ترجمة حضرة الوطني الغيور الحسيب النسيب والرياضي الشهير السيد محمد بك تهامي خشبه
كلمة للمؤرخ
فمن هؤلاء النبلاء العاملين الذين ضحوا في سبيل المنفعة العامة الثمين من مالهم وصحتهم وزهرة حياتهم، ولهم مواقف شريفة وشهامة عالية؛ حضرة صاحب هذه الترجمة الحسيب النسيب السيد محمد بك تهامي خشبه من كبار وجهاء بندر أسيوط، وأحد أفراد أسرة خشبه الشهيرة بالمجد الأثيل والجاه العريض، فهذا الشهم رغم كثرة ثروته وشهرة عائلته أبى إلا العمل لخير بلاده، وفائدة مواطنيه وفضل الجهاد في ميدان الحياة عن زخرف الدنيا وأباطيلها، فشمر عن ساعد الجد وأتى من ضروب الإصلاح، وجليل المشاريع والمقدرة والكفاءة ما دل على نبوغ فطري وذكاء نادر.
مولده ونشأته
ولد حضرة المترجم له في بندر أسيوط عام ١٨٨٨م من أبوين شريفين كريمين، اشتهرا بالصلاح والتقوى وهو ابن المرحوم السيد محمد بك خشبه بن المرحوم السيد محمد بك علي خشبه، سر تجار أسيوط، فغذياه بلبان العلوم وأرضعاه لبان الأدب الصحيح، فنشأ بطبيعته ميالًا إلى العلوم وجنى المعارف، وقد تجلت مواهبه السامية منذ كان صبيًّا، مما دعا والده إلى مضاعفة الاهتمام بأمره في هذا الباب، فما كاد يلتحق بالمدارس حتى ضرب فيها بسهم من الذكاء والاجتهاد، وجعله دائمًا في طليعة فرقته وطفق يتفوق ويتدرج يانعًا حتى إذا ما نال الشهادة الثانوية، وهو في الثامنة عشر ربيعًا آنس في نفسه ميلًا خاصًّا إلى العلوم الرياضية، فالتحق بمدرسة الهندسة السلطانية (الملكية الآن)، فحذق فيها، ولو لم يعقه المرض قبل الامتحان النهائي لفاق الناجحين عمومًا، ولكنه مع ذلك كان الثاني في شهادة الهندسة العليا وهو لم يتجاوز الثانية والعشرين.
وظائفه الهندسية
ولما كان من سجاياه التمتع بالحرية والصراحة المطلقة في القول والعمل والحرية في الإرادة، كان يرغب كثيرًا عن الانتظام في سلك التوظف، غير أن فريقًا من أصدقائه ألح عليه مرارًا في التحاقه فيها، فامتثل بوحي آدابه وما انفطر عليه من تقديس رأي الجماعة، وانتظم في الري مهندسًا عام ١٩١٠م، حيث مكث فيها سنتين كان فيها مثال النزاهة والهمة والنشاط، ثم تغلبت عليه عاطفته الفطرية فاعتزل المنصب وتفرغ لمزاولة أراضي عائلته الخاصة فابتكر طريقه لبناء المجاري في الأراضي الرملية على طريقة حديثة هندسية من الحصى والرمل، وبعض المواد أتت بالمرغوب مع قلة النفقة، ومتانة البناء، وبذلك تحولت تلك الأراضي القحلاء الجدباء إلى جنة فيحاء، أينعت ثمارها وتدانت قطوفها ووقفت تباهي بمحاصيلها أخصب الأراضي جودًا ونموًّا.
ولما انتهى من ذلك المشروع حسن إليه أخلاؤه الكثيرون العودة إلى التوظف، فالتحق مهندسًا بالطرق الرئيسية بوزارة الأشغال، وفيها أتى من ضروب الاقتدار وفنون الهمة ما اقتاد به قلوب عموم رؤسائه، وجعله مرموقًا بعيون الإجلال والاحترام منهم.
غير أنه لما علم بمشروعات الحكومة الصيفية بمركز منفلوط الزراعية الصيفية، هناك من مياه الترعة الإبراهيمية التي تخترق أراضيه، وأراضي أسرته؛ وجد أن الميدان أفسح لإظهار مواهبه، فاستقال رغم تردد رؤسائه في قبولها ومعاودتهم له بالبقاء، ثم أخذ في مباشرة هذا المشروع الخطير بما عهد فيه من الهمة والإقدام وأجرى الترع هناك.
ونهر الأنهار بطرق فنية تشهد له بالمقدرة والكفاءة، ولا أدل على ذلك من تمكنه من إرواء خمسة آلاف فدان بالراحة وبغير كلفة، فزادت بذلك ثروة أهالي تلك البلاد بما يربو على الخمسين ألف جنيه سنويًّا، وقد قابل الأهالي ذلك بالبشر والارتياح؛ لأنهم ما كانوا ليتخيلوا أن أراضيهم الجدباء تعود يومًا جنة فيحاء.
تعيينه عضوًا بلجنة الوفد المركزية
ونظرًا لما قام به من الخدم الوطنية بعد الحرب التي دلت على روح عالية، ووطنية صادقة، دخل عضوًا في الوفد المصري للجنة الوفد المركزية بأسيوط، وقد اشتهر أيضًا بتأليف الكتب الثمينة المفيدة، ومن ذلك كتاب وضعه في الفلسفة العملية في الطبيعيات جامع لكل ما يهم رجال الفن، كما وقد كان عضوًا في لجنة المعهد العلمي بأسيوط وله فيه مآثر غراء وأياد بيضاء تدل على علو كعبه وكفاءته العظيمة في الأعمال الهندسية، وقد عرف الجميع له هذه المواهب السامية، فأخذوا ينادون بترشيحه للبرلمان المصري، كما نادى بذلك الوفد المصري لدائرة بني رافع التابعة لمركز منفلوط مديرية أسيوط، ولا شك أن هذا التعيين صادف أهله وحل محله؛ لأن حضرة المترجم له خير ما أنجبت مصر من أولادها علمًا وفضلًا ونشاطًا وإقدامًا وذكاءً، وسترى مصر من ثمرات مجهوداته فوائد جمة، ومن معلوماته التي سيبديها في قاعة البرلمان والآراء الناضجة والاقتراحات الصائبة ما يعزز صدق معلوماتنا فيه هذا إذا ظل مجلس النواب منعقدًا للآن.
صفاته وأخلاقه
رغمًا من انكبابه على أعماله الهندسية الهامة ومشاريعه الجليلة، نراه دائمًا بشوش الوجه دمث الأخلاق لطيف المعشر حلو الحديث دائب العمل لما فيه فائدة مواطنيه، وفوق كل ذلك تراه يضحي النفس والنفيس في حب بلاده المصرية العزيزة، وله في حركتها الوطنية الكبرى أثر خالد وعمل مجيد.
أدامه الله وأبقاه وأكثر من أمثاله الأدباء العاملين لخير البلاد ورفع شأنها.