البرلمان المصري والحكم النيابي في التاريخ
ذكر الفيلسوف أرسطو فيما كتبه عن السياسة أن الحكم في الأمة يتولاه إما فرد أو جماعة أو الشعب كله، فإذا تولاه الفرد كانت الحكومة ملكية، وإذا تولته جماعة قليلة كانت الحكومة أرستقراطية، وإذا تولاه الشعب كله كانت الحكومة دستورية أو شعبية، ولا تفاضل بين هذه الأنواع من الحكومات إذا قامت بما يطلب منها؛ لأن الغاية من كل حكومة إقامة العدل وتوطيد الأمن، والسهر على مصالح الرعية، فإذا بطلت هذه الغاية وانقلب الحكم وسيلة لتحقيق مآرب الحاكم، سواء كان فردًا أو جماعة فسدت الحكومة وضاعت الغاية من وجودها.
ولعل أقرب الأنظمة السياسية القديمة إلى الحكومة الدستورية الحديثة النظام، الذي جرت عليه أثينا ورومية حوالي القرن الخامس قبل المسيح، فكانت الحكومة في كلتيهما شعبية جمهورية بأوسع المعاني، ومما ساعد على ذلك أن الدولة كانت صغيرة تشمل المدينة وحدها ولا تتعداها إلا إلى ما حولها من القرى والدساكر، وكان عدد السكان قليلًا لا يزيد على عشرة آلاف نفس، ما عدا أثينا فإنها بلغت نحو عشرين ألفًا، فسهل عليهم أن يقوموا بأعمال الحكومة بنفوسهم، فكانوا يؤمون المجتمعات السياسية العامة «كالاكليزيا في أثينا»؛ لينتخبوا الحكام ويفصلوا فيما يهمهم من الشؤون؛ لذلك لم يكونوا في حاجة إلى انتخاب من ينوب عنهم في تلك المجتمعات.
على أن الحكم في أثينا ورومية لم يبق جمهوريًّا بحتًا حينما خرجا عن حدودهما الضيقة وازدادت فتوحاتهما، ولا سيما فتوحات رومية واتسع نفوذهما وصار من اللازم استنباط نظام سياسي يشمل جميع الولايات، بمعنى أنهم يشتركون مع العاصمة في إدارة شؤون البلاد ومستعمراتها الواسعة، لكن فلاسفة الرومان وواضعي القوانين منهم مع ما اتصفوا به من الحذق السياسي وبعد النظر في وضع القوانين، لم يهتدوا إلى نظام التمثيل السياسي، فبقيت العاصمة مسيطرة على شؤون البلاد، وانتقلت السلطة فيها رويدًا رويدًا إلى يد رجل واحد، فكان النظام الإمبراطوري المعروف، ثم انهارت الإمبراطورية الرومانية الغربية أمام هجمات القبائل الشمالية المتكررة، وانتشر في أوربا نظام الإقطاع، وهذا النظام يستدعي شيئًا من «النيابة» أو «التمثيل»، فأمير الإقطاع كان يدعو في أوقات المحن والحروب رجالًا يمثلون المقاطعات المختلفة في إمارته للبحث فيما يجب فعله؛ لدرء هجمات العدو وما يجب على كل منهم تقديمه من رجال وذخائر ومؤن، فكان في هذا العمل جرثومة التمثيل السياسي أو النظام النيابي كما هو معروف في عصرنا.
وخرجت أوربا من ظلمات القرون الوسطى، وقد تعزز في أنحائها الروح القومي فسما بالطبقات الوضعية عن مصاف العبيد، وصارت تشعر بوجوب الاشتراك مع الملك والأمراء ورجال الدين في تدبير أمورها إلى أن كانت الثورة الفرنسوية، فألقيت فيها مقاليد الأمور إلى الشعب.
لكن النظام النيابي بمعناه السياسي الحديث نشأ في إنكلترا منشورًا تدريجيًّا، وذلك أن الملك إدورد الأول نشر دعوة سنة ١٢٩٥ جاء فيها ما ملخصه:
«إننا ندعو الآمراء وكبار رجال الدولة للبحث في الأدواء التي تنتاب البلاد وكيف يجب أن نعالجها؛ ولذلك ندعو اثنين من كل مقاطعة ومدينة ودائرة «بورد» ممن عرفوا بالحكمة والإخلاص والكفاءة، ويجب أن تعطى لهم السلطة الكافية لإقرار ما يحسب صالحًا للبلاد بالاتفاق العام؛ لكي لا يبقى العمل ناقصًا» هذه هي الجرثومة التي نشأ منها البرلمان الإنكليزي أقدم المجالس النيابية في التاريخ وأكثرها مرونة، وهو مع ذلك لا يقوم على دستور مكتتب كالدستور الأميركي أو الفرنسوي أو المصري، بل على تقاليد جرى عليها قرونًا فصارت بمثابة القانون المكتتب.
ولا يخفى أن البرلمان الإنكليزي مؤلف من مجلس أعلى، ويسمى مجلس اللوردات وأوطأ، وهو مجلس العوام أو النواب، وعدد الأعضاء في المجلس الأعلى نحو ٧٢٦، وفي مجلس النواب نحو ٧٠٧ ولا يعتبر المجلس الأعلى أي: مجلس اللوردات غير نيابي؛ لأنه وراثي بل هو نيابي بمعنى أن أعضاءه يمثلون طبقتين من طبقات الشعب الإنكليزي، هما رجال الدين وأصحاب الأملاك الواسعة؛ وسبب تفوق مجلس النواب عليه أنه يمثل الطبقة الثالثة، وهي أوفر عددًا وأكثر قوة، وفي يدها زمام الأمور السياسية والمالية.
ومما يحسن ذكره في هذا الصدد أن الحكومة الإنكليزية «حكومة برلمانية» في عرف علماء السياسة أي: أن الوزارة فيها من مجلس نوابها وهي مسئولة له عن أعمالها، فإذا فقد المجلس ثقته فيها وجب عليها الاستقالة، أما الحكومة الأميركية فليست حكومة «برلمانية» من هذا القبيل أي: أن وزراءها ليسوا من مجلس نوابها، ولاهم مسئولون له عن أعمالهم بل لرئيسهم الذي يعينهم، وهو المسئول للكنفرس عن السياسة التي يتبعها؛ وذلك لكي يتم الفصل التام بين فروع الحكومة الثلاثة أي: بين القوة التنفيذية والقوة التشريعية والقوة القضائية وهو في رأي بعض علماء السياسة كمنتسيكو أرقى مراتب الحكومة، لكن الأمر الذي يبدو لأكثر الباحثين في السياسة والعمران أن النظام الإنكليزي أكثر من النظام الأميركي مرونة، ومماشاة مع مقتضى الأحوال وقد جرت عليه معظم الدول الديمقراطية، سواء أكانت ملكية كإيطاليا واليابان ومصر أم جمهورية كفرنسا وسويسرا، ويقال: أن النظام الملكي المقيد بمجلس نيابي مؤلف من مجلسين، كما في إنكلترا وإيطاليا ومصر واليابان خير الأنظمة السياسية في هذا العصر، وأثبتها على تقلبات العمران، وأضمنها للمحافظة على الغاية من وجود الحكومة، فالملك في الحكومة الملكية المقيدة يمثل تاريخ البلاد وتقليدها وعزها، وكل ما يلتف من آمال الشعب ورغائبه حول شخصه المعنوي، كذلك تكفل الوزارة النيابية القيام بأعمال الحكومة كما في كل الجمهوريات.
والظاهر أن الدستور المصري من خير الدساتير من هذا القبيل فقد جمع مزايا أكثر الأنظمة السياسة القديمة والحديثة، ومداره على ملك وبرلمان ووزارة برلمانية والبرلمان المصري مؤلف من مجلسين: أعلى وهو مجلس الشيوخ، وأوطأ وهو مجلس النواب، وأعضاء مجلس الشيوخ عددهم ١١٩ ينتخب منهم ٧١ عضوًا، ويعين جلالة والملك الباقين، ويجب أن تكون سن العضو في مجلس الشيوخ ٤٠ سنة على الأقل، وينتخب أو يعين ليقيم عشر سنوات، أما مجلس النواب فأعضاؤه ٢١٤ وينتخبون جميعهم لخمس سنوات، ويجب أن تكون سن الواحد منهم ثلاثين سنة على الأقل.
وكان يوم ١٥ مارس سنة ١٩٢٤ يومًا تاريخيًّا عظيمًا، ففيه افتتح جلالة الملك فؤاد أول برلمان مصري مؤلف على المبادئ الدستورية الحديثة، وقد تم هذا الاحتفال في أجلى مظاهر الأبهة والجلال، وقضى أهل مصر ذلك اليوم فرحين متهللين، شاعرين أنه ابتداء عهد جديد في تاريخ هذا القطر، عهد اشتراك الأمة في تولي زمام السلطة.
فلما انتصفت الساعة التاسعة أخذ النواب والشيوخ يفدون على دار البرلمان، وجعلوا يأخذون أمكنتهم كيف شاءوا، وكذلك أقبل المدعوون فجلسوا في الشرفات المعدة لهم، وهم من أصناف مختلفة، فمنهم كبار الأجانب كسفراء الدول المفوضين، ومنهم كبار الموظفين والرؤساء الروحيين، وغير هؤلاء ممن دعوا إلى الحضور.
أحلف بالله العظيم أني أحترم الدستور وقوانين الأمة المصرية، وأحافظ على استقلال الوطن وسلامة أراضيه.
حضرة الشيوخ — حضرة النواب
أهديكم أطيب سلامي، وأحيي فيكم ممثلي شعبي الكريم، وأهنئكم منتخبين ومعينين بالثقة العظمى التي أحرزتموها؛ لتؤلفوا أول برلمان مصري تأسس على المبادئ العصرية، وأحمد الله أن تحققت بتأسيسه أمنية من أعز أماني وأول رغبة من رغبات أمتي الشريفة.
اليوم تدخل في دور التنفيذ النظامات النيابية التي قررها الدستور، ولا ريب في أنها تبشر بإقبال عصر جديد من القوة والسعادة على بلادنا المحبوبة.
لقد وضعت البلاد فيكم ثقة عظمى، وألقت بها عليكم مسئولية كبرى، فأمامكم مهمة من أدق المهمات وأخطرها، إذ يتعلق بها مستقبل البلاد، وهي مهمة تحقيق استقلالها التام بمعناه الصحيح، ولا شك أنكم ستعالجونها بروح من الحزم والحكمة والروية، وأنكم ستجدون من أهم مسهلاتها الاتحاد المقدس الذي لا انفصام له بين العرش والأمة، والذي توثقت اليوم عراه بالقسم العظيم الذي أقسمناه وستؤدونه أنتم عما قليل.
لهذا يحق لي أن أصرح علنًا باسمي وباسمكم أن حكومتي مستعدة للدخول مع الحكومة البريطانية في مفاوضات حرة من كل قيد؛ لتحقيق الآمال القوية بالنسبة لمصر والسودان مملوءة من الرجاء في الوصول إليها بقوة حقنا، وعناية الله القدير.
ومن أهم وظائفكم أن تساعدوا الحكومة، وتشتركوا معها في إدارة البلاد على الطريقة التي رسمها الدستور، وهي الطريقة المؤسسة على القانون بين سلطات الدولة، وعلى مبدأ المسئولية الوزارية، ولقد وضعت هذه الطريقة على الحكومة وعلى البرلمان واجبات، فعليها تنفيذ مبادئ الدستور وتطبيق أحكامه بروح تامة من الحرية والديمقراطية، وعليه أن يتمم التشريع بوضع القوانين الناقصة التي أشار الدستور إليها، وأن يعيد النظر في القوانين المعمول بها خصوصًا ما لم يعرض منها على الجمعية التشريعية بسبب إيقاف أعمالها، وأن ينظر في قانون ا لانتخاب بما تمليه عليه نتيجة الاختبار.
وستعرض عاجلًا على مجلس النواب ميزانية الحكومة للسنة القادمة، وسبق منها أن الإيرادات والمصروفات متعادلة، وأن المال الاحتياطي زاد زيادة عظيمة سيكون لها أحسن أثر في سمعة البلاد المالية، غير أن هذا لا يعفي من التزام الحزم في السياسة المالية، بل يجب اجتناب كل ما من شأنه تكليف الخزينة بنفقات لا ضرورة لها ولا يكون من وراء إنفاقها تحسين في الإدارة، ورعاية الاقتصاد في الوظائف حتى لا يكون منها ما هو فوق الحاجة، وفي المرتبات حتى لا تزيد على قيمة العمل المقررة لها.
ويجب إصلاح الإدارة بتقسيم المصالح المختلفة، وتوزيع الوظائف المتنوعة وتحديد اختصاصها على وجه يضمن سهولة العمل وسرعته وانتظامه، ويبعث في نفوس الموظفين روح الجد والنشاط، والشعور بالمسئولية والحرص على النظام كما يضمن لهم حقوقهم، ويكفل السير على طريقة عادلة في التعيينات والترقيات.
أما الضرائب الحالية فيجب تجنب الزيادة فيها، غير أنه يبقى النظر في مراجعتها وتكميل نظامها، لا لمجرد دخلها وتوزيعه توزيعًا أعدل، بل أيضًا لتقرير رسوم على الإيرادات المعفاة بغير حق من الضرائب في الوقت الحاضر، وغير خاف أن مراقبة المصروفات العامة بالدقة وحسن الانتباه، وتقوية نظام الضرائب بضمان انتظام الميزانية وثباتها يسمحان باستئناف مشاريع الأعمال العامة التي أهملت من سنوات.
ومن اللازم حماية ثروة البلاد الزراعية وتنميتها بنسبة زيادة السكان، وهذا يستلزم المبادرة إلى حل المسائل الخاصة بتحسين طرق الري والصرف وتوسيع نطاقها، ومن الواجب تحسين طرق المواصلات وتنمية التجارة على اختلاف أنواعها، واستثمار المناجم وتشجيع الصناعات المصرية الحديثة العهد، والاستفادة من مركز البلاد الجغرافي وإصلاح حالة الأمن والصحة العمومية، وترقية المرأة أدبيًّا واجتماعيًّا، وحماية الأمومة والعناية بالأطفال، واتخاذ التدابير الاجتماعية اللازمة لحماية العمال ونشر التعليم بنوعيه الأولي والراقي.
وعلى مصر أن تتبوأ مكانها بين الدول بإيجاد علاقات الوداد، وتوكيدها مع جميع الدول من غير تفضيل، ولا امتياز يخالف مبدأ استقلالنا التام.
والأمل وطيد في أن تتوج حريتنا السياسية بدخول مصر في جمعية الأمم كدولة تامة الاستقلال.
أيها الشيوخ والنواب
إن مهمة الحكومة والبرلمان كبيرة خطيرة شاقة، منها ما أشرت إليه ومنها ما هو معروف لكم من كل ما فيه خير البلاد وتقدمها، ولكني عظيم الثقة في أن هذه المهمة تتم تدريجيًّا بفضل الروح القومية التي بعثت في شعبي الكريم قوة جديدة، وملأته حمية للعمل وغيرة على خير الوطن.
ويملأ قلبي سرورًا أن أفتتح الدور الأول للبرلمان، وأدعوكم للبدء في أعمالكم داعيًا الله تعالى أن يسدد خطواتكم، وأن يوفقني وإياكم لما فيه خير البلاد.
ولما فرغ دولة الرئيس من إلقاء الخطبة أعادها إلى جلالة الملك، فتناولها جلالته وأعطاها إلى كبير الأمناء الذي سلمها إلى رئيس المؤتمر الوقتي، وهنا هتف رئيس المؤتمر «يعيش الملك» ثلاث مرات فردد الأعضاء هتافه، وعقب الهتاف وقف جلالة الملك وسار إلى المركبة الملكية، فأقلته إلى قصر عابدين وكانت الساعة حينئذ العاشرة والدقيقة ٢٥ وأطلقت في أثناء حفلة الافتتاح مائة مدفع ومدفع.