ترجمة حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل والزعيم المحبوب سعد زغلول باشا
مقدمة للمؤرخ
الحياة في هذا العالم المحفوف بالمكاره، الحافل بأنواع المسرات قسمان: قسم تبقى فيه شهرة الإنسان إلى الأبد، وهذه هي الحياة الدائمة، والثاني تندثر فيه أعمال الإنسان وكأنه لم يَكُنْ.
والعاقل في هذه الدنيا من يتطلب الحياة الخالدة، أما الجاهل فما أشد شغفه بالمظاهر الدنيوية الفانية من ملاذَّ واستمتاع، وليس من السهل وجود الشهرة لفرد من الأفراد، وما كانت الحياة الخالدة في العالم بمقدورة لكل الجماعات والأفراد؛ لأنها لا توجد عفوًا ولا تطلب من غير تعب، وإنَّنا ما سمعنا ولا رأينا في كتب الأولين وأخبار المتأخرين أن بطلًا من مشاهير الأمم نال شهرته عفوًا واستحق إعجاب أمته من غير نصب وجهاد.
هذا ولا يختلف اثنان أن سعد باشا أبلغ من كتب، وأقدر من خطب، وأعلم الناس بدخائل السياسة وضروبها، وأساليبها وألاعيبها، حلوها، ومرها، خيرها وشرها، وإننا مهما دوَّنا فلا يمكننا أن نوفيه حقه بل لاحتجنا إلى عدة مجلدات، وإننا الآن نكتفي بتاريخ حياته العظيمة، وأعماله الناصعة البيضاء، وموعدنا بذكر باقي أعماله الجليلة، ومجهوداته العظيمة، الجزء الثاني إن شاء الله.
مولده ونشأته
ولد سعد باشا في بلدة إبيانه مركز فوه غربية سنة ١٨٦٠م، ولما بلغ من العمر السادسة من عمره دخل مكتب البلد، وظل فيه خمس سنوات تلقى فيها القراءة والكتابة، ثم ذهب إلى دسوق لتجويد القرآن، ثم جاء إلى القاهرة ودخل الأزهر الشريف، ومكث فيه خمس سنوات تلقى فيها جميع العلوم على أفاضل علمائه كالمرحوم الشيخ حسن الطويل، وكان السيد جمال الدين الأفغاني العالم الكبير العظيم بالقاهرة وقتها، فسرعان ما تعرف به وبتلاميذه كالمرحوم الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، الذي حضر عليه «القطب على الشمسية» في المنطق، كما حضر عليه درسًا في التوحيد فلم ير في حداثة عمره كما لم ير في كبر سنه بابًا للعلم إلا وقصده ولا سبيلًا للمعرفة إلا وطلبه.
ولما علم لذوي الشأن سبقه كما عرف للناس من قبل علمه وفضله بما كان يكتبه باسمه يومئذ في الصحف، كجريدة مصر والمحروسة والبرهان والتجارة من المقالات البليغة عين محررًا بالوقائع المصرية سنة ١٨٨١م مع المرحوم الشيخ محمد عبده، الذي كان رئيس تحريرها سنة وبضعة أشهر.
ولقد كان ينشر الرسائل الواردة بنصها، ثم ينبه على الخطأ منها، وينتقد أحكام المحاكم الملغاة، ويلخصها حيث عهد إليه ذلك كما كان يكتب بتوقيعه مقالات في الاستعباد والشورى والأخلاق؛ لأنها كانت غير قاصرة على القسم الرسمي كما هو الحال الآن، ولم تقيد حريته من الصغر وظيفته كما لم يستهوه منصب ولا مال، ثم عين بعد ذلك سنة ١٨٨٣م معاونًا في الداخلية فناظرًا لقلم قضايا الجيزة، الذي لم يمكث فيه إلا أسابيع، وقامت الثورة العرابية فاتهم بأنه من أتباع المرحوم الشيخ محمد عبده ففصل من وظيفته، واتهم بالاشتراك في جمعية سرية باسم جمعية الانتقام، ولكن إدانته لم تثبت بعد التحقيق، وفي سنة ١٨٨٤م قيد اسمه في محكمة مصر محاميًا، فنهض بالمحاماة ورفع من قيمتها والناس إلى الجهل أقرب منهم إلى العلم بها، فكان فيها نصير الحق والمظلومين، ونبراس القضاء والمحامين، وحجتهم في القول ومرجعهم في المشكلات.
وهو أول محام تعين قاضيًا؛ ولهذا أقيمت له حفلة تكريم كبرى حضرها رئيس محكمة الاستئناف أحمد بليغ باشا، ووكيلها إسماعيل صبري باشا والأفوكاتو العمومي أحمد حشمت باشا، وغيرهم من أفاضل الأمة وأدبائها وكبرائها، ومما يذكر عنه أنه مكث ساعات يدافع عن متهم، فقال له أحد القضاة: إن الوقت ثمين فأجابه على البداهة «ولكن حياة المتهم أثمن».
ولقد تعلم في هذه المدة الفرنسية حتى كاد يعد من أبنائها، وصار من أدبائها ونبغائها، وفي سنة ١٨٩٢م اختارته محكمة الاستئناف مستشارًا من أول الأمر؛ لأن أصحاب المواهب العالية تخطبهم العلياء.
ولما كانت مسألة الكفاءة بغير الشهادات أمرًا من الأمور، التي لا يزال مشكوكًا فيها عند البعض كذبها الواقع أو صدقها دخل سعد باشا الامتحان في القوانين باللغة الفرنسية، ونال شهادة «الليسانس» وهو قاض في الاستئناف بعد أن جلس مجلس الطالب؛ لأن علو النفس يتطلب دائمًا الكمال والعلا، وفي سنة ١٩٠٧م عين وزيرًا للمعارف.
تولى سعد باشا وزارة المعارف فأقام فيها صرحًا من الإصلاح إذا كانت تعلم العلوم في المدارس بغير لغة البلاد، ولما كان حفظ الأمة بحفظ لغتها وتعليم العلوم بغير لغة الإنسان لا يمكنه من الوقوف على حقائقها جعل تعليم العلوم بلغة الشعب، وأوجد قلمًا للترجمة والنشر من خير المترجمين.
هو من شيعة المرحوم محمد عبده الذين امتازوا بالارتقاء والتهذيب، وهم الذين سماهم اللورد كرومر فريق «الجيروند» في النهضة الوطنية المصرية، وهو مصري عريق في وطنيته أجمع الناس على إكرامه والإعجاب به؛ لما اشتهر عنه من الاستقامة والاستقلال «والجيروند» ويقولون: بالملكية الدستورية.
ثم تولى بعد ذلك وزارة الحقانية والبلاد مسممة بجريمة تسميم الحيوانات، وإتلاف المزروعات فضرب على أيدي هؤلاء العابثين بالأرواح والمال، بجعل هذه الجرائم جنايات، بعد أن كانت جنحًا ليس لها من قوة الردع والزجر ما فيه الاعتبار والإقلاع عن ارتكاب الإثم.
وأذكر أخيرًا أيها السادة اسم رجل لم أشتغل معه إلا من عهد قريب، لكن معاشرتي القصيرة له قد علمتني أن أحترمه احترامًا عظيمًا، وإن أصاب ظني أو لم يخطئ كثيرًا، فسيكون أمام ناظر المعارف الجديد سعادة سعد باشا زغلول مستقبل عظيم للمنفعة العمومية؛ لأنه حائز لجميع الصفات اللازمة لخدمة بلاده، فهو صادق مستقيم كفء مقتدر شجاع فيما هو مقتنع به، وقد احتمل الطعن والذم من كثيرين دونه فضلًا بمراحل من أبناء وطنه، فهذه صفات سامية، فالواجب أن صاحبها يتقدم كثيرًا.
ولما اعتزل الحكومة لسقوط وزارة محمد باشا سعيد عام ١٩١٣م، انتخب وكيلًا للجمعية التشريعية عن الأمة مع وكيل ثان عن الحكومة، فكانت حياته النيابية مبدأ عصر جديد، فكم له من مواقف مشهورة، وأعمال مذكورة فقد كان لسان الجمعية وروحها وعلمها الفرد، ورجلها الفذ، ولقد كانت تهتم الصحف العربية والإفرنجية بنشر أعماله وأحاديثه بوجه خاص.
إذا كانت الحكومة تريد أن تكون الجمعية التشريعية مكتب تسجيل لقوانين الحكومة وأوامرها، فأنا بصفتي مصريًّا محبًّا لبلادي أفضل ألا يكون لمثل هذه الجمعية أثر في الوجود، نعم إن حق الجمعية في التشريع حق ضعيف جدًّا كما يقولون؛ ولهذا نستصرخكم يا حضرات النظار ألا يزيدوه بقوتكم ضعفًا على ضعف.
لو كنتم مسئولين أمامنا كما تسأل الحكومات في أوربا أمام برلمانها لحاسبناكم على أعمالكم، ولكننا قوم ضعاف لم يقسم لنا الحظ ما قسم للأقوام الأقوياء، فكل ما نستطيع أن نقوم به أمامكم هو أن نسألكم لا أن نحاسبكم، كل تقييد للحرية لا بد أن يكون له مبرر من قواعد الحرية نفسها، وإذا كان الشيء واضحًا كان البحث فيه موجبًا لغموضه، وإذا أردنا أن نحدد معنى الضوء والظلام انتهى بنا الأمر إلى ألا نعرف معناهما، لا يفوتكم أن تحتجوا على كل أمر ترون أن فيه مخالفة للقوانين مهما كان صغيرًا في نظركم، فربما كان لهذا الأمر الصغير علاقة في المستقبل بأمر كبير فيتخذ سكوتكم في هذا حجة عليكم في ذلك.
لم يطل عهد انعقاد الجمعية التشريعية؛ لتعطيلها إثر نشوب الحرب الكبرى وإعلان الأحكام العرفية في البلاد، فأراد سعد باشا أن يشغل نفسه بتعلم اللغة الألمانية، وهو في العقد السادس من حياته، ولم تكد تعقد الهدنة على شروط ولسن التي جاء فيها «لكل شعب حق تقرير مصيره»، حتى ذهب إلى دار الحماية في ١٣ نوفمبر سنة ١٩١٨، ومعه علي باشا شعراوي وعبد العزيز بك فهمي بصفتهم وفدًا عن الأمة يرؤسه؛ لتبليغ الحكومة الإنجليزية أماني الشعب المصري، واستصدار أمر بالسفر إلى أوربا لحل المسألة المصرية في وقت لم يتقدم فيه فرد ولا حزب ولا جماعة أخرى، فرفضت الحكومة الإنجليزية الإذن بالسفر، فتوالت الاحتجاجات وكثرت الاجتماعات، فصدر أمر في ٨ مارس من السنة المذكورة بنفي سعد باشا وأتباعه إلى مالطة، فحدثت المظاهرات والثورة المعرفة في البلاد إلى أن أفرج عنهم في ٧ أبريل سنة ١٩١٩، فسافر سعد هو وأتباعه إلى باريس باسم الوفد المصري للعمل على تخليص البلاد من يد الأجنبي في مؤتمر الصلح، فماذا رأى فيها؟
رأي سياسة الجفاء، ووجوه الإنكار والإغضاء، وهكذا تحابي الدول الدول كما تحابي الأفراد الأفراد، لكن هذا لم يفت في عزمه الحديدي ولا إرادته الصادقة على شيخوخته وكبر سنه علمًا بأن الحق لا بد أن يصرع الباطل يومًا ما، ولما سافر الوفد ونشر الدعوة في أوربا وأمريكا في كبريات الصحف الإفرنجية، وبين أحرار الأمم أزعج ذلك إنجلترا وأقلقها فمدت يدها إليه تصافحه، وأرسلت إليه تدعوه للحضور بلندن للاتفاق معه.
شيء لم يسبق له نظير من قبل، فكان ذلك أول فاتحة لقضيتنا، واعتراف من القوة بالحق، بل أول مرة من نوعها بين إنجلترا العظيمة ومصر الضعيفة، ولما دخل الوفد لندن استقبل استقبالًا عظيمًا من المصريين النازلين بها، وكانت عظمة سعد باشا النفسية أكبر من أن تؤثر عليها مظاهر الاحتفال والاحتفاء به، ومن ثم أخذ يواصل السعي والعمل لحل المسألة المصرية على وجه يكفل سلامة البلاد، ويحقق لها حقيقة الاستقلال حتى كان لا يعرف للراحة وقتًا، ولا لليأس من قلبه مكانًا، ولما كانت القوة في جانب الحق، والحق في جانب آخر لم يكن هناك أمل في اتفاق صحيح، فانقطعت المفاوضات، ورجع الوفد إلى باريس لتجديد دعوته ونشر مطالبه، وفي أثناء ذلك تشكلت الوزارة العدلية، ونشرت برنامجها للأمة ووعدت بأنها تتمشى مع الوفد ورغبات الأمة، فحضر سعد الصادق العزيمة المخلص والمحب لبلاده قبل كل شيء فاستقبل استقبالًا عظيمًا جدًّا من جميع الطبقات، حتى الجاليات الأجنبية بما لم يسبق لأحد من قبله؛ اعترافًا بإخلاصه، وتقديرًا لمجهوداته، وأصبح محل إعجاب الشيوخ والرجال، وأنشودة الشباب والأمهات في جميع أناشيدهم وأغانيهم، وصارت صورته الكريمة مطبوعة في القلوب كما طبعت على البطاقات والخطابات والكتب والمجلات والصحف والأواني، وزينت بها الدور، وكل ما يتناول تقريبًا في أيدي الناس حتى اندمجت الأمة في سعد وسعد في الأمة، ولم يكن سعد باشا ممن يملكون ألوف الأطيان ولا رءوس الأموال مما ساعد على تكوينه وظهوره، ولكن فطرته الصحيحة هي أصله، ومادته، وقوته، وشرف حياته العظيمة، ولقد رأت السلطة في البلاد نفيه ثانيًا إلى عدن، ومنها إلى جزيرة سيشل.
كان سعد زغلول باشا دائمًا في طليعة الحركات الوطنية المصرية، فقد اشترك وهو شاب في حركة عام ١٨٨٢م الوطنية، ولاقى نصيبه من الاضطهاد في سبيل تحرير وطنه، إذ سجن مدة في ثكنة قصر النيل التي سجن فيها وهو زعيم الأمة قبل نفيه إلى مالطة، وبينما كان استقلال مصر يعلن إذ بسعد باشا منفي في جزيرة منعزلة بالمحيط الهندي، ولعل هذا هو الذي قضى على التأثير الذي كان ينتظر من إعلان الاستقلال.
والظاهر أن السلطات الإنجليزية التي ظلت أربعين عامًا تعلن اهتمامها بالفلاحين المصريين، هذه الطبقة المجدة المفتونة بالسلام؛ لا تزال تثقل كاهل الشعب المصري بنير الحكم البروقراطي الذي يعتبره زغلول باشا «رجل الشعب»، وبطل قضيته؛ من ألد أعدائه، ولعل هذا هو السر في الموقف الذي وقفته الأمة يوم إعلان الاستقلال المصري!
إن الحركة المعروفة الآن «بالزغلولية» هي الحركة الوطنية التي أصبح سعد زغلول رمزها، وقد حققت الأيام تكهن اللورد كرومر، حينما أطراه في خطبة الوداع السالف ذكرها في هذه الترجمة.
وقد كان لانتصار الزغلولية التي لا تزال منتصرة في مصر الفضل في اعتراف بريطانيا العظمى باستقلال مصر، ولو أن بعض السحب قد عكرت مؤقتًا هذا النصر، فالحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الفضل راجع إلى آراء سعد باشا.
وما كاد يذاع النبأ في طول البلاد وعرضها وينشر البيان التاريخي الذي بني عليه قبول دولته للوزارة مع احتفاظه برئاسة الوفد، حتى سرت روح الحياة والاستبشار في القطر وتألفت الوفود من الأقاليم، وأقبلت للتهنئة رغم إعلان دولته رسميًّا للمديرين والمحافظين بأن لا يكلفوا أحدًا بالحضور للتهنئة، وأن يكتفى بإرسال البرقيات أو التهنئات البريدية، وكأنما كان هذا داعيًا لزيادة ثقة الأمة وحبها لزعيمها فأقبلت الوفود تترى وتألفت المظاهرات الكبرى، ورفعت الأعلام في كل مكان، وأصبح ما بين عابدين وبيت الأمة تيار لا ينقطع من المواكب والوفود والأعلام زهاء الأسبوع.
ولقد بدأت الوزارة السعدية أعمالها بحفظ كرامة البلاد، وافتتحت عهدها بإطلاق سراح المسجونين السياسيين الذين ذهبوا ضحية السلطة العسكرية، وكان في مقدمتهم البطل عبد الرحمن بك فهمي، بعد أن تعب رؤساء الحكومة السابقون في إطلاق سراحهم فلم يفلحوا.
ومن مآثرها أيضًا حفظ كرامة مصر في آثار الملك توت عنخ آمون، والحرص على آثار أجدادنا التي كان يتصرف فيها المستر كارتر الإنجليزي، كما يشاء، ذلك الموقف الذي ستخلده الأمة في بطون التاريخ لسعد وصحبه بالشكر والثناء.
سفر دولته إلى لندن والاعتداء عليه بمحطة القاهرة
وقد دعي دولة الرئيس الجليل إلى الذهاب للندن للمباحثات مع المستر مكدونلد رئيس وزارة الحكومة الإنجليزية، بناء على دعوة منه فيما يختص بالمسألة المصرية؛ ولتحقيق مطالب الأمة في استقلالها التام لمصر والسودان، وهذا ما أخذه على عاتقه من قبوله رئاسة الوزارة، وفعلًا حدد لسفره يوم السبت ١٢ يوليو سنة ١٩٢٤؛ ليتشرف أولًا بمقابلة جلالة الملك المعظم بالإسكندرية، وتقديم واجب التهنئة والتبريك بعيد الأضحى المبارك، وكانت محطة العاصمة قبيل هذا الميعاد مزدحمة بجمهور كبير من حضرات العلماء وأعضاء مجلسي الشيوخ والنواب والوزراء وكبار الموظفين، وغيرهم ممن اعتزموا السفر بهذا القطار إلى الإسكندرية لهذا الغرض نفسه عدا الذين كانوا فيها من المودعين، والذين جاءوا خصوصًا لتوديع حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل، وحضرات أصحاب المعالي الوزراء، وكان رجال البوليس مصطفين في جوانبها من الباب الخارجي إلى آخر الرصيف، الذي يسافر منه القطار إلى الإسكندرية وفي نحو الساعة ٧ والدقيقة الثامنة صباحًا أقبل حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل، ومعه حضرات أصحاب الدولة والمعالي والوزراء، فحياه المجتمعون بالهتاف والتصفيق المتواليين، ودخل دولته بين هذه المظاهر إلى الرصيف الذي يسافر منه القطار إلى الإسكندرية، وكان الصالون الملحق بهذا القطار لدولته والذين معه في مقدمته، فلم يكد دولته يتجاوز في الرصيف مركبات الدرجتين الثالثة والثانية، ويحاذي أول مركبة من مركبات الدرجة الأولى حتى برز له من بين الجماهير من الجهة اليمنى شاب بدين الجسم ببدلة كحلية اللون، وأطلق على دولته رصاصة من مسدس معه، وهم أن يثني بأخرى، ولكن أيدي الذين حوله كانت أسبق إليه من فكره، فغلت يده وأخذوا بتلابيبه وأوشكوا أن يقضوا عليه، لولا إسراع رجال الحفظ الذين خلصوه منهم، وأدخلوه إلى مركبة من مركبات القطار وحافظوا عليه فيها.
وقد لوحظ أن الرصاصة التي أطلقت على دولة الرئيس الجليل أصابته في الساعد الأيمن وجرحته، ولكنه كان رابط الجأش وقد خاطب الذين حوله قائلًا: «نموت ويحيى الوطن، ولكن ما كنت أتوقع أيها الإخوان أن تقع هذه الجريمة عليَّ من وطني وفي أرض الوطن».
وبعد أن أبل دولة الرئيس من مرضه وقصد الخروج من المستشفى إلى بيت الأمة، بعد أن مكث فيه ستة أيام بكر الشعب المصري الكريم إلى السرادق الكبير المقام في جوار بيت الأمة، وأتت الوفود من عظماء الأمة من النواب والشيوخ ورجال القضاء والنيابة، وتقدمت الوفود بين يدي الرئيس الجليل وخطب خطباؤها، وأنشد الشعر الجيد شعراؤها فكان لأقوالهم موقع استحسان عظيم من جانب دولته، وجميع الحاضرين ومن خير ما تفرد بالإجادة في البيان تلك الخريدة الشوقية، التي جادت بها قريحة حضرة صاحب السعادة أمير الشعراء أحمد بك شوقي، بل هي معجزة من معجزات شعره، تلتقي فيها الروعة والإبداع المرة بعد المرة في البيت تلو البيت، وهي كما يراها القارئ ديباجة صافية؛ لأنها من سريرته؛ ومعان علوية لأنها من خاطره وحكمة ملهمة؛ لأنها من شاعريته، قال حفظه الله:
•••
•••
وقال أيضًا حضرة الشاعر البليغ المجيد حافظ بك إبراهيم قصيدته العامرة في الحفلة، التي أقامها نواب مصر وشيوخها لرجل الكنانة ومعقد رجائها:
ومنها أيضًا:
•••
وكأن أهل القاهرة ومن لم يزل فيها من أعضاء الوفود، التي قدمت من المحافظات والأقاليم؛ لتهنئة دولة الرئيس الجليل بنجاته وشفائه على بينة من أن دولته اعتزم السفر صبيحة يوم الثلاثاء ٢١ يوليو سنة ١٩٢٤م إلى الإسكندرية؛ ليقوم بواجب الشكر للسيدة الملكية، كما كانوا على بينة من أن دولته سيستأنف السفر من الإسكندرية مباشرة إلى الأقطار الأوربية للاستشفاء، حتى بكر الجميع إلى الشوارع التي تقرر أن يسير فيها دولته إلى محطة العاصمة، فاصطفوا على جوانبها صفوفًا متلاحمة، وقد بدت على كل فرد منهم علامات الاهتمام واليقظة، كأنما كل فرد من هذه الألوف العديدة كان يعتقد أنه مسئول شخصيًّا عن سلامة الزعيم، وأنه مكلف بالمحافظة على الأمن وحسن النظام، وفي الساعة ٧ و٤٠ دقيقة برح دولة الرئيس بيت الأمة في مركبته الخاصة، وعلى يساره صاحب المعالي محمد نجيب الغرابلي باشا وزير الأوقاف وقتئذ، فتقدمت مركبته وأحاطت بها، وتبعتها كوكبات من جنود البوليس الراكبة بقيادة ضباطها، وتبعتها كذلك ثلاث سيارات تنقل بعض الكبراء والسكرتيريين.
ولم يكد دولته يظهر للجماهير بباب بيت الأمة، ويركب مركبته حتى دوى شارع سعد باشا زغلول بهتاف حاد وتصفيق شديد، وارتفعت الأصوات بصالح الدعوات، فكان لذلك تأثير بليغ ظهرت أمارته السارة على محياه الوضاء، وفي الساعة ٨ و١٠ دقائق تحرك الطائر الميمون وسط دعاء حاد، وهتاف عال امتزجت فيه أصوات الرجال القوية بأصوات السيدات الرخيمة، وما كاد القطار يصل إلى محطة الإسكندرية حتى كانت المدينة في حالة غير عادية، حيث قامت مظاهرات لا يحصى عددها، وكانت تتدفق كلها إلى محطة سيدي جابر، وفي كل حي من أحياء المدينة حفلات خاصة لا تحصى أقامها الناس للاجتماع، وتهنئة بعضهم بعضًا بشفاء دولة الزعيم الأكبر، ولقد يطول بنا المقال إذا خطر لنا أن نصف طرفًا من الحفاوة، التي لقيها دولته من الجماهير العديدة أثناء مسيره إلى أن بلغ كازينو سان استفانو، وبعد أن أخذ راحته فيه من وعثاء السفر توجه، وحضرات أصحاب الدولة والمعالي الوزراء إلى قصر المنتزة، حيث قدم لجلالة المليك المعظم واجب الشكر على ما أبداه من العطف بمناسبة الاعتداء الذي وقع عليه، فلاقى من جلالته كل عطف، مما أطلق لسانه بالشكر والثناء والدعاء بحفظ جلالته من كل سوء، وعاد إلى الكازينو ممتلئًا بشرًا وارتياحًا.
إن خطباءكم سيخطبون غدًا، ولا شك أن سعد باشا سيخطب كذلك والكلام يتعبه فسأوفد كبير أمنائي لأن يرجو منه ألا يطيل؛ لأن الكلام يتعبه وصحته أثمن شيء في الدولة.
ولا شك أن هذه العاطفة السامية والحنان الأبوي الصادران من جلالة مليك البلاد لأكبر دليل على ما لحضرة صاحب الدولة الزعيم الجليل من المنزلة العالية لدى جلالته.
هذا ولما تقرر سفر الرئيس الجليل على الباخرة لوتوس كان في انتظاره إلى دار الترسخانة جمهور عظيم، وكانت تحف به كوكبة من جنود البوليس الراكبة يبلغ عددها ٤٠ راكبًا، فلما مر أخذ الجمهور يصفق له ويهتف حتى وصل، وقد أعدت لجنة الوفد سرادقًا كبيرًا لاستقبال المدعوين، ومكانًا آخر لدولته وصحبه وزملائه، فدعي الرئيس إلى الجلوس في ذلك المكان وجلس المدعوون في السرادق المقابل له، وأخذ الخطباء يلقون خطبهم والشعراء قصائدهم مما سر قلب الرئيس الجليل، وفي منتصف الساعة الثانية عشرة خرج دولته من الكشك رافعًا يده اليمنى إلى عنقه بمنديل من حرير أبيض، كما خرج معه جميع زملائه فسار الزورق يقلهم بين الهتاف والتصفيق، وركب محافظ المدينة ومن كان معه من كبار الموظفين.
وقد أوفد حضرة صاحب الجلالة الملك كبير أمنائه إلى الباخرة لوتوس، فودع دولته بالنيابة عن جلالته كما أن حضرة صاحبة الجلالة الملكة أوفدت إحدى وصيفاتها لتوديع حرم الرئيس الجليل، وقدمت إليها باسم جلالتها باقتين كبيرتين من مختلف الورد والأزهار. وقد أبحر مع حضرة صاحب الدولة الرئيس الجليل والسيدة الجليلة حرمه المصون على نفس هذه الباخرة لمرافقتهما في مدة إقامتهما في أوربا؛ حضرات أصحاب المعالي واصف غالي باشا وزير الخارجية وقتئذ والسيدة قرينته، والدكتور حسن كامل بك كبير أطباء بندر طنطا وعضو مجلس النواب عنها، وأحمد حمدي سيف النصر بك، والأستاذ حامد جودة المحامي، وعبد الرحمن عزام بك، والأستاذ حبيب فهمي المحامي، والأستاذ كامل سليم. وأوفدت وزارة الداخلية مع دولته إلى أوربا ثلاثة ضباط، وهم حضرات القائمقام عبد الله بك فريد واليوزباشي علي البرعي أفندي، والملازم الأول علي حمدي أفندي، هذا وقد اتخذت الحكومة الفرنسية تدابير مشددة للمحافظة على الرئيس مدة إقامته في فرنسا.
عزيزي سعد
أشكركم لما أبديتموه من الاهتمام نحوي إزاء الانحراف الخفيف، الذي ألم بصحتي وسأشفى منه شفاءً تامًّا بإذن الله عما قريب. وإني أوجه إليكم تحياتي الودية الخالصة وأتمنى لكم صحة تامة دائمة، وكنتم قد قررتم السفر إلى عاصمة إنجلترا، فإني أسأل الله تعالى أن ينير لكم السبيل ويمدكم بالمعونة في المساعي والمجهودات التي تبذلونها لمصلحة وطننا العزيز وخيره، وإن أفكاري لتتجه بمزيد الاهتمام والعناية إلى مساعيكم وأعمالكم لتحقيق أمانينا الحيوية العظيمة.
سفر الرئيس الجليل إلى لندن وحبوط المباحثات
لا أستطيع الآن أن أقول سوى أنني مسرور لاغتنام هذه الفرصة لمقابلة صديقي مستر ماكدونلد، وسأكون من أسعد الناس إذا خولتني المحادثات أن أعود سريعًا إلى مصر بعد أن أبدد من الجو غيوم سوء التفاهم، وأمهد السبيل للمفاوضات، فيتصرف بمقتضى حسن العدالة الذي يتصف به العنصر البريطاني، وإن الحكومة البريطانية نفسها لا تقف بعد الآن في سبيل ذلك الاتفاق، الذي لا بد منه لتأسيس تلك العلاقات الطيبة التي يحتاج إليها البلدان كل الاحتياج.
وفي يوم ٢٥ سبتمبر سنة ١٩٢٤ الساعة ١٠ ونصف صباحًا، وصل دولة الرئيس إلى منزل رئيس الوزارة البريطانية في «دوننج ستريت»، فاستقبله على عتبة الباب مستر بلي، وإلى جانبه مس روز نبرغ السكرتيرة الشخصية الخاصة لمستر ماكدونلد، وذهب لمقابلة مستر ماكدونلد، ودام في محادثته إلى ما بعد الظهر، وكانت هذه المحادثة الأولية قاصرة على وضع تمهيدات يقصد منها إيضاح موقف الحكومة البريطانية، وموقف الحكومة المصرية في شأن ما نشأ من سوء التفاهم المختلف بين وقت وآخر، منذ أرسلت الدعوة الأولى إلى زغلول باشا في شهر أبريل سنة ١٩٢٤، وبعد عدة مقابلات بين الرئيس ومباحثات شديدة انجلت بانسحاب دولة الزعيم الأكبر مرفوع الرأس، وافر الكرامة، محتفظًا بكرامة بلاده، وذلك بعد أن تحقق من عناد رئيس الحكومة الإنجليزية وعدم إمكانه التساهل في هذه المحادثات، التي كان يؤمل بعدها الدخول في باب المفاوضات النهائية، خصوصًا وأن المستر ماكدونلد بين لدولته تمسك الحكومة الإنجليزية بالسيطرة على السودان، فلم يجد بدًّا بعد حبوط هذه المحادثات من العودة إلى مصر، وما كاد يصل لمصر حتى أسرع في نفس الأسبوع الأول من قدومه إلى تقديم استقالته لجلالة المليك المعظم، فاحتج مجلس النواب والشيوخ وكونا وفدًا تشرف بمقابلة جلالته ملتمسًا عدم قبول هذه الاستقالة، كما قد هاج الشعب المصري على بكرة أبيه، وقامت المظاهرات في طول البلاد وعرضها مؤيدة لهذا الوفد، فما كان من جلالة المليك المعظم إلا وحقق رغبته، ووافق على عدم قبولها تحقيقًا لرغبة الأمة بوجه عام وجلالته بوجه خاص، فلم يجد دولته بدًّا من الرضوخ لإرادة جلالة المليك المعظم، والشعب المصري الكريم الذي قدر جهاده حق قدره.
وحدث عقب ذلك تلك المناوشات التي قامت في السودان، وأعقبها أيضًا مقتل المرحوم السير لي ستاك باشا سردار الجيش المصري، وحاكم عام السودان، واحتلال الإنجليز لجمرك الإسكندرية، فبادر بالاحتجاج الشديد وأعقبه تقديم استقالته للمرة الثانية، وشدد في قبولها فقبلت فعلًا بتاريخ ٢٤ نوفمبر سنة ١٩٢٤، وسنأتي إن شاء الله في الجزء الثاني على وصف منفى الرئيس الجليل في عدن وسيشل وجبل طارق، وشيئًا كثيرًا من خطبه السياسية الرنانة التي ألقاها عقب عودته من منفاه.
صفاته وأخلاقه
ليس بين العالمين الغربي والشرقي من يمكنه إنكار بطولة هذا المجاهد العظيم والزعيم الكبير، وتمسكه الشديد بالدفاع عن حقوق البلاد بهمة لا تعرف الملل مع شيخوخته وكبر سنه، وأن التاريخ والواقع يؤيدان هذه الصفات السامية في شخصه الكريم، ولا مشاحة في أنه بطل مصر الأوحد، وعلمها المفرد صاحب المبدأ القويم والحزم الأكيد، ولا يتزحزح عن الحق قيد شعرة ولا يلين لمخلوق يريد خدعه قوى العارضة عظيم الذكاء، جرئ المخاطبة صادق النية خالص الطوية محبوبًا من جميع طبقات الأمة على اختلاف أنواعها وتباين مذاهبها.