ترجمة حضرة صاحب العزة السري الوجيه سمعان بك غبريال القمص
كلمة للمؤرخ
من العائلات العريقة في المجد والسؤدد وشرف المحتد وطيب العنصر عائلة القمص، وهي أشهر من أن تذكر في مركز ديروط بمديرية أسيوط وعميد هذه الأسرة المرحوم طيب الذكر خالد الأثر الورع القمص حنس الذي خدم رتبة الكهنوت أربعين سنة، وقام بعبء الشعب الأرثوذكسي فكان قطبًا من أقطاب الشريعة الغراء، ونبراسًا يهتدى بنور عرفانه عموم شعب أبروشيته، وكان نور الفضيلة ينبعث منه نيح الله روحه الطاهرة وتغمده برحمته ورضوانه.
أما والد حضرة صاحب الترجمة هو المرحوم غبريال أفندي القمص ابن المرحوم حنس القمص، فعهد والده بتثقيف عقله وتهذيبه على التقوى والصلاح، ولما أتم علومه وظهرت مواهبه تعين في جملة وظائف بالدائرة السنية حتى وصل إلى وظيفة باشكاتب جفالك الروضة في عهد المغفور له إسماعيل باشا الخديوي الأسبق، فقام بعبء أعماله بكل نزاهة وإخلاص، وهذا هو الأمر الذي كان يحبه من أجله سمو الخديوي، وكان يركن إليه في كل مهام أشغال جفالك الروضة، ونقل إلى جوار ربه مأسوفًا عليه من كل من عرف فضله.
مولده ونشأته
أما حضرة صاحب الترجمة سمعان بك فهو ابن غبريال بن حنس القمص، ولد في سنة ١٨٧٠ ميلادية ببلدة ديروط الشريف من أعمال مديرية أسيوط، فنشأ نشأة صالحة على الفضيلة منذ نعومة أظفاره، ثم دخل مكتب بلده وتعلم فيه القراءة والكتابة، فبز على أقرانه وشهد له معلموه بالذكاء الفطري.
ولما بلغ سن الشيبوبة أخذت مواهبه تظهر بأجل معانيها في مديرية أسيوط، فأجمع الكل من حاكم ومحكوم على تعيينه عمدة لديروط الشريف سنة ١٩٠٧م، فقابل الأهالي هذا التعيين بمزيد الارتياح والسرور؛ لأنه اشتهر بالعدل والإنصاف ومساعدة المظلوم، ودفع الاستبداد الذي كان يأتيه بعض عمد البلاد، فاستحق رضا الخالق والمخلوق ورفرفت الطمأنينة على بلده ولشدة بطشه بالأشقياء اعتدى عليه شقي بطلق ناري في سنة ١٩١٤م أصابه إصابة بسيطة؛ لأن الله تعالى يحافظ على حياة أتقيائه المخلصين له ولبلادهم.
ولعلو كعبه وهمته الشماء انتخبه أهالي مركزه لأن يمثلهم في مجلس مديرية أسيوط، فكان لهذه الإنابة الأثر المحمود والأيادي البيضاء في نشر العلم في أنحاء مركز ديروط وغيره، وله الآراء السديدة في كل مشروع هام، وقد طلب تدريس الدين المسيحي للمسيحيين، وعزز هذا الاقتراح ببراهين قوية، وأسلوب حسن؛ لأن الدين أساس العمران، ينهى عن ارتكاب المفاسد والموبقات، وفعلًا نفذ هذا الطلب وصار معمولًا به إلى الآن.
وقد انتخب عدة مرات في لجنة الشياخات، ومخالفة النيل والترع والجسور وغيرها، ومع كل هذه المشاغل لم يضن على طائفته بأن يقوم بخدمتها، فمن سنة ١٨٩٢م وهو قائم بوظيفة عضو المجلس الملي وهو في الحقيقة قائم بأعمال هذا المجلس كله في عموم أبروشية كرسي صنبو وقسقام.
أعماله الخيرية الخالدة
أما الأعمال الخيرية فله فيها القدح المعلى فطالما مد يد المساعدة لمن أخنى عليهم الدهر بكلكله، وهو ممن ساعد على تشييد المدرسة الصناعية بديروط، والمستشفى الرمدي، وكذا مستوصف الأطفال وملجأ الأيتام، وكلية البنات، كما وقد شيد كنيسة كبرى لإقامة الفروض الدينية الأرثوذكسية، أنفق عليها من ماله الخاص نحو ٦٠٠٠ ستة آلاف جنيه مصري، ويفصلها ومنزله الخصوصي حديقة غناء بل جنة فيحاء، وفتحت أبواب هذه الكنيسة الفخمة التي قل وجود نظيرها في أشهر مدن القطر المصري في شهر أبريل سنة ١٩٢٤، وقد أوقف عليها ثمانية أفدنة ونصف من أجود أطيانه، يبلغ ريعها السنوي أكثر من مائتي جنيه.
ومن نعم الله تعالى على حضرة صاحب الترجمة المفضال أن رزقه بشبلين هما عنوان النجابة والفطنة والذكاء: أكبرهما حضرة يونان أفندي، وهما على مثال حضرة والدهما في الاستقامة والطهارة وجمال الخلق.
وقد طلب حضرة صاحب الترجمة من مصلحة الصحة التصريح له ببناء مدفن خصوصي داخل الكنيسة التي شادها حديثًا وأشرنا إليها، بل التي تعتبر صورة طبق الأصل من الكنيسة المرقسية الكبرى بمصر من كل الوجوه، وتمتاز الأولى بجمال زخرفها وبهاء رونقها، فأجيب إلى طلبه.
كفاءته الشخصية
ونظرًا لكفاءته الشخصية العالية وآرائه السديدة، واقتراحاته الصائبة التي بلغت مسامع عظمة جلالة الملك أحمد فؤاد الأول ملك مصر والسودان أنعم الله عليه برتبة البكوية من الدرجة الثانية في أوائل سنة ١٩١٨، كما وقد انتخب عضوًا في مجلس الشيوخ المصري، وقد صادف هذا التعين ارتياحًا عظيمًا وحل السرور في قلوب عارفي فضله وشهامته وغيرته الوطنية وصفاته الجليلة.
صفاته وأخلاقه
ومن الصفات المحمودة الممتازة التي اتصف بها حضرة صاحب الترجمة: دماثة الأخلاق، وعلو الهمة، والشهامة، والرجولية الصحيحة، والكفاءة الشخصية، والكرم الحاتمي، والعطف المتناهي نحو البؤساء مع التقوى والصلاح.
أدام الله حياته وحضرات أشباله الكرام، وأبقاهم جميعًا لخير مصر وإسعادها.