ترجمة نيافة الأب الجليل والراعي الكريم الكلي الطوبى والاحترام الأنبا لوكاس
كلمة للمؤرخ
ولكم دعي في أفراح سراة الأمة لإجراء عقد الأكاليل، فسر السامعين بفصاحة لسانه وقوة بيانه وسحر كلامه وشجي ألفاظه، ولا تسل عن مقدار تلهف سكان مصر القاهرة لرؤية شخصه الكريم، عندما تذيع الجرائد اليومية خبر تشريفه لقضاء بضعة أيام بها، فترى القوم يتساءلون في أي كنيسة سيخدم هذا العالم الجليل والحبر الكريم، حتى متى عرفوا مقرَّها ذهبوا أفواجًا حتى تضيق بهم الكنيسة على سعتها؛ وذلك لسماع سحر بيانه ورقيق ألفاظه وجمال منطقه وشجي صوته العذب، وفي كل ذلك الدلالة الكافية على ما له من المكانة العالية والاحترام الكلي لشخصه الكريم.
مولده ونشأته
ولد هذا الشاب التقي ببندر دمنهور سنة ١٨٧٣م من أبوين تقيين، فسمياه ميخائيل، وربياه على التقوى والصلاح، حتى إذا ما بلغ الثامنة من العمر أدخلاه المدرسة القبطية بها، ولم يمض طويل زمن حتى كان موضع إعجاب أساتذته لذكائه، وفرط نباهته ولتفوقه على زملائه الطلبة، وقد رأى وهو في الثانية عشرة من عمره دافعًا غريبًا وميلًا كليًّا للرهبنة، وتَرْكِ زخرف الدنيا فتوجه إلى دير قريب هناك، فلما علم أبواه بغيابه لحقا به وأثنياه عن عزمه، وأرجعاه مرغمًا وأدخلاه المدرسة، فظل بها حتى أتم دروسه، وكان عمره إذ ذاك سبع عشرة سنة، ولما أخرج من المدرسة شعر أنه لم يدرس من العلوم إلا قشورًا فعول على مطالعة الكتب الأدبية والتاريخية والفلسفية، فأقبل عليها بشغف عظيم، وفي سنة ١٨٩٢م تعين مدرسًا بمدرسة منفلوط القبطية وعمره وقتئذ تسع عشرة سنة، ومكث بها سبع سنوات متواليات كان فيها مثال العفة والاستقامة والجد والإقدام، ولم يتركها إلا لكي ينفذ تلك الإرادة الإلهية، ويجيب دعوة من دعاه واختاره فدخل دير البرموس بوادي النطرون، وذلك في أول توت سنة ١٦١٦ق، وهو في السادسة والعشرين من العمر ودعي باسم ميخائيل البرموسي، وبعد خمسة شهور من تاريخ دخوله للدير كتب نيافة مطران الإسكندرية إلى رئيس الدير بأن يبعثه إلى الإسكندرية، وذلك لما بلغه عمّا عليه صاحب الترجمة من دلائل الزهد وليتحقق بنفسه مما سمعه عنه فرأى فيه علمًا وورعًا وذكاء ونباهة، ففكر في عدم حرمانه من تتميم علومه اللاهوتية، فأرسله إلى مدرسة رسيدابرموث بأثينا، فعاد منها بعد أربعة شهور فرسمه قسًّا في أول فبراير سنة ١٩٠١، ثم وكيلًا لمطرانية الإسكندرية وواعظًا بها فكان فمه يقطر الآيات الذهبية، ثم رسمه قمصًا في فبراير سنة ١٩٠٣، ثم رسم أسقفًا لكرسي قنا وقوص في ١٥ مارس سنة ١٩٠٣، ثم عند رسامته انتقل إليه وفد من كبار الإسكندريين نيابة عن أقباط الثغر حاملًا هديتين ثمينتين، وهما صليب من الذهب الخالص مكتوب على أحد وجهيه «رأس الحكمة مخافة الله»، وساعة ذهبية سلسلتها من ذهب أيضًا مكتوب عليها ما هو مكتوب على الصليب، وذلك تقديرًا لخدماته وعظيم إرشاداته وحكمته وصدق وطنيته ومكانته السامية في القلوب، ثم رسم مطرانًا في ١٩ أغسطس سنة ١٩٠٦م، ولم ير أمام عينه سوى ما يجب أن يعمله لأبنائه المخلصين، فشكل جمعية من كبار أسرهم وقاموا بتأسيس مدرسة بلغت نفقاتها ما ينوف عن الألف وخمسمائة جنيهًا، وأنشأ قصرًا فخمًا للمطرانية، وهو أول من فكر في إنشاء قسم ثانوي بالصعيد حتى صار هذا القسم من عداد المدارس الأميرية، وله عدا ذلك مآثر كثيرة لا يحصى عددها، كما أنه جدد عدة كنائس وأصلح كثيرًا من الكنائس القديمة؛ ولذا أجمعت رعيته إلى محبته حتى امتلك القلوب والمشاعر، حيث وجدوا في شخصه الجليل الراعي الصالح والأب التقي، الذي يمكنه أن يسوس شعبه بأصالة الرأي والحزم والكفاءة التامة مع التقوى والفضيلة.
تعيينه عضوًا معينًا لمجلس الشيوخ المصري
ولما ذاع فضله وفاح ورعه وتجلت كفاءته الشخصية عدا مواهبه الدينية والأدبية والعلمية، فقد وقع اختيار حكومتنا الدستورية في عهدها الجديد على تعيين نيافته عضوًا بمجلس الشيوخ المصري، نظرًا لسعة علمه وجمال صفاته وسمو أخلاقه، وعالي تربيته فصادف هذا الاختيار ارتياحًا من جميع طبقات الشعب المصري عامة والأقباط خاصة؛ لأنه والحق يقال جدير لهذا الالتفات السامي وبكل رعاية.
صفاته وأخلاقه
ونيافته مشهور بدماثة الأخلاق وطلاقة الوجه وحلاوة الحديث والذكاء المفرط، وغزارة العلم والتواضع المتناهي، وسلامة القلب والورع والتقوى، فتجده مخلصًا لشعبه غيورًا على دينه، محافظًا على الفروض الدينية كارهًا لنعيم الدنيا راغبًا عنها.
أدام الله حياته ومتعه بدوام الصحة والسعادة، وأكثر من أمثاله بين رجال الأكليروس الأرثوذكسي، إنه كريم قدير.