ترجمة حياة فقيد الجد والإقدام المغفور له حسين باشا واصف
مولده ونشأته
ولد الفقيد في القاهرة سنة ١٨٥٧م من أبوين شريفين غذياه بلبان التربية العالية، وربياه على بساط العز والنعمة، فشب ذكيًّا أديبًا فاضلًا، وأدخل المدارس فكان مثال الجد والذكاء والنشاط، وبعد أن تخرج منها قلد منصب النيابة العمومية في المحاكم المختلطة، وهي في فجرها الأول فكان أول منصب قلد لوطني، فأظهر من النبوغ والاقتدار ما جعله موضع احترام القضاة الأجانب ومطمح أنظارهم، لا سيما ذاك المشرع المشهور والقانوني الضليع المسيو روكاسيرا، وقد أدهشته فصاحته وبلاغته في اللغة الفرنسية في المرافعات وقوة حججها في هيئات مركبة من فحول الرجال الأجانب، إذ قال: «إذا كانت هذه كفاءة المصريين فلا حاجة لهم إلينا في بلادهم».
وقد كان الفقيد سكرتيرًا عامًّا لوزارة الحقانية مذ كان السكرتير يعتبر كوكيل للوزارة، وله اليد الطولى في وضع قوانين المحاكم الأهلية وترتيبها، وتعين رئيسًا لمحكمة إسكندرية الأهلية في أول تشكيلها، فكان مثال العدل والنزاهة، ثم عين بعدئذ مستشارًا لمحكمة الاستئناف الأهلية، فأبدى من ضروب الكفاءة القانونية ما أدهش القضاء، ثم رأت الحكومة المصرية الانتفاع بمواهبه وكفاءته النادرة في الوظائف الإدارية، فشغل منها كما شغل من وظائف القضاء عدة مناصب، إلى أن نيطت به وظيفة محافظ عموم القنال، فكان في كل هذه الوظائف التي تولاها مثال الاقتدار الشرقي، وأنموذج الموظف الأمين الحازم الذي يقدم الواجب المفروض عليه نحو بلاده بكل معنى الكلمة.
نبوغ الفقيد في الفنون الجميلة
وإذا قلنا إن المرحوم حسين واصف باشا كان من نوابغ رجال الإدارة والقضاء، فإن ذلك لا يمنعنا من القول: بأنه كان من رجال الفنون الجميلة ومن أكبر أنصارها والعاملين على ترقيتها علمًا وعملًا، فهو الذي أنشأ المعهد الموسيقي فصارت إليه رئاسته، وهو الذي كان يشجع معاهد الفن بكل وسائل التشجيع، فإذا بكاه الأهل والأصدقاء فإن العلم والفن يشتركان في هذا البكاء، وفي ترديد الزفرات حزنًا وأسفًا على ذلك الراحل العظيم.
خدماته الجليلة في الجمعية التشريعية
وقد رشح الفقيد نفسه لعضوية الجمعية التشريعية عن دائرة بولاق بعد أن تنازل دولة سعد باشا زغلول عن تلك الدائرة وقتئذ، فانتخب بإجماع الناخبين نظرًا لما له من الشهرة العامة التي جعلته موضع ثقة الأمة ومحط أمالها، ولو أطال الله في أجل تلك الجمعية، ولم تحل الحرب الأوربية العظمى دون موالاة انعقادها لأدى الفقيد للبلاد وللأمة أجل الخدم نظرًا لما جمع في شخصه الكريم من جليل المزايا، وكان الفقيد أيضًا من كبار المزارعين فتمكن من إنماء ثروة طائلة فكان القدوة الصالحة للرجال العاملين.
والذي يؤسف له كثيرًا أن الفقيد لم يعقب ذرية، وإنما الآمال كبيرة في صاحب العزة المفضال حسن بك واصف شقيقه، الذي يرى رسمه الكبير فيما بعد في تخليد ذكر الفقيد بخير الأعمال، وليس هذا الأمل على همته بعزيز.
وقد عاش الفقيد طول حياته مع زوجه الوحيدة البارة كريمة المرحوم إبراهيم باشا حليم ووحيدته، وهي من فضليات السيدات، عرفت بعمل البر ومساعدة البؤساء والبائسات.
وفاة الفقيد والاحتفال به
وقد انتقل الفقيد من دار الفناء إلى دار البقاء بالإسكندرية يوم السبت الموافق ١٤ سبتمبر سنة ١٩٢٣م، واحتفل بتشييع جنازته بمنزله بشارع القصر العيني بالقاهرة، وكان يتقدم نعش الفقيد ثلة من رجال البوليس السواري والبيادة والمولوية التركية وحملة القماقم وتلامذة المدارس، وقد أوفد دولة يحيى باشا رئيس الوزراء في ذاك الحين مندوبًا من قبل الحكومة المصرية للسير في مشهد الفقيد كما سار فيه عموم الوزراء، وجمع غفير من علية القوم حتى جامع قيسون حيث صُلي عليه، ومن ثم دفن بقرافة الإمام رحمه الله بعدد أعماله ومآثره الجليلة.
وقد رثاه الشعراء بقصائد بليغة آثرنا أن ننشر قصيدتين منها من نفثات المخلص في وده وعهده حسن بك الدرس مأمور مركز أبو تيج سابقًا.
كل من عليها فان
عزاء المكارم والمعالي في فقيدهما الجليل وكوكبهما الذي خلد ذكرًا ساطعًا ساكن الجنان «حسين واصف باشا»:
آثار الفقيد الخالدة
ولسعادته مآثر عديدة ومفاخر جليلة على العلم وأهله والوطن وبنيه، ومن جملة هذه المآثر إنشاؤه في بور سعيد المدرسة الواصفية الموسومة باسمه الكريم، وخصص لها ريعًا من ماله الخاص، وأيضًا بناؤه منازل ومساجد كثيرة في نواحٍ عديدة لعماله، وقد شاد مسجدًا فخمًا بأول شارع القللي بالقاهرة هو آية من آيات الجلال والرواء، وفرشه بثمين الأثاث، وله عدا ذلك مآثر أخرى قام الفقيد بها لا تنسى له مدى الأيام وكرور الأعوام.
صفاته وأخلاقه
كان رحمه الله على جانب عظيم من الذكاء الفطري وأصالة الرأي والهمة والشجاعة الأدبية، وغزارة العلم وحسن الإدارة مع كرم حاتمي رحمه الله رحمة واسعة، وأطال في حياة حضرة شقيقه الذي تؤمل الأمة في شخصه الكريم كل الخير.