ترجمة أحد أبطال النهضة الوطنية الأستاذ القانوني البارع راغب إسكندر بك
مقدمة وجيزة
مولده ونشأته
ولد حضرة صاحب الترجمة يوم أول ديسمبر سنة ١٨٨٨ وهو النجل الثاني لحضرة صاحب العزة الإداري الحازم إسكندر بك مسيحه، وشقيق حضرة النطاسي البارع والوطني الصميم الدكتور نجيب بك إسكندر.
تلقى علومه الأولية بمدرسة الأقباط الكبرى بالدرب الواسع، وانتقل منها إلى مدرسة عابدين الأميرية وفيها تجلت مواهبه السامية من ذكاء ونشاط ونجابة حتى أدهش أساتذته بهذا النبوغ الفطري، وبعد أن أتم علومه الابتدائية، وحصل على شهادتها عام ١٩١٣م دخل المدرسة التوفيقية بشبرا، ومكث بها مدة الثلاث سنوات المقررة، وفي السنة الأخيرة منها كان قد تقرر تقسيم الفصول النهائية بالقسم الثانوي إلى أدبي وعلمي، فرغب الدخول بالقسم الأدبي، وأخذ يرتشف العلوم بكل جد ونشاط وعزيمة لا تعرف الملل حتى فاز منها بالحصول على شهادتها الثانوية، ومن ثم دخل مدرسة الحقوق الملكية فامتاز بين أقرانه الطلبة بالذكاء الحاد والاستقامة المتناهية، وحصل على دبلوم الحقوق في مايو سنة ١٩١٠م بتفوق عظيم.
ولشدة ولعه بالأعمال الحرة افتتح له مكتبًا للمحاماة فنبغ في هذه المهنة الشريفة نبوغًا عظيمًا، فأصبح في مقدمة نوابغ المحامين، ويمتاز بتأثيره في الدفاع وبحسن معاملته ووداعته، وحلمه وهو مقرر أمام محكمة الاستئناف العليا.
جهاده السياسي
كان حضرة صاحب الترجمة أول المتتبعين لحركة البلاد السياسية، وطالما جاهر بآرائه في طريق النشر في أمهات الجرائد اليومية وكم أبدى من تصريحات سياسية هامة فيما يختص بالحركة الوطنية، وكم له من مقالات رنانة في المواضيع العامة تدل جميعها على صراحة تامة ومبدأ قويم.
انتخب عضوًا لمجلس إدارة الحزب الديموقراطي المصري المرة، ولكنه استقال منه سنة ١٩٢١م نظرًا للخطة التي اتبعها هذا الحزب إزاء السياسة العامة في البلاد.
وانضم إلى العاملين في الحركة الوطنية من أواخر سنة ١٩١٨م، واشتغل بمنتهى الإخلاص في جميع الأدوار العمومية المتعلقة بسياسة البلاد، وظل مستمرًّا على الجهاد بإخلاص عظيم تحت لواء زعيم الأمة حضرة صاحب الدولة سعد زغلول باشا، وخدمة الوفد المصري حتى انتخب عضوًا فيه بعد اعتقال أعضاء الوفد في شهر أغسطس سنة ١٩٢٢، وقد اعتقل بسبب مواقفه السياسية في الوفد في مارس سنة ١٩٢٣، ثم أفرج عنه بعده واعتقل ثانية في شهر مايو سنة ١٩٢٣.
وقد تجلت شجاعته الأدبية ومبدئه الراسخ في هذه الظروف العصبية، ولم تكن هذه الأهوال المتوالية لتزحزحه قيد شعرة عن عزيمته الماضية، بل بالعكس زادته رسوخًا وثباتًا، الأمر الذي أوجب إطراء دولة الزعيم الجليل له على شجاعته الأدبية في أشد المواقف خطرًا.
وقد انتخب نائبًا في مجلس النواب المنحل في دوريه الأول والثاني عن دائرة النعناعية بمديرية المنوفية.
أعماله الجليلة في المحاماة
انتخب عضوًا في مجلس نقابة المحامين في ديسمبر سنة ١٩٢٢، وله في هذا المجلس أراء صائبة واقتراحات سديدة ومواقف مشهورة دلت جميعها على علو كعبه في العلوم القانونية، والكفاءة الشخصية وهو محترم جدًّا في نظر حضرات زملائه المحامين للصفات السامية التي تجمل بها، وقد اشتهر بطهارة الذمة في مهنته؛ ولأنه من المحامين الذين يدرسون القضايا درسًا دقيقًا من كل وجوهها؛ ليقفوا على كل كبيرة وصغيرة فيها، ويكون لهم من وراء هذا الوقوف حسن الدفاع، وخدمة أربابها بالذمة والأمانة والنزاهة، وهذا هو السبب الوحيد الذي أكسبه هذه الشهرة الفائقة والوثوق التام.
أعماله الاجتماعية
ولقد نشأ بعد ولوجه المدرسة التوفيقية في وسط اجتماعي محض، فقد ألف هو وكثير من إخوانه جمعية أدبية إصلاحية للاجتماع وإلقاء المحاضرات، وقد كان صاحب الترجمة من المنكبين على الاشتغال بأعمالها مع أداء واجبه المدرسي، وفي العمل على ما يعود على المجموع بالخير فيها، وقد أنشأت هذه الجمعية مجلة أدبية اجتماعية وكان من القائمين بعملها، والمباشرين لتحريرها وطالما نشر فيها من المقالات العلمية والأدبية والتاريخية والقانونية والإصلاحية، وهو الذي جمع أدق وأضبط تاريخ للمرحوم بطرس غالي باشا، وكانت له اليد الطولى في تأليف كتاب مار مرقس الإنجيلي الذي ألفته هذه الجمعية، وهي التي قامت بحفلة «مصريين قبل كل شيء» التي ألقى فيها العالم الكبير أحمد زكي باشا خطبته المشهورة في التوفيق بين عناصر الأمة المصرية ناهيك بالحفلة الكبرى التي أقيمت في تياترو عباس لمشروع كلية البنات، ومثلت فيها رواية «لويس الحادي عشر»، وهو عضو بلجنة إدارة كلية البنات القبطية وبجمعية التوفيق الخيرية القبطية، وقائم بالاستشارة القضائية لكثير من الجمعيات والنقابات، ومنها نقابة معلمي العربات التي هو مستشارها القضائي، ولحضرته اليد المشكورة في كثير من الأعمال الخيرية، وله كتابات عديدة في المسائل الطائفية والإصلاحات القبطية.
وفي سنة ١٩٢١م أقام بالاشتراك مع كبار القوم حفلة شائقة للنيروز، وخطب فيها صاحب الدولة سعد زغلول باشا خطبة رنانة وشرفها سمو الأمير الجليل محمد علي باشا، وقد خصص إيراد هذه الحفلة لمساعدة ملجأ الحرية، وفوق ذلك له كثير من الأعمال المأثورة والأيادي المشكورة مما يشكر عليه بكل شفة ولسان.
صفاته وأخلاقه
عنيد للحق راسخ للمبدأ، صبور وقت نزول الشدائد والمحن، جريء في القول شهم في كل مواقفه، نزيه النفس وقد خصه الرحمن باللطف والدعة والدفاع عن الفضيلة بكل ما أوتي من قوة وبيان.
وإذا كانت للبيئة الصالحة تأثير عظيم في النفوس والأخلاق، فالأستاذ راغب إسكندر أكثر الناس حظًّا من ذلك، فإنه نشأ نشأة صالحة في بيئة صالحة كان له منها فضيلة الشجاعة وعلو الهمة، والتمسك بالحق والعدل ونصرة المظلوم مع العفة، وإن هذه الأخلاق السامية يعرفها فيه عشائره ويشهد له بها حتى خصومه وأعداؤه المتطرفون، وهو وقت الشدة لا يحب العنف، ووقت اللين لا يعرف الضعف، كثير الحلم والأناة، راجح العقل رزينه.
أدامه الله قدوة صالحة، وأحياه لمصر التي جاهد في سبيلها، وأكثر من أمثاله بين شبابها الناهض.