ترجمة العالم الأثري الجليل نابغة مصر المغفور له أحمد باشا كمال
مولده ونشأته
قد وفقني الله إلى تمهيد السبيل المؤدي إلى ذلك أي: إلى إرجاع كل كلمة إلى أصلها وتدوين قاموس اللغة تدوينًا مؤسسًا على أصول ثابتة تظهر اللغة بمظاهرها الحقيقية، والذي حملني على ذلك ما ظهر من نقوش قديمة محفورة على جدران معبد الدير البحري في طيبة الغربية وإزاء الأقصر من الغرب، تدل على أن المصريين القدماء أرادوا تخليد ذكر أصلهم، فأثبتوه بالحفر على آثارهم قائلين إن أجدادهم يدعون الأعناء «جمع عنو» أي أنهم أقوام من قبائل شتى اجتمعوا في وادي النيل وأسسوا فيه مدنًا كثيرة، منها مدينة عين شمس، ويقال لها بالمصرية: العين البحرية ومنها العين الجنوبية وهي أرمنت، ومنها العين التي سميت فيما بعد دندرة، ولما نموا وكثروا تفرقوا في الجهات المجاورة لوادي النيل، ففريق منهم وهو المعروف باسم أعناء الحنو أو اللوبيين توجهوا إلى بلاد القيروان وتونس والجزائر وسكنوا فيها، وفريق آخر يسمي أعناء المنتو هاجر إلى بلاد الصومال واجتاز البحر الأحمر إلى بلاد العرب وانتشر ممتدًّا إلى فلسطين، وفريق ثالث يسمى أعناء اليتو سكنوا القسم الجنوبي من مصر حيث جنادل النيل، وفريق رابع يقال له: أعناء الكنوز وهم من أهل النوبة.
قيوم، في قوله تعالى: الله لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (البقرة ٢٥٥:٢) قال عنها الشيخ حمزة فتح الله رحمه الله: معناه الذي لا ينام، بالسريانية، وفي المحيط القيوم والقيام الذي لا ند له من أسمائه عز وجل، وهو مشتق من مادة قام قومًا وقيامًا، وقد ورد هذا اللفظ في المصرية وذكره أرمان في مفرداته «الصحيفة ١٣٦»، فقال: المصرية من لفظين معناهما قيم الأم أي: زوج الأم أي: زوج وأم في آن واحد أوجد نفسه بنفسه، ثم ركب تركيبًا مزجيًّا، فصار صنعة يراد بها الموجد لنفسه، فهو ليس من مادة قام العربية والمصرية، بل هو كلمة قائمة بذاتها عريقة الأصل في كلتا اللغتين. إلخ.
وأخذ يثبت في هذا المقال البديع صحة بحثه متخذًا أمثال هذه الكلمات قاعدة صدق لنظرياته العلمية، فتمكن بذلك من نشر نتائج أبحاثه العلمية الدقيقة في العالم، وكان يسعى جهده في نشر علم الآثار بين أفراد الأمة المصرية، رغم ما كان يلاقيه من العقبات ففي عام سنة ١٩١٠ سعى لدى صاحب المعالي أحمد حشمت باشا وزير المعارف حينذاك في إنشاء قسم لتعليم فن الآثار المصرية بمدرسة المعلمين العليا، وفعلًا كلل الله مسعاه بالنجاح وانتخبت أول فرقة تلقت عليه درس اللغة الهيروغليفية، وكانت مؤلفة من حضرات الأفندية سليم حسن ومحمود حمزة وأحمد عبد الوهاب ومحمد فهيم والدكتور حسن كمال ورياض جندي ملطي ورمسيس شافعي وأحمد البدري، تخرج هؤلاء الأساتذة عام ١٩١٢م فحاول الفقيد العظيم إدخالهم بالمتحف المصري؛ ليتفرغوا للبحث العلمي أسوة بالإفرنج حتى يكون لدى الأمة المصرية عدد وافر من الأثريين الأخصائيين، ولكنه لم ينجح في هذا المسعى ويا للآسف؛ لأن رؤساء الحكومة وقتئذ على ما يظهر لم يفقهوا معنى الآثار المصرية؛ ولأن الإفرنج كانوا يعاكسون كل مشروع من هذا القبيل، فاشتغل هؤلاء الأساتذة بالتدريس، وفي عام ١٩٢١م نهضت الأمة المصرية نهضة مباركة وأدركت قيمة علم الآثار المصرية فقام صاحب المعالي ووزير الأشغال بانتخاب ثلاثة من المصريين؛ لتعيينهم أمناء بالمتحف المصري وهم سليم أفندي حسن ومحمود أفندي حمزة وسامي أفندي جبره وتقرر إرسالهم إلى فرنسا وإنجلترا لإتمام دراسة الآثار هناك، فهذه الحركة المباركة يرجع الفضل فيها إلى الفقيد، وفضلًا عن ذلك فقد سعى لدى صاحب المعالي محمد توفيق رفعت باشا وزير المعارف في إنشاء مدرسة عالية لدراسة الآثار المصرية، ونجح في هذا المشروع نجاحًا باهرًا رغم معارضة المسيو لاكو مدير المتحف المصري له، وكان رحمه الله عازمًا على أن يقوم زمام هذه المدرسة بنفسه، فيدرس اللغة الهيروغليفية حسب طريقته العلمية الفائقة التي وضحها في قاومسه، وخلاصة رأيه العلمي أن اللغة المصرية القديمة هي أصل اللغة العربية، ووضح ذلك في قاموسه توضيحًا يدل على براعته العلمية الفائقة ويا حبذا لو اهتمت الحكومة المصرية بهذا القاموس، وقررت طبعه على نفقتها لخدمت بذلك الأمة خدمة جليلة ولبرهنت على أنها بدأت تقدر قدر الآثار المصرية، الأمر الذي كان يجدر بالحكومة أن لا تتركه منذ عشرات السنين قبل أن يستفحل الأمر، ويستحوذ الغربيون على ما نسميه بحق احتكار إدارتهم له في مصر.
مؤلفات الفقيد
وقد ألف هذا الفقيد العظيم والعالم الجليل مؤلفات عديدة منها باللغة الفرنسوية صفائح القبور في العصر اليوناني الروماني، وهو كتاب أثري في مجلدين الأول فيه نصوص مشروحة بالفرنسوية، والثاني فيه تسعون لوحة بها رسوم الصفائح والدر المكنوز في الخبايا والكنوز في مجلدين: الأول عربي، والثاني فرنسي والموائد القديمة في الطبقة الوسطى إلى عهد الرومان، وهو كتاب أثري في مجلدين الأول فيه نصوص مشروحة بالفرنسية والثاني فيه خمس وخمسون لوحة بها رسوم الموائد، وذلك عدا النبذ العلمية التي ألفها ونشرت في مجلة المتحف المصري السنوي وغيرها.
أما مؤلفاته التي باللغة العربية فهي العقد الثمين في تاريخ مصر القديم، واللآلئ الدرية، وهو أجرومية هيروغليفية، وبغية الطالبين في علوم قدماء المصريين، وترويح النفس في مدينة عين شمس، ودليل متحف إسكندرية، ودليل متحف القاهرة، ورسالة في مدينة منف، ودروس الحضارة القديمة في مصر والشرق لغاية ظهور الإسلام.
وكان رحمه الله يسعى جهده في تأسيس متاحف في كل عواصم مديريات مصر، فنجح في إنشاء متاحف أسوان والمنيا وأسيوط وطنطا، وكان غرضه من ذلك أن لا تتسرب آثار بلادنا المصرية إلى أوربا وأمريكا، وسوف تفقه الحكومة المصرية أهمية تلك الأفكار السامية وتتولى هي الحفر والتنقيب إن شاء الله.
وفاة الفقيد العظيم
انتقل هذا العالم الجليل إلى جوار ربه في يوم ٦ أغسطس سنة ١٩٢٣ بالقاهرة، وقد حزن عليه جميع أفراد الأمة؛ لأن الفقيد العظيم كان يعد نابغة زمانه في هذا العلم الذي يهم مصر وأبناء وادي النيل، إذا ما أرادوا الرجوع بذكراهم إلى تاريخ الفراعنة العظام مشيدي مجد مصر، وقد خسرت البلاد بوفاته ركنًا عظيمًا وأستاذًا فردًا هيهات أن يأتي الزمان بمثله، ولئن فات المصريين اليوم إدراك عظيم خسارتهم بوفاته، فسيدركون ذلك بعد سنين عندما يبحثون عن جهابذة علمائهم الذين قضوا العمر درسًا وبحثًا وتنقيبًا في آثار الأسلاف الخالدة، وإثبات المعلومات والحقائق عنهم رغم المشقات والمعاكسات، وقد أدرك هذا الفقيد العظيم الأسرار التي حسده عليها علماء الغرب، وفطن إلى أهمية إثبات الحقائق والمعلومات في بطون الأوراق؛ ليتوارثها الخلف عن السلف، فلله دره من نابغة جاء وراح قبل الأوان، وجاهد جهادًا عظيمًا لبلوغ غاية المطلوب ومنتهي المقصود، ونحن لا نرى بدًّا من إثبات تاريخ حياة هذا العالم العامل في سفرنا هذا التاريخي إقرارًا بفضله على طول الزمان، وإحياء لجليل آثاره وعظيم مجهوداته وخدماته للمصريين خاصة وللشرق عامة.
وقد مات هذا الفقيد العظيم الجليل عن ٧٥ سنة قضاها في خدمة العلم والتاريخ المصري، بينما كان يجهد نفسه في إتمام قاموسه الضخم الخاص باللغة المصرية القديمة، وقد ترك أشبالا كالنجوم الساطعة في سماء مصر غذاهم بلبان العلوم والمعارف، وهذبهم فشبوا على مبدأ والدهم الجليل في الطهارة والفضيلة والمروءة العالية، وهم حضرات الدكاترة المحترمين حسن بك كمال وزكريا بك كمال وأحمد بك كمال، فتراهم نهارهم وليلهم في خدمة الإنسانية يعطفون كثيرًا على البؤساء ابتغاء مرضاة الله، ويواسون المرضى بما أوتوا من لطف ودعة، ومكارم أخلاق حتى لهجت الألسن بالشكر المستطاب والثناء عليهم والدعاء بحفظهم رافلين في بحبوحة السعادة والوفاء، وأن يتغمد هذا الفقيد العظيم برحمته ورضوانه، وأن يجعل هذا المصاب العظيم خاتمة الأحزان.
صفاته وأخلاقه
ولقد مضى عمره في العمل لا يعرف البطالة، فكان كل يوم في مكتبه من الشروق إلى الغروب وكلما تسنح له الفرص سواء في مكان مريح أو غير مريح توفرت معه الكتب أو لم تتوفر، وسواء اشتدت الحرارة أم البرودة فلا يقل شغله عن العشر ساعات يوميًّا.
ومن خصاله الشخصية أنه كان صادقًا فلم يقبل الكذب ولو ضحكًا، ولا يغالي في قوله وكان أمينًا صادقًا يسعى للخير جهده متواضعًا، وكان مثال التقى والصلاح شديد التمسك بأحكام الدين.