ترجمة حضرة صاحب العزة الأستاذ الجليل أحمد بك لطفي السيد
مقدمة للمؤرخ
مولده ونشأته
ولد حضرة الأستاذ المترجم له في ٥ ذي القعدة سنة ١٢٨٨ﻫ ببلدة برقين من أعمال مركز السنبلاوين بمديرية الدقهلية، وكان أبوه المرحوم السيد باشا علي رجلًا ذا مواهب فطرية في قوة المراس والذكاء، ومكارم الأخلاق، وعزة النفس، وعفة اليد والقلب واللسان والنزاهة والصدق وما كان لأحد عليه فضل في ذلك سوى نفسه وتربية زمنه، فنشأ الأستاذ لطفي بك على هذه الخلال المرضية من طريق الموهبة الوراثية، ثم زاد عليها ما اكتسبته نفسه أو ما لقنه العلم الذي تلقاه في معاهده.
دخل الأستاذ في أول عهده مكتب برقين، ومنه انتقل إلى مدرسة المنصورة الأميرية، ومنها إلى المدرسة الخديوية بمصر فمدرسة الحقوق سنة ١٨٨٩، ومنها تخرج حاملًا «الليسانس» في أقل من سنواتها المدرسية، ولا يمكننا أن نقول: إنه انقطع بعد ذلك عن المدارس فلقد كانت له من نفسه مدرسة أخرى بما طالعه من مختلف الكتب في أنواع العلوم والفنون باللغتين العربية والفرنسية.
وعلى أن المترجم له ولد في بيت مجد وربي في معاهد علم ونشأ في كفالة أب ذكي مدرب — وهذه كلها أسس صالحة لبنيان الرجال — ولكنه كان ولنفسه أيضًا على نفسه نشأة أخرى جعلت له ذاتية من صنع يديه، فكأنه وهو الناشئ في خير التقاليد الموروثة أبى إلا أن يكون ابن نفسه أو نسيج وحده كما ضرب المثل.
وظائفه وأعماله
قبل أن نذكر شيئًا من الوظائف التي تولاها والأعمال الجليلة التي باشرها، نأتي هنا بطرف من أخلاق نفسه التي كانت هي قوام أعماله.
فالرجل نقادة يقدر الرجال بنظره، ذكي يعرف ما وراء الحديث بكلمة، أبي يهون كل شيء في سبيل كرامته، سخي ليس لنفسه ما ملكت يده، حييٌّ للمستضعفين مصعِّر خده للمستكبرين.
ولو أن للطفرة مجالًا لكان آخر ما تولاه من المناصب هو أول ما كان له في بدء حياته العملية، ولكن الأمور مرهونة بأوقاتها.
فما تخرج الأستاذ من مدرسة الحقوق سنة ١٨٩٥ حتى تعين عضوًا بالنيابة، فمساعدًا فيها ببني سويف فالفيوم سنة ١٨٩٦م، ثم صار وكيلًا لها في ميت غمر سنة ١٩٠١ فنائبًا للفيوم سنة ١٩٠٤م، وفي سنة ١٩٠٦م استقال من الحكومة واشتغل بالمحاماة إلى سنة ١٩٠٨.
فهذه السنوات التي مضاها في الحقوق فالنيابة فالمحاماة قد أكسبته فوق مقدرته الشخصية، ومطالعاته الخاصة خبرة قضائية جعلته من صفوة رجال القانون والتشريع.
وفي سنة ١٩٠٨ ألف حزب الأمة فكان ناموسه، وأنشئت الجريدة فكان مديرها، وبذلك ابتدأت حياته السياسية الأولى، وأضاف الأستاذ إلى ألقابه العلمية لقب «الكاتب الكبير والصحافي القدير».
ومن هاهنا تجلت مواهبه بلونها الناصع، في مجالها الواسع، فاتجهت إليه الأبصار بعد أن أصبح رجل الأقلام والمنابر، فالناس إن تنس لا تنسى خطبه الرنانة حين كان ناموس الحزب أو بعد ذلك في محاضراته السياسية أو الاجتماعية، ولا تنسى مقالاته الرائعة التي كان يمليها على قلمه الفياض قريحته الوقادة وذهنه الحاد.
نعم كانت جميع خطاباته ومقالاته حفيلة بالأفكار العالية، والآراء السديدة السامية فوق ما في أسلوبها الفذ من قوة البيان، وابتكار الموضوعات والألفاظ والمعاني.
فالجريدة في عهده كانت مبدأ نهضة أدبية مباركة، وكم ربت من كبار الكتاب والمفكرين والأدباء والشعراء من هم اليوم موطن الرأي في البلاد، كما أوجدت طورًا جديدًا في الحركة الفكرية والأخلاقية والسياسية، أساسها استقلال الوطن عن كل سيادة أجنبية، وقمتها أن تكون الأمة وحدها هي مصدر السلطة في الحكم.
وكان الأستاذ لطفي في هذه الحركة عرقها النابض ولسانها الناطق، غادر الأستاذ الجريدة سنة ١٩١٤م بعد أن ترك فيها أو في الأمة على أصح تعبير أحسن الأثر في مختلف نواحيها.
فمن الوجهة الأخلاقية كان في الأمة من يعيش على النفاق والرياء تقربًا إلى ذوي السلطة والحكم، فأرى الناس أنه لا زلفى في الحق لأمير أو لوزير.
ومن الوجهة الاجتماعية كان فريق من المحافظين يستميت في القديم ويقدسه عن طريق الوراثة لا عن طريق العقل، فخرج عليهم بمبادئه الجديدة، فجذبت إليه أبصارهم سواء كان ذلك في أمر البيئة أو العادات الموروثة.
ومن الوجهة الأدبية، كانت طائفة من أرباب الأقلام تكتب بأسلوب مقيد، وتفكر في دائرة محدودة، فأطلق الأقلام بما كتب وفكر من تلك القيود العقيمة وكان إمامًا أو قائدًا لدولة جديدة في الرأي والتعبير، ومن الوجهة السياسية كان بعض الزعماء يدعون الأمة بقبول سيادة خاصة، وإنهم وإن دعاهم حسن القصد في الخدمة الوطنية إلى هذا المنزع من الرأي، إلا أنه على نقيض ذلك كان يرى الحكمة في مجابهة هذا الرأي مهما استهدف للوم من أجله، وكانت هذه الحقيقة أكبر خدمة أداها الأستاذ لقومه وبلده.
مالت نفس الأستاذ لطفي بعد ترك الجريدة إلى العمل النيابي فانتخب عضوًا في مجلس مديرية الدقهلية، فكان فيه مرجع الاستشارة ومصدر الآراء القيمة، على أنه ما لبث أن حن إلى بيئته الأولى القضائية فأجاب داعي الحكومة حين أسندت إليه رئاسة النيابة في بني سويف سنة ١٩١٥.
وحين خلا مركز مدير دار الكتب من شاغله الألماني اختير هو له ليكون أول مدير وطني يسد عن الأجنبي في هذا المركز الجليل، فنقل إليه وظل فيه إلى أن تألف سنة ١٩١٨ الوفد المصري المطالب لمصر بالاستقلال التام، فصادف ذلك هوى في نفسه وآثر الاستقالة ليتفرغ للخدمة في أكبر تطور سياسي أدركه، وكان في الحقيقة من الممهدين له من سنوات خلت كما تقدم بيانه.
جاهد في الوفد مع من جاهد ثم فاوض فيمن فاوضوا، ولكنه اعتزل السياسة بعد بلاء فيها، وحين رأى أن انقسام الآراء لا يجديه نفعًا ولا يجد بها عاد إلى وظيفته بدار الكتب في سنة ١٩٢٢ إلى سنة ١٩٢٥، ومنها تعين أول مدير وطني للجامعة المصرية بعد انتقالها إلى يد الحكومة فأصبح بذلك في أكبر منصب علمي في الديار المصرية.
-
ففي سنة ١٨٩٢ سافر إلى تركيا.
-
وفي سنة ١٨٩٣ توجه إلى فرنسا.
-
وفي سنة ١٨٩٧ قصد إيطاليا فسويسرا.
-
وفي سنة ١٩٠٤ يمم سوريا فجبل لبنان والمدينة المنورة.
-
وفي سنة ١٩١٦ وما بعدها ذهب إلى فرنسا وإنجلترا مع الوفد المصري.
وحين كان بدار الكتب اشتغل بترجمة كتاب الأخلاق لأرسطو، وطبعه في جزأين ثم تنازل عنه بنفقاته للجنة التأليف والترجمة والنشر التي تتولى هي الآن نشره، وكان لظهور هذا الكتاب رجة في عالم الأدب والتأليف لما لصاحبه ولمترجمه من المنزلة الخاصة في علم الفلسفة والأخلاق، وللكتاب نفسه من الأثر العلمي والتاريخي.
هذه هي الأدوار التي مر بها الأستاذ المترجم له، وإذا كنا قد أتينا بشيء من صفاته الشخصية فجدير بنا أن نذكر هنا أنه كان في وظائفه التي تولاها رجل الجد والنزاهة والعدل، فالناس عنده سواء، وأحبهم لديه أصدقهم قولًا، وأرفعهم نفسًا، وأحسنهم عملًا، وأكرمهم عنده أطهرهم يدًا وأبرهم خدمة وأجزلهم نفعًا، وإذا كان من فطرته حب الاستقلال في جميع الأعمال، فلقد كان يترك لمرءوسيه حرية العمل في دائرة القانون، ولا يجعلهم يحسون بالرقابة عليهم ثقة أن يجعلوا منها الرقابة على أنفسهم، فإن زل أحدهم عن فرط إهمال لا تأخذه فيه رحمة وإن بدر ذلك منه جدًّا.
وهو رجل مهيب بفطرته وربما كان في هيبته ما يغني عن استخدام شدته، على أنها ليست من طبيعته.
ثم هو فوق ذلك دمث الأخلاق لين العريكة بشوش عند اللقاء لا يكذب ولا يغتاب، أنيس في الألفة، وإن أحب العزلة، ميال للمطالعة وخصوصًا في كتب الفلسفة والمنطق، غيور على أمته، وإن آلمه كثير من طبائعها.
وصفوة القول: إنه رجل والرجال قليل، أدامه الله لأمته وأسبغ عليه من نعمته، ووفقه إلى آماله وأكثر من أمثاله.