ترجمة المرحوم خليل باشا إبراهيم المحامي الضليع والعصامي الكبير
وبعد أن أتم تربيته المنزلية أرسله والده مع حداثة سنة، إذ كان لا يتجاوز العاشرة من عمره إلى مصر لتلقي العلوم بها على الرغم من صعوبة المواصلات في ذاك العهد، إذ كان خط السكة الحديدية لم يمتد بعد إلى تلك المديرية، وفي سنة ١٨٤٧م نكبه الدهر بوفاة المرحوم والده، فالتمس له عملًا كتابيًّا، إذ التحق بإحدى الدوائر بمرتب ضئيل فكان لا يألو جهدًا فيما وكل إليه من الأعمال حتى أصبح بعد مدة قصيرة باشكاتب لتلك الدائرة.
ولم تكن نفسه العالية لتقنع بذلك شأن النفوس الطموحة إلى المجد والعلا، بل جعل يهزأ بحاضره ويبتسم لمستقبله، وما أنشئت المحاكم الأهلية في سنة ١٨٨٠م، حتى اندمج في سلك المحاماة وابتدأ طورًا جديدًا في حياته، وهنا بدأ ذكاؤه النادر يتجلى فأخذ في درس القوانين بشغف عظيم حتى أحرز السبق على جميع معاصريه فيمن تقدموا معه لنوال جواز مهنة المحاماة، ولم تكن همته العالية لتقعد به عند هذا الحد إذ رأى في المحاماة مجالًا ضيقًا لمواهبه، فاشتغل بالزراعة بجده المشهور وعزيمته الحديدية، حتى كون لنفسه ثروة طائلة يحسده عليها جميع معاصريه.
ولم تكن مشاغله الخصوصية لتصرفه عن الاهتمام بالشؤون العامة، إذ قد صرف فيها جهدًا لا يقل عما صرفه في المحاماة والزراعة، وكان يري في العلم خير السبل لإنهاض وطنه ولانتشال بني قومه من غياهب الجهل، فعمد إلى إنشاء الجمعيات الخيرية وساعدها بجهوده وماله، وخدمها بعلمه وفضله وأسس جمعية التوفيق القبطية الكبرى، وجمعية ثمرة التوفيق التي إليه وحده يرجع الفضل في إنشائها، ورأس الجمعية الخيرية القبطية الكبرى عدة سنوات متوالية، وسار بهذه الجمعيات وغيرها في طريق النجاح والرقي.
وكان يعلم أيضًا أن الأمم لا ترقى إلا برقي الأمهات؛ لأنهن أول مؤسس لترقية الأمة فلم يحرمهن من حقهن في التعليم في الجمعيات التي أسسها، والتي رأسها وقد وضع بذلك أحسن مثل لغيره من سراة الأمة وأغنيائها الذين قل أن نرى من بعضهم اهتمامًا في مثل هذه الشؤون الهامة.
وتاريخ الفقيد سواء في المحاماة أو في غيرها ناصع البياض لا يشوبه أقل شائبة من الشك والريب، وقد فقدته الأمة المصرية عامة والقبطية خاصة قانونيًّا ضليعًا وعاملًا مجدًّا ونزيهًا فاضلًا، كما بكته البائسات وولولت عليه الفقيرات وذرفن عليه بدل الدمع دمًا؛ لما كان عليه الفقيد من العطف والإشفاق نحوهن.
وقد أنعم عليه بوسام الكوموندور من الجمهورية الفرنساوية، وبكثير من الرتب والنياشين من الحكومة المصرية إلى أن نال رتبة ميرمران.
وبالجملة كانت حياته مثالًا حيًّا للمجد والجد والاعتماد على النفس، وكان رحمه الله يمتاز باللطف، وبعد النظر وأصالة الرأي والأخلاق الكريمة، ويعد من رجال الأمة المصرية العاملين وأفاضلها المشهورين، وقد لبى نداء ربه في ٧ مايو سنة ١٩٢٤، وقد بكاه كل من عرف فضله، وكل من يقدر في الرجال النبوغ والذكاء والإقدام والنشاط.