عنخ آمون الزاهر، ومرحى بعصر جلالة الملك فؤاد الذي يبشرنا بذلك المجد الباذخ والعز التالد، نسأل الله دوام ملكه.