ترجمة حضرة صاحب الفضيلة الحسيب النسيب السيد محمد علي الببلاوي
كلمة للمؤرخ
لسنا في حاجة إلى كلمة مدح نوجهها إلى هذا العالم الجليل الذي اشتهر بين طبقات الأمة المصرية بالتقوى والصلاح والعلم الغزير والأدب الجم، وعلو الكعب في مختلف العلوم والذكاء المفرط، ويكفينا ما قد وصل إليه من سمو المكانة والرفعة في قلوب عارفي فضله وكماله، بفضل تلك المواهب السامية والخصال النبيلة التي أودعها الله تعالى في شخصه الكريم.
مولده ونشأته
ولما آنس منه والده قوة على تلقي العلوم المعتاد تدريسها في الأزهر أرسله إليه، وكان ذلك في شوال سنة ١٢٩٢ فانتظم في سلك طلبته وجد في تحصيل فنونه على نخبة من أفاضل أساتذته، وكان في مدة طلبه العلم بالأزهر نابغة بين إخوانه يشهد له كل من شاركه بالذكاء والفطنة، وكان مولعًا في أثناء طلبه العلم بالأزهر بجمع نفائس الكتب العربية مغرمًا بالبحث عنها في مظانها، واتفق أن خلت بالكتبخانة الخديوية في المحرم سنة ١٣٠٠ وظيفة مغير للكتب العربية، فعين المترجم فيها فصادف تعيينه فيها هوى في نفسه فجد في ترتيب فنونها، وتنسيق فهارسها والبحث عن تواريخ المؤلفين وسيرهم، حتى كان كثير من الأفاضل الذين يقصدون هذه الدار يعجبون من سرعة خاطره في الإجابة عما يسأل عنه منها، ويتحدثون بقوة ذاكرته لأسماء المؤلفين ومواليدهم ووفياتهم، وكانت له اليد الطولي في تحرير الفهارس المطبوعة للكتب المحفوظة في هذه الديار، وما زال يجد في أعمال وظيفته ووزارة المعارف تكافئه على جده واجتهاده، حتى صار وكيل هذه الدار، ولم يشغله قيامه بالواجب عليه في أعمال وظيفته عن إتمام دراسة علوم الأزهر الشريف، فكان في أوقات فراغه يحضر مهمات الدروس في الأزهر على كبار أساتذته حتى حصل على شهادة العالمية فيه.
ولما وجهت وظيفة نقابة الأشراف إلى والده السيد الببلاوي الكبير نزل المترجم لولده عن وظيفة الخطابة في المسجد الحسيني، فكانت خطبه في هذا المسجد على المنوال الذي احتذاه محل إعجاب السامعين.
وكان من آثار منهجه في خطبه أن الخديوي السابق لما عزم على الحج في سنة ١٣٢٦ﻫ أدى صلاة الجمعة في المسجد الحسيني قبل سفره، فخطب المترجم خطبة في الحج وقعت من نفسه أحسن موقع، وكانت موضوع حديثه بعد خروجه من المسجد، وأمر بأن يحج المترجم معه في معيته، فسافر في ركابه وأدى فريضة الحج معه وحظى بزيارة جده المصطفى ﷺ.
وحدث أيضًا أن الخديوي كلفه فجأة بعد صلاة الجمعة في الحرم النبوي أن يخطب للقوم ارتجالًا، فخطب خطبة في الاتحاد والائتلاف كانت آية في بابها دهش لحسنها كل من سمعها، وتجلت عليه فيها بركات جده ﷺ وقد منحته الحكومة المصرية مكافأة على جده النيشان المجيدي، ثم العثماني ثم نيشان النيل من الدرجة الرابعة، وما زال حفظه الله يقوم بما عهد إليه من وكالة دار الكتب المصرية والخطابة في المسجد الحسيني بما هو معروف عنه، ومشهور بين إخوانه وعارفيه من سعة الخلق ولين الجانب وخدمة قاصديه يشهد بذلك كل من عرفه.
ولما توفي المرحوم السيد مكرم نقيب السادة الإشراف بالديار المصرية في أغسطس سنة ٢٠ صدر الأمر الملكي الكريم بإسناد منصب نقابة عموم السادة الإشراف بالقطر المصري إلى صاحب الترجمة؛ لما هو معروف عند صاحب الجلالة الملك فؤاد الأول حفظه الله من أن أسرة المترجم عريقة في الحسب صحيحة النسب إلى الحضرة النبوية، ومنحه نيشان النيل من الطبقة الثانية، ولما كان جلال هذا المنصب لا يتفق مع التوظف في دار الكتب رأت الحكومة إحالة المترجم على المعاش؛ ولكي لا تحرم دار الكتب من تجاريبه ومعلوماته الفنية. وفي أثناء سنة ١٩٢١ توجهت إرادة حضرة صاحب الجلالة الملك إلى جمع نفائس المؤلفات العربية النادرة، وحفظها في دار الكتب المصرية، فعهد إلى سماحة السيد المترجم بالسفر إلى الأستانة؛ ليبحث في مكاتبها العديدة النفيسة عن نوادر المؤلفات العربية التي لا توجد في مصر، فصدع السيد المترجم بالأمر وسافر إلى الأستانة في نوفمبر سنة ١٩٢١ وزار كل كتبخاناتها، وبحث ونقب عن نوادر أسفارها واختار منها نحو مئة وخمسين مؤلفًا من نوادر المؤلفات التي لا توجد في مصر، وأخذ صورها تامة كاملة بالفتوغرافية وهذه المؤلفات الآن في دار الكتب المصرية درة في تاجها وغرة في جبينها، وكان مسكنه في الأستانة موردًا للأدباء والفضلاء والأمراء زاره فيه كبار القصر الملكي، وقد حظي في أثناء إقامته بمقابلة السلطان محمد وحيد الدين سلطان تركيا في ذلك الوقت، فلقي منه كل عطف وتلطف ومنحه في أثناء هذه الزيارة النيشان العثماني من الطبقة الثانية، وعاد المترجم إلى القاهرة في فبراير سنة ٩٢٢ موفور الكرامة مرموقًا بالإجلال والاحترام، ولما شرعت المملكة المصرية في تكوين البرلمان عين حضرة صاحب الجلالة الملك سماحة السيد المترجم عضوًا في مجلس الشيوخ، ولما انتظم عقد هذا المجلس انتخب السيد من هيئة المجلس عضوًا في كثير من لجانه، وما زال يشتغل مع زملائه بجد ونشاط في هذه اللجان؛ أملًا في إصلاح بلاده وإيصال الخير إليها.
صفاته وأخلاقه
وحضرة السيد صاحب الترجمة على جانب عظيم من الرأفة بالبؤساء، مشهور بالدعة وكرم الأخلاق وحسن المعاشرة محبوب عند الجميع لفضله وصلاحه واستقامته، وغزارة علمه وأدبه الجم. أكثر الله من أمثاله لخدمة البلاد ونفع العباد.