ترجمة حياة فقيد الشهامة والشبيبة والمروءة والإحسان المغفور له عمر سلطان باشا
الفاجعة الأليمة
فجعت الأمة المصرية عامة، والشبيبة خاصة، بفقد عظيم من عظمائها، ونبيل من نبلائها، وشبل من أشبالها، وركن من أركانها، ألا وهو فقيد المروءة والإحسان سليل بيت المجد والشرف المغفور له طيب الذكر خالد الأثر.
المرحوم عمر سلطان باشا كبير أعيان مديرية المنيا
مولده ونشأته
ولد الفقيد العظيم بمدينة المنيا من أبوين شريفين سنة ١٨٨٢، ومن أعرق بيوت المجد حسبًا ونسبًا وجاهًا وثرة وكرمًا وفضلًا ووالده هو فقيد الأمة والوطن والشهامة والرجولية الصحيحة، ساكن الجنان محمد سلطان باشا رجل مصر السياسي الوحيد الذي كان رئيسًا لأول مجلس نيابي في مصر ودعامة من أبنائها يوم هبت العواصف الثورية، فرباه أعظم تربية وشب في مهد العز والجاه، فورث عن والده اسمًا كبيرًا وحفظ كرامة بينه ونفسه جهد ما يتسع لمثله المجال وجهد ما تسمح الظروف والأحوال، فكان اسمه في كل مشروع نافع مفيد في مقدمة الأسماء، وكانت منزلته في كل عمل عمومي مقصد العاملين، يهتز للحسنة اهتزاز كل كريم، ويميل إلى الحسنة والإحسان ميل كل طيب العنصر، ولما جاز سن الفتوة وجه همه إلى إدارة ثروته الواسعة وتدارك ميراث أبيه الكبير.
اقتناؤه الآثار العربية
ومما يذكر له بالإعجاب جمعه في داره الرحبة الفنية المشيدة بالقاهرة على أتقن الطرز العربية متحفًا عربيًّا نفيسًا جمع من الآثار ما يعود تاريخ بعضه إلى عهد الخلفاء الراشدين، ثم يتنزل إلى عهد المماليك والأيوبيين حتى عهد الأسرة المالكة الآن على عرش هذا القطر المبارك، وكان هذا المتحف مقصد العارفين بالفن والمغرمين بتاريخه فهو قد جمع بجمعه كنزًا ثمينًا.
كان الفقيد العظيم وحيد أبيه فكان عماد بيت محوط بإكرام الأمة وإجلالها؛ لأن الأمة تتوق إلى صون كرامة بيوتها القديمة وعظمائها الذين خلفوا اسمًا وجاهًا، ومات وهو لم يعد يبلغ الخامسة والثلاثين عن طفلين صغيرين — بنت وصبي — لم تكد تحل عنهما التمائم رزء جلل في بيت كبير زال شبابه بزوال صاحبه، وأقفرت رحابه إلى أن يشب نجله — حفظه الله مهجته — فيعيد إلى ذلك البيت الكبير عظمته وجلاله.
تأصيله للخيل العربية
ومما اهتم به الفقيد في حياته أيضًا تأصيل الخيل العربية وتحسين نتاجها، وقد اقتنى عددًا كبيرًا من الجياد المطهمة في مصر والمنيا، وكان وهو في المنيا ينشط هذه الأعمال بإقامة السباقات ويدعو إليها الأعيان من مصر القاهرة وسواها.
أعماله الجليلة في الجمعية الزراعية والجمعية الخيرية الإسلامية
وقد كان المرحوم الكريم عضوًا في الجمعية الزراعية، وعضوًا أيضًا بالجمعية الخيرية الإسلامية بمدينة المنيا، فبرهن فيها على كفاءة ومقدرة فائقة وسداد في الرأي وما من مشروع خيري عام يفيد مديريته، ويجعلها في مصاف الأمم الراقية إلا ويكون الزعيم الأول فيه يساعده بمجهودات فكره وماله الفياض، ولا يمكن لهذا القلم أن يثبت أعمال هذا الفقيد الجليل، ومآثره الخالدة، ومجهوداته الفائقة واهتمامه الشديد في طرق الإصلاح والعمران وهذه مآثره الجليلة في مدينة المنيا ناطقة له بالفضل والشكر والفخر والإعجاب.
أخلاق الفقيد وصفاته
من كان شاهد يوم تشييع جنازة هذا الرجل العظيم، وسمع صراخ وعويل الرجال والنساء ودموعهم التي كانت تسيل من العيون كالمطر، والجموع المحتشدة والوابورات البخارية العديد التي أقلتهم إلى مدفن العائلة بقرافة الزاوية، حيث دفنت المروءة والإنسانية والشهامة ومكارم الأخلاق والإحسان والشفقة والمواساة؛ لإدرك ما كان عليه الفقيد العظيم من الصفات الحميدة، والخصال الفريدة، والتربية العالية والأدب الجم، والكرم الحاتمي، والبشاشة، والوداعة، واللطف، والمروءة، وحبه الأكيد لمواطنيه، وللقارئ الكريم أن يقدر ذلك من مشاهدة حوانيت المدينة المغلقة، وعويل القوم ونحيبهم حتى كادوا يدفنون أنفسهم أحياء لهول المصاب وعظم الخطب.
وصف تشييع الجنازة
لبست المنيا كلها الحداد على فقدها رجلها العظيم المغفور له، وغص بندرها بالعمد والمشايخ والتجار والأعيان الوافدين من جميع بلدانها إليه للتعزية والاشتراك في تشييع الجنازة، وجاءت القطارات الخاصة من القاهرة مكتظة بالعظماء والأعيان والأصدقاء الوافدين لهذا الغرض نفسه.
وتفضل عظمة السلطان حسين «رحمه الله وأسكنه فسيح جناته» فأناب عنه في تشييع الجنازة حضرة صاحب العزة محمود نصرت بك مدير المنيا وقتئذ، وفي حضور المأتم حضرة عباس الدره مللي بك الأمين الثاني في الديوان العالي في ذاك العهد، وأمره بإبلاغ آل الفقيد أرق عبارات التعزية.
هذا وقد شيعت جنازة الفقيد باحتفال مهيب جدًّا تحيط بالنعش عساكر البوليس السواري والبيادة، وتتقدمه الموسيقى الأميرية بأنغامها المحرنة، وأرسلت السلطة العسكرية فرقة من جنودها البريطانيين للاشتراك في تحية الراحل العظيم، وسار في الجنازة وجوه وذوات وعمد وموظفو مديرية المنيا، والجهات المجاورة، ووصل إلى المنيا سعادة شعراوي باشا (رحمه الله) فسار وأسرة الفقيد علي بك إسماعيل ومحمد بك إبراهيم وفؤاد بك سلطان وتوفيق بك إسماعيل وغيرهم من أفراد عائلة سلطان باشا، وأغلقت التجار حوانيتها ووضعت شعار الحداد عليها، وقد نحرت الذبائح الكثيرة ووزعت الصدقات على الفقراء والمساكين، الذين نكبوا في أكبر المحسنين، وعاد القوم والحزن يفتت الأكباد على الفقيد العظيم الذي فقدت به البلاد المصرية ركنًا قويًّا.
وقد أوقفت المدرسة الأميرية حفلتها السنوية للألعاب الرياضية، وكذا جميع الحفلات الرسمية والأفراح في عموم المديرية حدادًا على فقيد البلاد الكريم.
رثاء الشعراء
وما كاد هذا النبأ العظيم يصل إلى مسمع الكتاب عامة والشعراء خاصة، حتى قاموا برثاء الفقيد الكريم ووصفوا شمائله الغراء وأياديه البيضاء وأعماله الجليلة ومناقبه الفريدة، ومنها قصيدة عصماء لفقيد الشعر والشعراء المرحوم عبد الحليم المصري شاعر جلالة الملك فؤاد الأول قال رحمه الله:
أسكب الحق تعالى على جدثه شآبيب الرحمة والغفران، وجزاه خيرًا بعدد حسناته العديدة التي لا تعد ولا تحصى، وأن يشمل مصر الحزينة وأبنائها الصبر والسلوان، وأن يكثر من أمثاله النبلاء في شبابها الناهض، حتى يقوم بسد هذا الفراغ الشاسع الذي خلفه هذا الراحل الجليل بعد مماته.