ترجمة ساكن الجنان المغفور له محمد علي باشا الكبير
مولده ونشأته
انظر إلى خارطة بلاد الروملي في سواحلها الجنوبية على مسافة ٣٢٠ كيلومترًا من الأستانة غربًا ترَ قرية اسمها «قواله»، لا يزيد عدد سكانها على ثمانية آلاف نفس. وكان في تلك القرية في أواسط القرن الثامن عشر رجل اسمه إبراهيم أغا كان متوليًا خفارة الطرق، ولد له سبعة عشر ولدًا لم يعش منهم إلا واحد، وفي سنة ١٧٧٣ توفي هذا الرجل وامرأته عن ذلك الولد وسنه أربع سنوات واسمه محمد علي.
فأصبح الغلام يتيمًا ليس له من يعوله إلا عمه طوسون أغا، وكان متسلمًا على قواله فجاء به إلى بيته شفقة عليه، غير أن المنية عاجلت طوسون فقتل بأمر الباب العالي، بعد ذلك بيسير فأصبح الغلام يتيمًا قاصرًا وليس من ينظر إليه.
وما زال يتعاطى التجارة إلى سنة ١٨٠١ حينما عزم الباب العالي على إخراج الفرنساويين من مصر بمساعدة إنجلترا. وكان الفرنساويون قد جاءوا مصر تحت قيادة نابليون بونابرت سنة ١٧٩٨، فحاربوا الأمراء المماليك ودخلوها عنوة، وأقاموا فيها ثلاث سنوات والحكومة العثمانية تبعث إليهم الجنود، وتحاربهم تارة وحدها وطورًا بمساعدة إنجلترا، وهم قائمون بين إقدام وإحجام إلى سنة ١٨٠١م، فبعثت الحكومة العثمانية إليهم عمارة قوية تحت قيادة قبطان باشا وفيها قوات إنجليزية، وبعثت الصدر الأعظم في حملة من جهة البر.
ارتقاؤه منصة الأحكام
وكان محمد علي في جملة القوة البحرية، وقد تجند فيها في جملة من تجند في برواسطة بصفة معاون لعلي أغا ابن مربيه على ثلاثمائة جندي ألباني «أرناءوط».
فجاءت العمارة إلى أبي قير وكانت الغلبة هناك للفرنساويين، ثم عاد علي أغا إلى بلاده تاركًا رجاله تحت قيادة محمد علي، وكان هذا قد ترقى إلى رتبة بيكباشي.
ثم تغلب العثمانيون بمساعدة العمارة الإنجليزية، وحملة الصدر الأعظم، ودخلوا البلاد وأخرجوا الفرنساويين منسحبين انسحابًا قانونيًّا، وجعلوا يهتمون بتأييد سلطة الباب العالي فيها.
ويعتبر خسرو باشا الوالي الجديد على الديار المصرية من أشهر رجال الترك في القرن الثالث عشر، وكان ذا حظوة عظيمة لدى السلطان، وقد استحكم الخلاف بينه وبين محمد علي ونال على أثره رتبة «قبي بلوك» فرتبة «سرجشمه»، وأصبح قائدًا لأربعة آلاف، ساعيًا جهده وراء استمالة رجاله إليه، حتى أجمعت القلوب على محبته وألسنتهم على شكره. فلما أراد خسروا مطاردة المماليك ونزع البلاد من أيديهم وقاوموه مقاومات عنيفة، بعث لهم حملة عسكرية لكبح جماحهم فلم يفلح، فاضطر إلى إمداد جنوده بفرقة محمد علي، ولكن قبل أن تصل هذه الفرقة إلى ميدان القتال تقهقرت الحملة وفشلت، فتوهم قائدها أن أسباب هذا الفشل ورجوعهم القهقرى تأخر محمد علي وفرقته ورفع تقريرًا مسهبًا لخسرو باشا، فأضمر له الشر وبعث يطلب محمد علي ليلًا، فأقبل وأتى إلى مصر موجسًا شرًّا من هذه الدعوة، ودخل إلى القلعة وعلى أثر مجيئه تمرد الجند لتأخير صرف رواتبهم وثاروا وحاصروا الخزانة، ونهبوا وسلبوا القاهرة فاعتصم خسرو باشا بالقلعة، وأصلى العصاة منها نارًا حامية، فأراد إذ ذاك طاهر باشا قائد فرقة البانية وعددها (٥٠٠٠) أن يتوسط بين خسروا والعصاة، فأبى خسرو ورفض وساطته فانضم العصاة عليه، ولما لم يجد خسرو لديه حينئذ جندًا تحميه ولى هاربًا إلى دمياط، وبقى بها ينتظر فرصة يسترد فيها ما فقده.
ولما علم طاهر باشا بذلك جمع رؤساء العلماء وأشراف العاصمة وشاورهم في الأمر، فرضوا أن يكون نائبًا عن الوالي عليهم، فأعلن أنه هو الحاكم على مصر حتى يولي الباب العالي خلفًا لخسرو باشا، وذلك في صفر سنة ١٢١٨ﻫ/مايو سنة ١٨٩٣م، وكان من سوء طالع طاهر باشا أنه وقع في نفس الحيرة، التي وقع فيها خسرو إذ لم يمكنه دفع مؤخر رواتب الجند. وبعد اثنين وعشرين يومًا من قبضه على زمام الأحكام تألب عليه الجند، واغتاله ضابطان هما «موسى أغا وإسماعيل أغا» بعد أن تظلما من تأخير رواتب الجند.
فأصبح محمد علي بعد هرب خسرو وقتل طاهر باشا رئيس الجند غير المماليك من الأرناءوط وغيرهم؛ لأن رتبته في الجيش تلي رتبة طاهر باشا، وقد طمحت نفس أحمد باشا قومندان الضبطية إلى الاستيلاء على مصر، فلم يتوصل إلى أمنيته؛ لأن محمد علي كان اتفق مع عثمان البرديسي وإبراهيم وكلاهما من أمراء مماليك الصعيد على إخراجه من القاهرة، ولما نفذ هذا الاتفاق توجه البرديسي إلى دمياط في ١٤ ربيع أول سنة ١٢١٨ﻫ وأسر خسرو باشا، ولما علمت الدولة العلية ذلك عينت علي باشا الجزائري واليًا على مصر، ونزل هذا الوالي الجديد بالإسكندرية في ربيع الأول سنة ١٢١٨ﻫ/٨ مايو سنة ١٨٠٣م، فرأى أنه لا يمكنه مقاومة البرديسي ومحمد علي بحد السيف فاتفق معهما ظاهرًا، على حين أنه كان يعمل في الخفاء على هدم قوتهما وتكوين حزب وطني مصري يناهض المماليك. ولكن من سوء حظه أن بعض مراسلاته مع السيد «السادات وقعت في يد البرديسي وكان هذا ضيفًا عنده»، فاحتال البرديسي في قتله وتم له في شوال سنة ١٢١٨ﻫ/يناير سنة ١٨٠٤م، وكان للمماليك رئيس آخر مع البرديسي يدعى محمد بك الألفي، الذي كان سافر إلى إنجلترا؛ ليطلب منها المساعدة التي تنيله الاستئثار بحكم مصر، فلما عاد منها ووصل إلى ساحل مصر علم أنه لا يمكنه الوصول إلى ضالته إلا بتوحيد قوى المماليك، وجعلهم تحت حماية الإنجليز، وكان ذلك لا يتم له إلا باتحاد مع البرديسي عدوه العنيد وإبراهيم بك الكبير، فلما نزل عند أبو قير قابله أعوانه بكل حفاوة وإكرام. وإذ كان في ريبة من أمر البرديسي اتخذ مسكنه في دمياط، وأصدر الأوامر إلى أتباعه بالاجتماع في ضيعة بالجيزة، ومعهم كل ما يمكن جمعه من العدة والعدد على أن يلحق بهم فيما بعد، إلا أن وصوله إلى الديار المصرية لم يرق في نظر كل من البرديسي ومحمد علي؛ لأن الأول رأى أن من الخطل أن تكون نتيجة خلعه واليين وقتله ثالثًا أن يشاركه في السلطة مناظر كان بعيدًا عن الديارة المصرية أثناء حربه معهم، وفاته أنه لو اتحد مع الألفي ومع إبراهيم بك لاستعادوا سلطة المماليك في مصر؛ لأن محمد علي غريب عن البلاد وهو وحده لا يقوى على مقاومتهم، ولكن تدبير محمد علي ودهاؤه وسعوده كلها حالت دون اتفاقهم، فاتفق الاثنان على أن يتخلصا من محمد الألفي. وفعلًا حاصر محمد علي ومن كان معه من الألبانيين قصره في الجيزة وأخذ أتباعه على حين غرة، وقتل منهم خلقًا كثيرًا وفر الباقون، أما عثمان البرديسي فصار بجيشه؛ ليفتك بالألفي في طريقه إلى القاهرة فقابله بالمنوفية هو وحاشيته، فأفلت الألفي من يده وهرب إلى سوريا، وأما من كان معه فقتل معظمهم وسلب كل ما معهم من المتاع والمال، وظل البرديسي في القاهرة يتصرف في شؤونها كيف يشاء وضرب على الأهالي الضرائب الفادحة حتى أثقل كواهلهم؛ لكي يصرف رواتب الجند فلم يكن للأهالي طاقة لقبول هذه الضرائب فثاروا ضده، وحملوه على الهرب في عام ١٨٠٤م إلى سوريا، ولما صفا جو مصر لمحمد علي، ولم يبق فيها سواه أرسل خسرو باشا إلى الأستانة إبعادًا، وجمع لديه علماء مصر ومشايخها واستشارهم بتعيين خورشيد باشا حاكم الإسكندرية واليًا على مصر، فوافقوه على شرط أن يعينه حاكمًا للقاهرة، ورفعوا القرار للباب العالي فصدق عليه في ٢٣ محرم سنة ١٢١٨ﻫ.
وفي ٥ جمادى الثاني تبوأ السلطان محمود الثاني عرش الخلافة على أثر تنازل السلطان مصطفى، فاستمد محمد علي رضاء الخلف عنه وضم الإسكندرية لولايته، ثم أمره في السنة التالية حيث استفحل أمر الوهابيين في شبه جزيرة العرب، حتى امتدت شوكتهم من الشمال إلى صحراء سوريا، ومن الجنوب إلى بحر العرب، ومن الشرق إلى خليج العجم، ومن الغرب إلى البحر الأحمر، بأن يجمع الجنود ويذهب بهم إلى حيث يشتت عملهم قوة واقتدارًا، فصدع محمد علي بالأمر وأرسل ثمانية آلاف مقاتل مع ولده طوسون باشا، ولكن أوجس من المماليك شرًّا بعد سفر هذه القوة فدعاهم لوداع ولده الذي عين للاحتفال أجلًا محدودًا، وهو اليوم الخامس وفي شهر صفر سنة ١٢٢٦ﻫ، فتوافدت وفود المماليك يومئذ إلى القلعة يتقدمهم زعيمهم شاهين بك، ولبثوا حتى إذا سار الموكب والمماليك وراءه محتاطين بالمشاة والفرسان ووصلوا إلى باب القلعة. أمر محمد علي بوصد أبوابها فوصدت، وأشار إلى جماعة من أخصائه الأرناءوط فهجموا على المماليك وحكموا سيوفهم في رقابهم حتى قتلوهم جميعًا وعددهم ٤٠٠، ولم ينجح منهم إلا أحمد بك وأمين بك وبعد وصول حملة طوسون إلى حيث كانت قاصدة قابلها الوهابيون، ثم جمعوا قواهم وعادوا فبددوا شمل الوهابيين، وقد أمدهم محمد علي بكثير من الجند فهجمت على الوهابيين وقهرتهم، واحتلت مكة المكرمة، وفي سنة ١٢٢٨ﻫ عاود الوهابيون الكرة على حملة طوسون في ترابيا «تراباة» وكانت خسائر هذه الهزيمة عظيمة جدًّا، حتى إن سعودًا زعيم الوهابيين زحف بجيشه على المدينة ثانية وهددها بالأخذ عنوة.
ولما وصل خبر هذه النكبة إلى محمد علي عزم على أن يتولى قيادة الجيش بنفسه فأخذ العدة، وتوجه إلى الأقطار الحجازية. ولما وصل هناك أدى فريضة الحج، ثم علم من بعض الأفراد أن الشريف غالبًا مذبذب في ولايته فاحتال في القبض عليه بواسطة طوسون ابنه، وأرسله إلى القسطنطينية حيث قتل هناك بعد مدة وجيزة، وفي أوائل سنة ١٢٢٩ﻫ/سنة ١٨١٤م مات سعود الثاني، وبموته فقد الوهابيون أعظم ساعد وأكبر بطل، وخلفه ولده عبد الله، فعهد هذا بمحاربة المصريين «لأخيه فيصل»، فحاربهم في كثير من الأرجاء ولم يفز من عواقب هذه الحرب إلا بالفشل والخجل. ولما اطمأن محمد علي على ولده من قوة الوهابيين عاد إلى مصر وترك ابنه هناك لإبادة أعدائه وخصومه، فوصل القاهرة في ٤ رجب سنة ١٢٣٠ﻫ/سنة ١٨١٥م، وخصوصًا أنه اتصل به هرب نابليون من منفاه في «ألبا»، فرجع عن طريق الأقصر، فقنا، فالقاهرة، وعلم له أيضًا بتدبير مؤامرات على عزله وقتله، فظن أن ذلك بإيعاز من رجال الباب العالي. أما رئيس المؤامرة فهو «لطيف باشا» أحد المماليك، وكشف سر هذه المؤامرة الفظيعة «الكخيا لاظ أوغلي باشا»، فقتل لطيفًا ومن معه بعد أن حاول الهرب والاختفاء، وكان غرضه أن يكون واليًا على مصر إذا نجح في قتل محمد علي، وعند عودة محمد علي هم بتنظيم جيشه على الطراز الغربي، وفي خلال ذلك رجع ولده طوسون ناجحًا، ولكنه لم يصل ثغر الإسكندرية حتى توفاه الله عقب مرض لم يمهله أكثر من عشر ساعات.
فتح السودان
ثم أخذ محمد علي بعدئذ في العناية بأحوال الجهادية فأسس لها مدرستين حربيتين الأولى للمشاة في الخانكا، والثانية للطوبجية وعين لها نظارًا فرنساويًّا يدعى الكولونيل «ساف»، وهو الذي اعتنق الإسلام، وسمي سليمان باشا الفرنساوي ثم أنشأ في القاهرة معامل لسبك المدافع والرصاص كما شاد في الإسكندرية حصنًا حصينًا، ثم التفت بعين عنايته إلى داخلية البلاد فأصلح شؤونها وعني بزراعتها وتجارتها، فأتى ببذور القطن الأمريكي من الهند، وأكثر من زراعة الأشجار في البنادر والثغور والعواصم والأباعد والجفالك؛ تلطيفًا للهواء وهبوب الزوابع في الصيف ثم أنشأ ميناء الإسكندرية، وحفر ترعة المحمودية، وبني معامل للقطن، والنيلة، والطرابيش، وشيد مدرسة طبية وصيدليات ومستشفيات بنظارة الدكتور كلوت بك.
وفي عام ١٢٦٢ﻫ توجه إلى دار السعادة فأكرم جلالة السلطان الأعظم وفادته، ثم عاد إلى مصر شاكرًا داعيًا وفي أثناء رجوعه مر على «قوله» وطنه الأول، وبني فيها كثيرًا من الأبنية الخيرية لفقرائها، وظل في مصر بين آيات التعظيم وتحت رايات التبجيل لغاية سنة ١٢٦٤ﻫ، إذ مرض مرض الشيخوخة وخلفه ابنه إبراهيم باشا، ونقل هو للإسكندرية تبديلًا للهواء، ولكن لم يستقر به المقام حتى توفاه الله في ١٨ رمضان سنة ١٢٦٦ﻫ الموافق ٢ أغسطس سنة ١٨٥٠م، وكان عمره إذ ذاك ٨٤ سنة قمرية، ثم نقلت جثته إلى القاهرة بمزيد الاحتفاء والاحتفال، ودفنت بجامع القلعة بملء الإكرام. تغمده الله برحمته ورضوانه وأسكنه فسيح جناته.