ترجمة حضرة صاحب السعادة السري الجليل قليني فهمي باشا
تاريخ المغفور له يوسف بك عبد الشهيد
قليني باشا رجل ديموقراطي المبدأ يقيم في مصر سبعة أشهر وفي أوربا خمسة، ومشتاه في حلوان، وهو على جانب من الثروة، ومن أكبر الأسر في الأقباط.
وله ولع بالأسفار وشدة شغف بالسياحة، ساح في فرنسا، وإنجلترا، وإيطاليا والنمسا، والمجر، وألمانيا، وسويسرا، وروسيا، وزار تركيا، واليونان، وبلغاريا ورومانيا، وهو من المصريين الأفذاذ الذين قاموا بالسياحات في الجزائر وتونس.
ولو قدِّر لك ورأيت صاحب الترجمة لرأيته رجلًا حاضر الذهن، قوي الفكر رقيق الشعور، يخيل إليك أنك تقرأ في أسارير وجهه مكنون سريرته، وإنك لتجد منه استئناسا وبشرًا ورقة خلابة، فإذا ما سايرته وبادلته الرأي وقارضته الحديث أيقنت ساعتئذ أنك في حضرة عظيم يضطرك إلى احترام رأيه، والتسليم به وأن تذهب معه المذهب الذي يريد وقد يبهرك بالحجة، ويبغتك بالبرهان فلا ترى وجهًا لمنازعة القول ولا تفارقه إلا وأنت مطمئن الرأي موفور الإقناع قوي الفكر، ذلك لأن للقوة عدوى سريعة الظهور فكل ما يجعلنا أقوياء في الرأي والروح والوجدان يزيد في قوتنا، ويفتح أمامنا أبواب العمل ويبسط قبالتنا ميدان الفعل ونحن بني الناس مدينين لكل قلب كبير، وعقل عبقري، ولسان عذب، وروح متقدة، ونحن لا نستمد شيئًا من المجتمعات وإنما من تلك الأرواح الرقيقة، والقلوب الشريفة التي تخرجها لنا القوة الإلهية بين عديد ما يتخرج في كل يوم من تلك القوالب الإنسانية المعتادة، التي لا يفترق بعضها عن بعض إلا في أحجامها وأشكالها واختلاف تركيبها.
وإنك ليتبادر إليك في لغة حديثه إذ أنت جلست إليه معان جمة ما شئت من أدب وعلم وفضل واستمكان، وإن من الناس من يحاجك كأنك خصمه، فلا يزال يعطيك من صخبه وشدة جدله حتى تقوم من حضرته وأنت لحديثه كاره، ولكن الأناة والتؤدة والقول العذب اللين من شأن الرجل العظيم، وهذا ما نشعر به في حديث صاحب الترجمة وإنك لتصغي إلى قوله وهو يتدفق متدبرًا متئدًا، فيخيل إليك أنه يتناول من ذاكرة حافلة مترعة وليس بمرسل القول للعفو والساعة، وهذه خلة كانت ولا تزال نصيب راجحي العقول موفوري الحجى.
وقليني باشا بالإجمال عبارة عن حركة عمل لا تهمد، وشعلة من نار لا تخمد، فإنه بينما كان يدير جملة مصالح في آن واحد، نذكر منها مصلحة الدخوليات بمصر وإسكندرية وعموم مدن القطر المصري، كان يدير أيضًا مصالح الملح والنطرون، ومصالح مصايد الأسماك بالنيل وفروعه وبالبحر الأبيض المتوسط، ومصلحة الملاحة من وابورات ودهبيات ومراكب وفلايك ومعادي، ونحو ذلك من كباري وأهوسة، ومصلحة الضربخانة ودمغة المصاغات، وقسم المستخدمين كان أيضًا مديرًا للإدارة العمومية ورئيسًا لمجلس التأديب، وفي الوقت عينه كان عضوًا بلجنة تعيين المستخدمين بالحكومة وبلجان عديدة أخرى، وفضلًا عن سعيه المتواصل في إبطال جملة ضرائب كانت ثقيلة على النفس، فإن الإيرادات للمصالح التابعة إليه زادت ٥٠٪ خمسين في المئة من ضبطه للأعمال ودوام يقظته، وعند استقالته من خدمة الحكومة لم يتبع سنة أرباب المعاشات من الانكماش عن العمل، كلا بل ظهر في ميدان العمل بحرية أكثر من قبل ونشاط فوق نشاطه المعتاد، حتى كان يتصور للإنسان أن وجوده في خدمة الحكومة كان مقيدًا لحريته، وقد بث مبادئه ونشر معلوماته فاشتغل في نشر أفكاره على صفحات الجرائد بما يعود بالخدمة النافعة لمصلحة البلاد خصوصًا بالمسائل الاقتصادية، فعرض جملة اقتراحات نافعة منها إنشاء بنك وطني رأس ماله يكون من ضريبة القطن حتى يكون أمره منه وإليه؛ ليحمي البلاد من الأزمات المالية التي وقعت فيها بسبب قفل البنوك الأجنبية في وجه العامة عند الاقتضاء والحاجة، ومنها اقتراح على الحكومة بسد ديون الأهالي وقيامها مقام البنوك العقارية حرصًا على ثروة البلاد العقارية من ضياعها ووقوعها بين أيدي الأجانب، وكثير من المشروعات النافعة السديدة، ومن مبادئه التي اشتغل بها على الدوام حب الصلح والسلام، ودوام المسالمة بين العناصر، وخصوصًا القبطي والمسلم حتى عده الخطباء والعقلاء برسول السلام عندما كان يسعى لإزالة الخلاف الذي تسبب بسبب المؤتمرين القبطي والمسلم، فهو القبطي الوحيد الذي لم يستحسن إقامة المؤتمر القبطي، حيث كان يرى أن ذاك يكون سببًا لعداوة إخواننا المسلمين وقاموا عليه الأقباط وقتها، ولكنهم في النهاية قدروا رأيه السديد، وهو كثير الاهتمام بالشؤون العمومية غير مبال بما يطعن في حقه ما دام يحقق نفع عمله للمجموع، وله مواقف عديدة بالجمعية التشريعية تشهد له بعلو الهمة واستقلال الرأي مع سرعة الخاطر، وهو رجل حاد المزاج شريف العواطف مخلص وفيّ يميل لإنشاء دور العلوم والمعارف، يحب المطالعة ويحترم الرأي العام ويعظم قدر الجرائد النافعة المجردة عن الغاية والمصلحة الذاتية، وله ولع بتربية أولاد الفقراء والمساكين، ويزور مدارس الأيتام من حين لآخر، ويمدهم بالمساعدة، لطيف المعاشرة بشوش الوجه يسحرك بلطفه إذا تكلم، وتقوم من مجلسه وأنت مسرور الخاطر شاكرًا ما لقيته من لطفه المتناهي وحديثه العذب، وولعه بنشر راية العلم، قد أوقف عشرين ألف متر لإقامة دائرة معارف عليها للبنين والبنات، وقدرت بعشرين ألف جنيه.
أما الآن وقد حررنا هذه المقدمة بإجمالية ما عرفناه عن صفات المترجم، فنأتي الآن على تاريخ حياته بالتفصيل فنقول:
مولده ونشأته
سطع كوكب ميلاده الوضاء في غضون سنة ١٨٦٠م بنزلة والده يوسف بك عبد الشهيد، وهي قرية من قرى الصعيد في مديرية منية ابن خصيب (المنيا) تعرف قديمًا بنزية الفلاحين، وكان المرحوم والده شديد العناية بتربيته، ولما توسم فيه مخائل الفطنة ودلائل النجابة أدخله مدرسة الأقباط الكلية في مصر القاهرة، وكان يومئذ يناهز الثانية عشرة من العمر، فجاء في جملة فريق من إخوانه، ولبث مكبًّا على الدرس باذلًا جهد استطاعته فيه.
أقام صاحب الترجمة في المدرسة وهو كلما انتهج سبيلًا من سبل العلم استنفد وسعه في إتمام تحصيله، حتى أصبح مثلًا سائرًا على السنة الطالبين والمعلمين، فقرأ العربية على الشيخ محمد القنائي النحوي الشهير وأخذ الفرنساوية عن مصطفى بك رضوان أشهر العارفين بها في ذاك الزمان، وحفظ ألفية ابن مالك وشرح ابن عقيل، وكان مولعًا بالكتابة والمناظرة ينتقد كل فاسد من الأخلاق والعادات، ونال من نظارة المعارف العمومية مدة دراسته جوائز جمة مكافأة له على اجتهاده وفوزه ونجاحه، واشتهر صاحب الترجمة بالجرأة على مخالطة كبار القوم إلى حد هو بالمناظرة أشبه.
أشغاله الحكومية
عين المترجم في ١٨ أبريل سنة ١٨٧٥ سكرتيرًا بديوان جفالك الدائرة السنية، وكان موضع ثقة جميع الناس لما عرف به من النشاط والصدق في أدائه عمله، وكانت أعمال الدائرة السنية في تلك الأيام سائرة بطريق السخرة، وما أدراك ما السخرة فالزارعون والحاصدون وحافرو الترع، يؤتى بهم من أقاصي بلاد الصعيد زرافات وأفواجًا، وكلهم عاملون من غير أجر فكنت ترى القائمين بهذه الأعمال الشاقة شيوخًا وولدانًا كهولًا وشبانًا نسوة ورجالًا أرامل وأيتامًا، ومنهم المرضى وذوو العاهات، ومنهم الحبالى من النساء، وأخريات يحملن في يد رضيعهن وهن مثقلات بالأحمال في اليد الأخرى وعلى الرءوس. كان لهذه السخرة من نفس صاحب الترجمة موقع استياء واشمئزاز يدب في إحساسه، ويستفز من عواطفه كلما شاهد من آثارها أثرًا، ولكنه لم يستطع أن يشير بما يشتم منه رائحة اللوم أو عدم الرضا، وكيف وكل من عرّض بشيء من هذا في تلك الأزمان انصبت عليه مصائب الطرد والحرمان، ولم يزل قليني باشا ساخطًا على تلك السخرة الممقوتة ناقمًا عليها إلى أن تشكلت في مصر وزارة للمرة الأولى برئاسة المأسوف عليه نوبار باشا، وابتدأت يد الانتظام تتناول كل مختل من الأحكام، فدار في خلد المترجم أن يجعل هذه البداءة نهاية لتلك المظالم الفادحة، لذلك حادث في أمر هذه السخرة صاحب الفضل المأثور رجل المروءة وكل عمل مشكور، سلطان باشا رئيسه في ذاك العهد، مبينًا مضارها بمصلحة البلاد والعباد، طالبًا إليه بذل وسعه في أن يؤدي أعمال الدائرة عمال يتقاضون أجورهم على شروط عادلة كافلة بالمرام. وقال في ذلك كلمة حق: إن كل عمل لم يؤده خبير به يرى إليه نفعه ومنه كسبه ساءت فيه آماله، وانثنت عنه أمياله فكانت رغبات المرحوم سلطان باشا موافقة تمام الموافقة على هذه المبادئ، فتابعه فيها واتفق معه عليها؛ لأنه رحمه الله كان من خيرة القوم وأشرف أهل عصره نفسًا وإحساسًا، فكتب في هذا الصدد كتابًا وأنفذ به صاحب الترجمة إلى رئيس الوزارة، فقابله نوبار باشا بالترحاب والإيناس، وكان أن استدعى المرحوم سلطان باشا إلى مصر، وأخذت هذه السخرة دورًا كبيرًا في دائرة الحكومة، وانتهى الأمر بإلغائها، وقام بتنفيذ ذلك سلطان باشا، وكان صاحب الترجمة عضده الأقوى فيه.
وفي سنة ١٨٨٢م تعين قليني باشا وكيلًا لديوان عموم الجفالك، وقد انتابت البلاد في تلك الأثناء الحادثة العرابية المشهورة، وألصق بالمرحوم شاكر باشا مدير المنيا وقتها تهم باطلة أخذ من أجلها مغللًا بالقيود، ولاقى من جرائها ضروب الذل والهوان، فلما رأى ذلك المرحوم نعماني باشا مفتش عموم الجفالك إذ ذاك، خاف أن يصيبه ما أصاب هذا المدير فتمارض واستصدر الإذن في إجازة له، وغادر ديوان الجفالك يديره صاحب الترجمة ويتولى جميع أمره تحت مسئوليته.
- أولًا: قطع قطبان السكك الحديدة الزراعية في أرض التفاتيش جميعها، وإرسالها هي والأدوات المتعلقة بها إلى مخازن الحربية، وكذا أخشاب ومهمات التلغراف الزراعي.
- ثانيًا: قطع كل أشجار تفاتيش الدائرة وتهيئتها لمطابخ الجيش.
- ثالثا: إنفاذ كل المحصولات الموجودة في الجفالك والفابريقات.
فتلقى صاحب الترجمة ذلك باستغراب لا مزيد عليه، وكتب للحال إلى المدير يقول له: إنني أود تنفيذ الأوامر التي بعثتم بها إلي إذا كنت في مقام المالك لهذه التفاتيش، ولكني موظف بها أتبع في مثل هذه الحال أوامر مجلس الإدارة الأعلى، فهو رقيب علي في جميع أعمالي محاسب لي على كل كبيرة وصغيرة آتيها، وهو وإن كان لكل دولة عضو عامل فيه إلا أنه لا يعظم على قوة الجيش أن يستصدر أمره بكل شيء أراده، ثم قال: ولو فرضنا بصدور أوامر بإجابة الطلبات المنوه عنها، فليس من المعقول أن يتيسر نفاذ كل ذلك في مسافة ٢٤ ساعة.
كان عاقبة هذا أن عد المترجم من العصاة، وجاء الأمر بإرساله إلى الطوبخانة مكبلًا بالأغلال فدعاه المدير إليه لإبلاغه هذا الأمر فلم يجزع ولم يضطرب، وقال له: إنني آسف أن مديرًا مثلك لا يفهم ما يكتب إليه فيؤديه جهله به إلى سوء العاقبة والإضرار بالناس، فإني ما عصيت أمرًا، ولم أعارض فيه، ولكني بسطت لك الحالة، وكأني أريك به الباب الذي منه تدخل توصلًا إلى نيل مطلوب العرابيين؛ ولكي أنال تخلصًا من شر التبعة فيه. وأطال معه الكلام على هذا الأسلوب المؤثر موهمًا إياه أنه سيلقيه عند العرابيين تحت ذنب كبير، فلم يجد المدير مناصًّا من التماس العفو عنه، وقد كان، وخرج قليني باشا من هذه الورطة فائزًا بفضل ثباته وفرط دهائه وقوة بيانه.
وجاء صاحب الترجمة مصر بعد خمود نيران هذه الثورة يوم كان المرحوم سلطان باشا نائبًا عن الحضرة الفخيمة مكلفًا بإدارة شؤون البلاد، وقائمًا بعمل تحقيق عمومي فكان بيته أشبه شيئًا بيوم الحشر تؤمه الألوف من الناس ما بين متظلم ومبلغ ومنفذ ورسول، والأوامر تتوالى بسجن كل من وجهت إليه تهمة الاشتراك في الثورة، وإرجاء التحقيق إلى ما بعد، وبينما كان المترجم على مائدة المرسوم سلطان باشا في محضر من أعاظم القوم، إذ ورد تلغراف يوهم فيه مرسله أن نيفًا وأربعين من عمد مديرية الفيوم ليسوا بمخلصين للذات الخديوية ومن أكبر العصاة للأوامر الحكومية، فأشار سلطان باشا بالاتيان بهم محتفظًا عليهم، فقال له صاحب الترجمة: أيأذن لي الباشا أن أقترح عليه شيئًا يذهب بكثير من متاعبه هذه؟ قال: نعم. قال: الأولى أن تصدر أمرًا بحبس جميع أهل القطر كله، فكلهم ما بين مشترك في الثورة ومجامل للعرابيين ومعتزل عنهم لا يأمن شر الواشين الآن. فأطرق الباشا قليلًا وقال له: إن في قولك لحكمة وعظة. وقد استدعى كلام المترجم شفقته على من زج في السجن إلا من ثبت عليهم أمر، وانتهج سبيل رحمة غير هذا السبيل.
وفي أول أبريل سنة ١٨٨٦م عين قليني باشا عضوًا في الدائرة السنية، وكانت هذه بمثابة مجلس ابتدائي لمجلسها الأعلى.
ومما يذكر له بالمدح والإطراء من أعماله فيها أن جل القواعد الأساسية، التي وضعت للدائرة السنية إنما هي من موضوعاته ومقترحاته، وله من الطرق الإصلاحية والاقتصادية في أحوالها الزراعية أعمال كثيرة، نال بسببها ثقة قلما حازها غيره من وصفائه، فكانت كتب الشكر تترى عليه من جانب المجلس الأعلى حينًا بعد حين.
وفي مارس سنة ١٨٨٧ أنعم الجناب العالي المغفور له توفيق باشا الخديوي الأسبق عليه برتبة المتمايز الرفيعة الشأن.
وفي أول شهر يناير سنة ١٨٨٨ عين مفتشًا عامًّا للدائرة السنية، فلم يكن من مشكل في أعمالها إلا كانت له اليد البيضاء في حله.
أخبرني أحد العارفين بسيرته قال: ورد إلى الدائرة ذات يوم كتاب من مفتش لها في بلاد الصعيد، وكان موثوق بقوله لديها قال فيه: إنه لا ثقة له بجميع مستخدمي ذلك التفتيش، وطلب نقلهم كلهم إلى تفاتيش الدائرة الأخرى مبينًا لذلك أسبابًا يتوهم المطلع عليها صدقها، وأن في الأمر غاية غير محمودة العقبى، وقال في آخر كتابه هذا: إنه إذا لم تجبه الدائرة إلى ما يطلب فلا مسئولية عليه فيما يكون، فارتجت لذلك الكتاب أرجاء الدائرة، وأوشك المجلس الأعلى أن يقرر فيه بالإجابة، لولا أن قام من بين أعضائه طالب يسأل التروي قبل هذا القرار، وارتأى أن يعهد إلى صاحب الترجمة في التحقيق أولًا، فإذا ظهر أن القول حق لم يكن لاحتمال الظلم مظنة في النفوس، فذهب قليني باشا واستبان شيئًا ما كان ليخطر بالبال، ذلك أن المفتش المذكور من أحقر أسر تلك الجهة، وكأنه لما خفقت على رأسه راية هذه الوظيفة عز عليه أن يكون بين جماعة من المستخدمين عارفين بحقيقة نسبه، فلا يرونه بالنظر الذي يود أن يروه به من التجلة وعلو المقام، فكتب ما كتب من غير أن يكون لذلك من سبب، ورفع صاحب الترجمة تقريره بما انتهى إليه في التحقيق على هذه الحال طالبًا عقاب المفتش على افترائه، وأن تسلخ عنه كل ثقة للدائرة فيه، قال: وإلا فإذا دامت الدائرة على وثوقها به فلا تجعل هذه الفئة الضعيفة من المستخدمين ضحية عاجلة له، بل تعمل في نقلهم على سنة التدريج حتى لا يكون من ذلك اضطراب في الخواطر والأفكار، فأجيب إلى طلبه الأول ونال مزيد الثناء والشكر لاهتدائه إلى الحق، وله مواقف عديدة من هذا القبيل منها ما يأتي:
كان المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق وهب المرحوم خيري باشا خمسمائة فدان من أراضي تفتيش طناح، وكأن المساح الذي سلمها إليه كان يتوقع منه رشوة، فلم يجبه إليها لذلك أنقص من الأرض المذكورة عشرين فدانًا موهمًا إياه أنه حاصل على حقه تمامًا، فلما علم المرحوم خيري باشا ذلك كتب إلى الدائرة مرارًا يشكو معاملة المساح ويسأل إنصافه منه، فعينت لهذا الغرض قومسيونا إثر ثان عقب ثالث بعد رابع إلى أن بلغ عددها اثني عشر، والكل يرجع قانعًا بقول المساح، فعهد إلى صاحب الترجمة أخيرًا في حل هذه المشكلة، فلما توجه إلى تلك الناحية علم مما حققه أن المساح قد غدر بصاحب الأرض فيما شكا منه، فاستدعاه إليه وسأله في ذلك فأنكر، فأصدر أمرًا أن يمسح أطيان الدائرة السنية في طناح على حدة، ثم أراضي المرحوم خيري باشا أيضًا، وأن يكون هذا بمحضر جماعة المساحين انتخبهم المترجم، قال له: فإن كان في أراضي الدائرة زيادة يقابلها نقص مثلها في أرض المشتكي فهي من حقه، وإلا فلا. ارتعدت فرائص الرجل ووقع على قدميه معترفًا بالحقيقة سائلًا العفو مدعيًّا أنه فعل ما فعل على ظن أنه خدمة منه للدائرة يقابل أوفى الجزاء عليها، فأهانه الباشا أشد الإهانة وطلب طرده من خدمة المصلحة، وأمر بتسليم القدر الناقص إلى مستحقه مكلفًا الدائرة بتأديتها إجارة في المدة التي لبثت فيها مالكة له من غير حق.
وفي سنة ١٨٨٨ أنعم عليه بالنشان المجيدي من الدرجة الثالثة، وفي يوليو سنة ١٨٩٠ وقع اختيار صاحب الدولة رياض باشا رئيس مجلس الوزراء ووزير المالية والداخلية وقتها عليه، فعينه مديرًا للإدارة العمومية ومراقبًا للأموال الغير مقررة في وزارة المالية، فجاءه مزودًا من الدائرة السنية بجواب كله مديح له وثناء طيب عليه؛ لما أظهره في خدمته فيها من عالي الهمة والنشاط والجد بأفضل ما عرف عن كبار الموظفين، فسار إليها سيرًا حميدًا دل على فضله وقدرته على رتق الفتوق، وإصلاح كل فاسد من الأعمال، وكان محط آمال المصلحين فيما أصلحوا، وفي أكتوبر سنة ١٨٩١م منح من لدن الحضرة الفخيمة الخديوية النيشان العثماني من الدرجة الثالثة، وفي ديسمبر سنة ١٨٩٢ حاز النيشان المجيدي الثاني.
وقد أحيلت عليه أعمال الدخوليات بالمملكة المصرية علاوة على ما تقدم، وفي يناير سنة ١٨٩٣ عين مراقبًا عموميًّا للأموال غير المقررة والدخوليات، فلما تولى هذه الإدارة جعل يعمل فيها بما حقق الثقة به، وأطلق الألسنة بشكره والثناء عليه، وناهيك برجل شهد الناس بجدارته وذكائه، فأصبح في مصاف المصلحين في هذا العصر، ولو أني عددت من مآثره في هذه الإدارة كل ما وصل علمي إليه لأسهبت في البيان بما لم أرتسمه لنفسي في كتابة هذه الترجمة، ولكنك إذا ما رأيت هذين الساحلين العظيمين في مصر: ساحل روض الفرج، وساحل أثر النبي بأحسن نظام خصت به أوسع البلاد تمدنا وحضارة؛ علمت سعي الرجل في إعلاء شأن مصلحته ومستخدميها، حيث مهد لهم درجات يرقون إليها على القاعدة المتبعة في الحكومة، وجعل منهم رجالًا للضابطة القضائية وآخرين في وظائف عالية، وعرفت ما يعامل به المتمولون من اللطف والدعة في قضاء مصالحهم، وما يصادفونه من دواعي التسهيل والمساعدة.
واستطلعت عواطف الرجل نحو بني الإنسان بسعيه على الدوام في إلغاء عوائد الأصناف الكثيرة التداول بين الفقراء وإبطالها أصلًا، من نحو اثنتي عشرة عائدة في أرياف مصر مما كان يبلغ دخله ١٠٠٠٠٠ جنيه، ومعافاة جميع المراكب وإضرابها من رسوم الهويسات، التي كانت تقدر بمبلغ ٨٠٠٠٠ جنيه، وتجاوزه عن عوائد الغيطان والجنائن في داخل مدينة مصر.
ورأيت مع هذا التجاوز وذلك التسهيل كله أن إيرادات مصلحته قد زادت عما كانت عليه قبل أن تلقى إليه مقاليدها بمبلغ ٣٣٤٣٢٠ جنيهًا، ولاحظت رفقه بالحيوان إلى حد أنه لم يستطع أن يسمع أو يرى تلك القسوة التي كانت تعامل البهائم بها من كيها بالنار فأبطلها قائلًا: إنه ليس لهذه الحيوانات من ذنب جنته علينا فنؤاخذها بعذاب أليم مثل هذا، وأن لا سبيل لنا إلا إذا كان ثم ذريعة أخرى أدعى إلى الغاية المقصودة منه.
واستتب نظام إدارته في جميع الأعمال الإدارية وضبط نقط الملاحظة بتمهيده سبيل المواصلات بها؛ لإحاطته علمًا بكل حادث في حينه، وإصلاحه نظام مصلحة المطرية بما دعا إلى ربح الحكومة منها أضعاف ما كانت تربحه قبل، مع أنه سهل الضرائب فيها وألغى منها جانبًا عظيمًا، ورفق بالأهالي كل الرفق فوهبهم بعد الاستئذان أرضًا يبنون فيها دورهم، وأنشأ لهم أسواقًا ومخازن ومد في طرقهم السكك الحديدية.
إذا استغربت كل هذا على ذلك الإجمال ترى الرجل آية في الناس خليقًا بما هو فيه من الرفق وعلو المقام، جديرًا بأن يتولى عظائم الأمور ويرقى كل منصب عال، وقد قام من بين طائفة الأقباط حزب وجه سهام العدوان إلى غبطة بطريكهم الجليل، وكان منشأ هذا سعي بعضهم في سلبه اختصاصه منكرًا عليه تلك السلطة الواسعة، دون أن يكون له شريك فيها من أبناء الطائفة، وقد استمال ذلك الحزب جانب الحكومة، واستصدر أمرها بنفي البطريك إلى دير البرموس، وكان صاحب الترجمة يومئذ في إجازته بأوربا، فما اتصل إليه نبأ هذه الحادثة حتى أسرع في الأوبة إلى مصر، واتفق أنه على أثر حضوره تقلد صاحب الدولة رياض باشا رئاسة الوزراء، فسعى لديه كثيرًا ولدى الجناب الخديوي المعظم، فظهر فساد زعم الذين استصدروا ذلك الأمر بنفي غبطة البطريرك، مما أوجب استدعاءه، فقوبل بالإجلال والإكرام من طائفته، ووثق المترجم صلات المسالمة بينه وبين الحزب المضاد له.
معلوماته الزراعية
ويعد قليني فهمي باشا في أول طبقات العارفين بأصول الفلاحة في هذا القطر، المتدربين على أعمالها الراسخي الأقدام في فنونها لمزاولته إياها زمنا طويلًا حين خدمته في الدائرة السنية، واشتغاله بها في تلك الأطيان الشاسعة لآبائه وآله العديدين في مديرية المنيا.
ومما يدل على ذلك أن وزارة المعارف العمومية لما أن أعيتها كل حيلة في سبيل إصلاح الوادي التابع لها، كتبت في سنة ١٨٩٤م إلى وزارة المالية ترجو تكليف صاحب الترجمة أن يذهب إليه ويتعهد مواضع خلله، ويبين الطرق التي يتوسم له الخير فيها فاستدعاه جناب المستشار المالي، وأفهمه أن المالية تهتم لهذه المسألة اهتمام المعارف لها وأزيد، وطلب إليه إجراء كل بحث يتعلق بها وموافاته بآرائه السديدة فيها، فبعد أن أقام قليني باشا هناك أيامًا كلها بحث واستطلاع جاء الوزارة المشار إليها بتقرير أوضح فيه العلل التي أوجبت انحطاط هذا التفتيش الواسع، وبين العلاج اللازم لإزالتها فعملت الحكومة طبق آرائه، مما أعاد التفتيش إلى مرتبة عالية جاءت بكل الخيرات على وزارة المعارف.
وفي يناير سنة ١٩٠١ أنعم الجناب الخديوي عباس باشا الثاني عليه برتبة الميرميران الرفيعة، فازدحمت على بابه ألوف المهنئين ووردت عليه رسائل التهنئة من جميع الطبقات، وقدم له لفيف من الشعراء شيئًا كثيرًا من القصائد والمقطوعات، مما لو جمع على حدة لكان ديوانًا كبيرًا، أخص من بين هذه تاريخًا لرب الفضل وحامل لواء الأدب الشاعر الشهير المفلق، نابغة فضلاء الشرق صاحب السعادة المرحوم علي رفاعة باشا وكيل وزارة المعارف سابقا، قال أعزه الله:
وقال حضرة الأستاذ العلامة المرحوم الشيخ سليمان العبد أحد العلماء الكبار للأزهر الشريف:
وقال الأديب الكامل أحمد الكاشف:
وقال شاعر القطرين المفضال خليل بك مطران:
ومما قاله أديب من رشيد:
وقال حضرة الشيخ إبراهيم سعيد مصحح الوقائع المصرية في ذاك العهد:
أعماله وخدماته الجليلة
- (١)
أرى مع الأسف أن أخلاق السواد الأعظم من الأمة قد تسممت، وأصبح الناس كلهم يبيتون في خداع، والبارع من يخدع أخاه أو صديقه بأية وسيلة ليقنص منه ما يمكنه، ولكن يجب أن أقول: إن أحسن الصفات التي تؤهل الإنسان في الزمن للقيام بخدمة عامة هي التحلي بالصدق والوفاء والصراحة، ولو لاقى في أول أمره صعوبات جمة.
- (٢)
كان للتربية العائلية تأثير عظيم في تهذيب الأخلاق، فكان الصغير يكرم الكبير، والكبار يتشاورون ويعملون برأي أحكمهم. ولنحو ثلاثين سنة، تطورت الأخلاق والآداب، وأصبح الصغير يحتقر الكبير، ولم تهتم المدارس بتربية الأخلاق وترقيتها، بل أضرت بنا الكتب من حيث أردنا النفع، ومن رأيي أن مطالعة الكتب الدينية تساعد على تقوية الفضائل وتردع النفس عن القبائح.
- (٣) يمكن الشاب أن يحافظ على صحته إذا اتبع القواعد الآتية.
- (أ)
يبتعد عن شرب الخمور وتناول المخدرات.
- (ب)
ينام مبكرًا ويستيقظ مبكرًا.
- (جـ)
يزاول الرياضة البدنية ما استطاع.
وأرى أنه لا يحسن بالشاب أن يتزوج قبل أن يبلغ الخامسة والعشرين، بشرط أن يكون في مركز مالي يساعده على الحياة براحة واطمئنان ضامنًا تربية من يرزقه الله بهم من الأولاد.
- (أ)
- (٤)
يحسن بالشبان الانصراف إلى الصناعات كلها، سواء أكانت كبرى أم صغرى تزاول باليد أو بالعدد والآلات.
- (٥)
لا استحسن أن يتعرف الشاب مساوئ الحياة الاجتماعية بنفسه لما يترتب على ذلك من الضرر والخطر على مستقبل الشاب، إذ قد يستحسن إحدى الموبقات فيعلق بها.
فيجدر بالمربين من والدين وأساتذة أن يبعدوا الشاب عن ذلك الدرس العملي، وخير لهم أن لا يدخلوا بابه بأية حال.
بعض ما ذكر عن صاحب الترجمة في الصحف
وقد توالى عليه الثناء الجم في الصحف العربية والإفرنجية والمجلات إزاء خدماته الجليلة وأعماله المجيدة المفيدة، ندرج هنا بعضها اعترافًا بفضله وجليل خدماته.
وقليني باشا له أعمال في خدمة الإنسانية قام بقسط جميل منها في جمعية الهلال الأحمر المصري.
وله ولع عظيم بنشر المعارف؛ ولهذا الغرض قد وهب من أرضه عشرين ألف متر لإنشاء دائرة معارف تشمل جملة مدارس للبنين والبنات أوقفها عليها قدرت بعشرين ألف جنيه، وقليني باشا عضو بالمجلس العالي بوزارة الزراعة، وعضو بالمجلس العالي الاقتصادي بالمالية، وعضو بالنقابة الزراعية، يعمل في كل منها لمصلحة الأمة، وقليني باشا أحد الرجال الذين صاغوا الدستور للبلاد.
لكل أمة أدوار تنتقل فيها صعودًا وهبوطًا، فإذا صارت إلى ما يضعضع قوتها ويذيل زهرتها وينضب ماءها، ويجدب أرضها وأحاط بها الشقاء جيلًا أو أجيالًا، وأراد الله له النهوض من الكبوة والانتعاش من الهمود والسلامة من المرض أتاح لها رجلًا أو رجالًا يأسون جراحها، ويعالجون داءها ويتعهدونها بما يعيد إليها الحياة والقوة، ويصلحون شؤونها ويأخذون بيدها إلى ما تتوق إليه من السعادة والعزة والمقام الكريم، وما ذلك إلا أن يستعينوا بنبوغهم على إزالة العقبات من طريق ارتقائها وإيجاد الوسائل المؤدية إلى بلوغ آمالها.
وإنا لنرى حياة جديدة ونزوعا إلى العمل والتقدم في سبيل السعادة، وليس في مظاهر هذه الحياة الجديدة أجمل من هذا المشروع الجديد الذي يقوم به هذا النابغة المصري المتوقد الغيرة والذكاء، فإن مصر محتاجة إلى الشؤون المالية، والمال أساس لبناء العلم والحضارة في كل أمة من الأمم، وكل قطر من الأقطار، ولا ريب في أن المصرف المالي الوطني الذي يقوم بمشروعه هذا النابغة سيكون ينبوعًا للثروة لا ينفد ولا يغيض وبه تقوى آمالنا في بلادنا، وبما ينبعث منه من القوة والنظام تعرف مصر كيف تؤسس الشركات للتجارة والصناعة والفنون والعلوم وغيرها من أسباب الإصلاح والفلاح، وتعرف كيف تستفيد بخصوبة أرضها وذكاء أبنائها، فمشروع سعادة قليني فهمي باشا من أجل المشروعات التي تدعو كبراءنا وأهل الجد في بلادنا إلى الاشتراك فيها؛ ليشتركوا مع سعادته في الفخر الخالد والمجد الثابت الأركان.
أما عن مبادئه وخطته في عهد نيابته بالجمعية التشريعية، فإن سعادته يذهب إلى وجوب العمل المطمئن الهادي والتفاهم المبني على حسن الثقة، فالتشريع لا يكون بالمخاصمة والتحمس والمنابذة، ويرى أن حسن التفاهم بين الأمة والحكومة سيأتي بالفائدة العامة للبلاد وأهليها؛ لأننا إذا ظننا بالحكومة سوءًا واعتقدت فينا سوء النية ظللنا متنافرين كل يعمل على معاكسة الآخر، ولا يخفى ما في ذلك من الضرر الذي يعود على الأمة، ونحن نقول: إن سعادته ممن يهمهم أن يخرجوا من المسائل التشريعية بنتيجة تجر إلى المنفعة والربح للأمة.
أما قليني فهمي باشا فإنا لا نستطيع أن نوفيه ما هو أهله من شكر أياديه البيضاء، والصحيفة أضيق من أن تسع ما نود ذكره من أعماله السالفة وكلها عظيم باهر ناطق بفضله ونبوغه، فلنا العذر إذا اكتفينا بثناء أعماله عليه وشكر الأمة إياه.
صفاته وأخلاقه
هذا هو الرجل من حيث تربيته ونشأته، أما من حيث أخلاقه وأطواره فهو لين العريكة رقيق الفؤاد جدًّا تنال منه بلطف الكلام ما لا تنال من الأعداء بالسيوف والسهام، طلق اللسان عذب اللفظ حاضر البديهة، قوي الحجة هادئ البال، طيب النفس غير أنه إذا ما تكبر عليه أحد يأنف من الضيم، ويكره المعارضة إن لم تكن مع التواضع والأدب بالحق، لا يتحيز لدين من الأديان حسن التصرف في الأمور ذو رأي سديد وعزيمة ماضية، قلما قصد أمرًا وخاب فيه، بعيد النظر طويل الأناة، يدبر رأيه إذا أراد نيل بغية في نفسه، وهكذا تكون الرجال.