ترجمة حضرة صاحب العزة المهندس العالم الكبير السيد محمود بك صبري محبوب
إن تلك الكفاءة الباهرة التي تتجلى في كل أفق لدليل قائم على أن النبوغ، الذي كان أمس ملكة للأجداد هو اليوم صفة مميزة للأحفاد.
مولده ونشأته
ولد صاحب الترجمة الحسيب النسيب عام ١٨٨٨م، وربي على الفضيلة والأدب الصحيح وهو ابن المرحوم الأستاذ السيد عبد الحميد محبوب المحامي بن المرحوم الدكتور السيد محمد محبوب.
وبعد أن أتم صاحب الترجمة دراسته بمصر وظف مهندسًا بالري في وزارة الأشغال العمومية، وبقي بها حتى تاقت نفسه إلى إتمام دراسته بجامعة أوربية فقصد في فبراير سنة ١٩١١م جامعة مدينة ليدز بإنجلترا، حيث تخرج منها في يونيه سنة ١٩١٤م ووظف مهندسًا بمصلحة المجاري بتلك المدينة ولم يكد يمضي عليه في هذه الوظيفة حول آخر إلا ورقي إلى درجة مساعد مهندس المدينة، فأسند إليه القيام بمشروع تخطيط هذه المدينة التي تبلغ مساحتها نحو الثلاثين ألف فدان إنجليزي مربع، وسكانها نصف المليون وقد بلغ ما تقرر إنفاقه لتنفيذ ذلك المشروع أربعة ملايين جنيه إنجليزي، فقام صاحب الترجمة بما وكل إليه قيامًا انعقد به الإجماع على تفرده وكفايته.
وفي يوليو سنة ١٩١٦ أضيف إلى عمله الهندسي مسئولية كبرى في بوليس تلك المدينة، فكانت معلوماته الهندسية أكبر مساعد على نبوغه، وفي فترة قصيرة رقي إلى مفتش فباشمفتش فمأمور قسم، وأصبح من اختصاصه وضع الأنظمة الخاصة لشرطة الطرق والمواصلات، وتحقيق بعض القضايا الجنائية حتى لقب منظمًا للبوليس.
وفي هاتين الوظيفتين الإداريتين كما في الوظائف الهندسية السابقة أظهر من الجدارة والمهارة ما استحق كل إعجاب، وكان على اتصال دائم بتلقي العلوم الهندسية، فلم يكتف بفرع واحد منها، بل اهتم لهندسة السكة الحديدية والهندسة الصحية وهندسة البلديات، حتى حصل في النهاية على دبلوم أخصائي في فن تخطيط المدن.
كتب الثناء عليه
وقد عرفت له صحافة ليدز ما أسداه إلى تلك المدينة من الخدم الثمينة، فكتبت عنه معجبة بمهارته مكبرة لنبوغه.
ولما وضعت الحرب أوزارها حن إلى وطنه فأبدى رغبته في العودة إليه، فعرضوا عليه أن يزيدوا مرتبه ويرفعوا مرتبته على أن يبقى في تلك المدينة فاعتذر عن ذلك، واضطرت المصلحة التي كان يعمل فيها أن تأتي بموظف آخر على أن يدربه ذلك النابغة المصري على أعمال منصبه ستة أشهر؛ ليستطيع بعد ذلك أن يحل محله وكتبت للحكومة المصرية بذلك.
عرفته — «يريد صاحب الترجمة» — منذ ست سنوات حيث كان يطلب العلم في جامعة ليدز لغاية يونيه سنة ١٩١٤م، ثم ألحق بمصلحة المجاري لمدة سنة، ثم رقي إلى منصب مساعد مهندس المدينة في مصلحة تخطيط المدينة، فألفيته على علم تام بأعمال البلدية، وهو مهندس ذو كفاءة عالية، وقد دلني قيامه بأعماله وواجباته على عظيم مقدرته، وعلى أن براعته باعتباره جنديًّا ومنظمًا للبوليس لا تقل عن براعته باعتباره مهندسًا، وهو نعم العضد لعدة معاهد علمية في إنجلترا تتطلب كفايات عالية وقد قدم استقالته إلى مجلس المدينة؛ ليعود إلى وطنه وإني واثق أنه سينفع بلاده أجل نفع، وستذكره مدينة ليدز دائمًا وترحب به ترحيبًا عظيما في أي وقت يشاء فيه العودة إليها، وإني آسف جدًّا لقبول استقالته وحرماننا من خدماته، ولا سيما أني عرفت هذا الموظف الكبير مثالًا للأخلاق الكريمة والفضائل، وإني أرجو له مستقبلًا سعيدًا.
ليس في استطاعتي أن أعبر عن مقدار إعجابي بالطريقة التي يؤدي بها أعماله، وإن له ثقة تامة بأن مصر ستجد فيه رجلًا موثوقًا به ذا ضمير حي.
وقد كانت الوظيفة التي أسندت إليه في وزارة الأشغال المصرية وهو بليدز مساعد مدير أعمال، ولما رجع وظهرت كفايته طلبت هذه الوزارة من وزارة المالية استبدال هذه الدرجة بدرجة مدير أعمال، وقد اختارته الحكومة المصرية بعد أن اقترح مسألة التحكيم في اعتصاب سنة ١٩١٩ لشركة ترامواي مصر، ونجحت نجاحًا باهرًا وكانت نتيجة ذلك أن عين مندوبًا للحكومة بمكتب التحقيق لشركتي الترام للقاهرة ومصر الجديدة، فكان من أعماله أن حل الوطنيون محل الأجانب في الوظائف التي تخلو وجعل أمام العمال مجالًا واسعًا للترقي لوظائف المفتشين وخلافه، وكان في الوقت نفسه موضع الإجلال والإكبار من جميع مديري الشركات لقوة حجته، وما مارسه بخصوص مسائل العمل في المدة الطويلة، التي أقامها بأوربا وقد رأت الحكومة المصرية أخيرًا انتدابه ممثلًا لها في جميع المشاكل التي بين أصحاب العمل والعمال، كما وقد وقع اختيار الحكومة عليه في تمثيلها في المؤتمر الذي انعقد في لندره في سنة ١٩٢٠ الخاص ببناء المساكن وتخطيط المدن، وأيضًا المؤتمر الذي انعقد لهذا الغرض بأمستردام.
وإننا نترجم هنا ما قالته جريدة يوركشير ويكلي بوست بخصوص الخريطة القمرية، التي قام بوضعها صاحب الترجمة بعد أن توجت عدد الجريدة بصورته الفوتوغرافية.
محمود صبري هذا شاب مصري يقوم بخدمات عظيمة لمدينة ليدز، فهو إلى جانب المجهود الفني الذي يقوم به في مصلحة تخطيط المدينة رئيس قسم الشرطة والمواصلات.
وقد ولد في مصر سنة ١٨٨٨ وقبل أن يلحق بجامعة ليدز كان مهندسًا للري في الحكومة المصرية.
تعليق صحف مدينة ليدز عند عودة صاحب الترجمة لوطنه
قالت جريدة الإيفننج بوست بتاريخ ٣٠ يوليو سنة ١٩١٩ بمناسبة استعفائه تحت عنوان «خدمات مصري جليلة لمدينة ليدز» ما يأتي:
يبارحنا محمود صبري عائدًا إلى وطنه، وكان قد جاء ليتلقى العلم في جامعاتها. قام هذا الشاب بخدمات جليلة للمدينة، إذ عين بعد خروجه من الجامعة في وظيفة مهندس في مصلحة مهندس المدينة، ووظيفة أخرى هامة بالبوليس حيث اشترك في تنظيم شرطة الطرق والمواصلات … إلخ.
- الأولى: تمثله واقفًا في ساحة كبرى وسط جملة مصالح حائرًا لا يدري إلى أي مصلحة يذهب أولًا لنجاز أعماله الكثيرة.
- والثانية: عندما كان قاصدًا الاستراحة الساعة الخامسة مساءً، وأنه لما هم بالخروج رأى من ورائه جيشًا من هيئات المصالح الأخرى على شكل كلاب تقصد اللحاق به؛ لتثنيه عن عزمه.
- والثالثة: تمثله واقفًا وسط غرفة نومه بعد أن خلع ملابسه نصف الليل ويده على آلة التلفون، وإذ حضر جاويش ومعه أوراق يريد عرضها عليه.
ويرى مما تقدم جميعه أن صاحب الترجمة رجل جد ونشاط وعمل لا يكل ولا يفتر ساعة واحدة عن الاشتغال والتفكير، وإبداء الاقتراحات الدقيقة والسعي وراء ما يفيد البلاد والعباد.
خدماته الجليلة في الحكومة المصرية
ولا يمكننا مطلقًا أن نأتي بجميع الخدمات الجليلة التي أداها صاحب الترجمة لخير بلاده المصرية، فمنها ذاك التقرير الضافي الذي وضعه لتخطيط المدن والمساكن والعمل والعمال وعرضه على وزارة الأشغال العمومية، فنال استحسانا عظيمًا ووافقت على طبعه ونشره وشفعته بمقدمة مفيدة بقلم جناب المستر توتنهام وكيل الوزارة، وقد وزع على كبار الموظفين ونواب الأمة وغيرهم، وقد رأت الوزارة تعميمًا للفائدة أن تعرضه للمبيع بالعربية والإنجليزية في مكتب النشر؛ لينتفع الجمهور بفوائده، وقد ترتب على ذلك اهتمام الحكومة أخيرًا اهتمامًا عظيمًا بأمر تخطيط المدن والمساكن فأنشأت قسمًا خاصًّا به.
وكم له من مشروعات حيوية جليلة وأعمال مفيدة واقتراحات صائبة ترمي جميعها إلى الرقي العمراني، منها اقتراحه أن تؤلف الحكومة لجنة صناعية للنظر في مسائل شركات الترام والإنارة والمياه، ويعهد إليها تعيين أجور العمال والإجراءات التي تتبع بشأنهم، وتكون قراراتها قطعيًّا نافذة المفعول فيما يتعلق بالشركات والعمال على السواء.
وكم له من آراء صائبة ومواقف مشهورة في لجان تحقيقات بلدية الإسكندرية، وكانت مواقفه فيها معروفة ومشهورة، وعادت على عمال البلدية بالخير العظيم.
انتدابه لتخطيط مدينة بيروت
ولقد ذاع صيت صاحب الترجمة واشتهر في تخطيط المدن والمباني، فقرر مجلس بيروت البلدي انتدابه لتخطيط مدينة بيروت والنظر في مواصلاتها، وقد دل هذا القرار على ما لحضرته من علو الكعب في هذا الفن، وما أحرره من شهرة في فنه حتى وثق به القريب والبعيد، كما دعته دولة إسبانيا لإبداء رأيه فيما يتعلق باقتراحاتها بشأن بناء مساكن بها، وهو على اتصال تام مع جميع ممالك أوربا في تبادل الآراء بما يفيد بلاده وبلادهم، وقد انتخب أخيرًا عضوًا بمجلس الإدارة الدولي لتخطيط المدن والمساكن.
منزلة المترجم له عند مليك البلاد
لقد حظي صاحب الترجمة بمقابلة جلالة المليك المعظم فؤاد الأول غير مرة، فنال تعطفات جلالته ورضاه التام على ما قام به من جلائل الخدم مشجعًا إياه مثنيًا على همته، كما أنه حظي بمقابلة صاحب الجلالة ملك إنجلترا أثناء وجوده بها، كما وقد تعطفت عليه السطانة ملك وأوفدت حضرة صاحب العزة محمود خيري بك ياور عظمتها بهديتين ثمينتين، إحداهما لجناب المستر هزول مدير مصلحة التنظيم، والأخرى لصاحب الترجمة مكافأة لهما على مساعدتهما لعظمتها في مشروعها الخيري الخاص ببناء مسجد وسبيل ومستشفى شرقي العباسية في شارع السلطان أحمد بقرب مسجد الأمير كبير على الطراز المصري الأثري، فقابلا من عظمتها هذا التعطف السامي بالدعاء والشكر.
ولصاحب الترجمة آثار خالدة وأياد بيضاء عدا ما تقدم بيانه، منها وضع خارطتين مهمتين للعاصمة، إحداهما للصناعات في مصر على اختلاف أنواعها وأماكنها مع التفاصيل الوافية لكل صناعة منها، بحيث يقف الناظر على كل ما يهمه من أمر هذه المصنوعات حالما يلقي نظره على الخريطة المذكورة، والثانية ببيان دور العلم في مصر من كليات ومدارس وكتاتيب وغير ذلك وعدد من فيها من الطلبة، وما يجب إنشاؤه من جديد من المكاتب والمدارس، مع مقارنته بعدد المواليد في العام لنشر التعليم فيها، وجعله عامًّا إجباريًّا، وتحتوى هذه الخارطة على جميع المدارس الحالية، سواء أكانت أميرية أم أهلية أم تابعة للأوقاف، وظاهر فيها أيضًا الأماكن التي تشاد فيها المدارس والكتاتيب للتعليم الإجباري بنسبة عدد المواليد في كل حي من أحياء المدينة، بحيث لا تزيد المسافة بين مكتب وآخر أكثر من نصف ميل واحد، فلا يبعد كثيرًا عن منازل التلاميذ ولا يتكلف التلميذ عناء الانتقال لمسافات بعيدة، وجملة خرط أخرى حافلة بمصنوعات حيوية.
هذا ولما كانت القاهرة أعظم مدن أفريقية ومن أكبر عواصم الشرق، سواء كان بالنسبة لكثرة السكان أم لفخامة الأضرحة والجوامع والمباني والآثار، أو انتظام الشوارع وسهولة الانتقال، ولها تاريخ حافل بجلائل الأمور ومحفوظات مكتوبة تتضمن بيانًا وافيًا عن كيفية إنشائها، وبيان ما بني فيها من الأحياء والمباني الشهيرة على توالي السنين، وقد سارت في عصور هذا التاريخ طبقًا المقتضيات نواميس التقدم والارتقاء، فصارت كما هي اليوم عروس هذا الوادي ودرة من درر الشرق الغوالي، وذلك بفضل اهتمام مصلحة التنظيم هذه الأيام بتاريخ القاهرة الخاص، كما اهتمت بمستقبلها الذي يقتضيه انتشار العمران فيها، وازدياد السكان واتساع أعمال الحكومة ودائرة الصناعة والتجارة، فرسم صاحب الترجمة في لوحة كبيرة رسومًا عديدة تبين القاهرة في جميع أدوارها، وتظهر ما طرأ على مجرى النيل بجوارها وما أنشئ من المباني الفخمة وتاريخ إنشاء كل منها من العصر الروماني إلى العربي إلى زمن المغفور له الخديوي إسماعيل، وهذه مأثرة كبرى تضاف إلى مآثره الجزيلة التي صادفت من الأمة ارتياحًا وشكرًا عظيمًا.
ورغمًا من رفيع منزلته وكبير مركزه وكثرة مشاغله وانهماكه في الأعمال أناء الليل وأطراف النهار، تراه بشوش الوجه ضاحك السن لطيف الحديث حسن الوفادة لا عيب فيه سوى تفانيه في خدمة بلاده ومساعدة الفقراء، وكل من أخنى عليه الدهر بنابه، وإن مصر لتفخر كل الفخر بأمثال حضرته ونبوغه وتفوقه، ونرجو الحق تعالى أن يكثر من أمثاله لرفع لواء مجدها وإسعادها، وأن يمتعه بدوام الهناء والرفاهية إنه على ما يشاء قدير.