ترجمة ساكن الجنان محمد توفيق باشا
ولما بلغ الحادية والعشرين من عمره تزوج بكريمة المرحوم إلهامي باشا، وهي مشهورة بالجمال والتعقل والكمال. وفي السنة التالية «١٨٧٤» ولد ولده البكر فسماه عباس حلمي، ثم ولد الأمير محمد علي سنة ١٨٧٧ والأميرة خديجة هانم سنة ١٨٧٧ والأميرة نعمت هانم سنة ١٨٨١.
وما زال يتقلد المناصب في عهد المرحوم أبيه حتى قضت الأحوال بإقالته كما تقدم في ترجمته، فاستلم رحمه الله أَزِمَّةَ الأحكام في ٢٦ مايو ١٨٧٩، وجاء الفرمان الشاهاني المؤذِن بذلك. وكان مشهورًا بحبه للوطن المصري، وقد شعر باحتياجه إلى الحرية والرفق بالرعية، فخفف الضرائب ونظر في تأمين أصحاب الديون، وفي أيامه تشكلت لجنة التصفية، وأنشأت قانونها فصادق هو عليه ثم طاف القطر المصري لتفقد الرعية واستطلاع أحوالهم، فدرس في أثناء تلك الرحلة ما يحتاج إليه القطر من الإصلاح، ولما عاد عمد على إصلاح حال الفلاح من ناحية ما عليه من الضرائب، فأمر بتقسيط الأموال والعُشور على أشهر معلومة، وأن تقتضى من الكبير والصغير على السواء، مع اتخاذ الرفق في تحصيلها، ومن تأخر عن السداد تُبَاعُ أرضه. فانتظمت الأحوال أحسن انتظام.
ثم وجَّه عنايته إلى إصلاح شؤون المعارف فأمر بإنشاء المدارس العالية والابتدائية، ووسع دوائر المدارس التي أنشأها آباؤه، ونظم شؤونها وجعل للبلاد نظامات شورية، وشكل مجالس المديريات ومجلس شورى القوانين والجمعية العمومية.
وفي أيامه أنشئت المحاكم الأهلية وتحسنت حال الري بإنشاء الترع وبناء القناطر الخيرية ورفع العونة والسخرة، وأنشأ لائحة المستخدَمين الملكية والعسكرية ومعاشاتهم.
وكان مع سهره على مصالح رعاياه تقيًّا ورعًا بنى المساجد ونظر في الأوقاف الخيرية، وأصلح فيها وكان شَفُوقًا على رعاياه كثير الرفق بهم، فأكثر من تنشيط أهل العمل بالرتب والنياشين، وكانت الرتب على عهد أبيه تستلزم زيادة الرواتب، فلما كثرت في أيامه جعلها لا تستلزم الرواتب، بل هي علامة شرف من أمير البلاد.
- أولًا: عزل «رفقي باشا» من وزارة الحربية.
- ثانيًا: إجراء تحقيق في كفاءة من فازوا بالترقي حديثًا بدون استحقاق.
وكان المعروض شديد اللهجة، فأدى إلى سلوك الحكومة مسلكًا جعل هذه الحادثة فاتحة «للثورة العرابية».
ولم يكن أحمد عرابي المحرك الأول لهذه الثورة، وإنما كان المحرك لها «علي فهمي بك»؛ لأنه أمير الألاي المعهود إليه حراسة القصر الخديوي، وكان قد أوقع به رفقي باشا عند الخديوي لأمر في نفسه، فحقد عليه علي فهمي وعمل على النكاية به، أما إطلاق لفظ «العرابية» على هذه الحوادث؛ فلأن أحمد عرابي هو الذي بعد انضمامه إلى أصحاب الحركة الأولين، ظهر عليهم حتى صار هو المحرك لكل شيء فيما بعد، والسبب في ظهوره على غيره أنه كان قبل الانضمام إلى الجيش يطلب العلم بالأزهر الشريف، فكانت له مقدرة متوسطة في الخطابة لم تكن عند غيره من الضباط، فضلًا عن انتمائه للبيت النبوي الشريف يرشحه لأكبر زعامة إسلامية، فأصبح بكل هذا صاحب المقام الأكبر في الثورة، واعتقد الناس في إخلاصه؛ لأنهم لم يروا له غرضًا خاصًّا مما كان في غيره من أصحاب هذه الحركة.
أما المعروض الآنف الذكر فقدمه إلى رياض باشا أحمد عرابي وعلي فهمي بأنفسهما في ١٣ صفر سنة ١٢٩٨ﻫ الموافق ١٥ يناير سنة ١٨٨١م، فألح عليهما أن يسترجعاه، وهو في نظير ذلك يبذل غاية وسعه في تلبية مطالبهما، فلما لم يذعن الضابطان وسمع الخديوي بالأمر استشاط غضبًا وأمر بتأديب هؤلاء العصاة، وقمع روح الفتنة من الجيش. وفي يوم ٢٨ صفر سنة ١٢٩٨ﻫ/٣٠ يناير سنة ١٨٨١، عقد مجلس برئاسة الخديوي، وقرر القبض أولًا على الضابطين المشار إليهما ومحاكمتهما أمام مجلس حربي، ثم النظر في مظالمهما.
وفي غرة ربيع الأول استدعي الضابطان إلى نظارة الحربية دون أن يخبرا بأن ذلك لمحاكمتهما. ولكن قرار مجلس النظار كان قد بلغهما سرًّا فاتفقا مع ضباط فرقهما ورجالهما على أن هؤلاء إن وجدوا أن رئيسيهما لم يعودا بعد ساعتين يذهبوا لإنقاذهما بالقوة. ولما بلغ الضابطان نظارة الحربية (قصر النيل) قبض عليهما، وأحيلا في الحال على مجلس عسكري لمحاكمتهما.
فبينما هذا المجلس مجتمع إذ هجم ضباط الآلايين ورجالهما، وأخرجوا رئيسيهما من حجرة اجتماع المجلس بعد أن عبثوا بأثاثها وأهانوا ناظر الحربية. ثم سار أحمد عرابي وعلي فهمي بجندهما إلى قصر عابدين وطلبا من الخديوي عزل ناظر الحربية.
وبعد أن نظر الخديوي في حرج الأمر لم ير بدًّا من إجابة طلبهما، فاستبدل عثمان رفقي باشا بمحمود باشا سامي، ففرح الثوار وطلب فهمي بك وعرابي بك العفو من الخديوي، بعد أن أعربا له عن رغبتهما في الولاء لسموه فصفح عنهما.
وبعد أن عزل الخديوي ناظر الحربية أمر بتشكيل لجنة للنظر في مظالم رجال الجيش، ورفع رواتب الضباط والجند المصريين، وأعلن أنهم سيكونون في مستوى واحد مع غيرهم من الأتراك والشراكسة. وبالاختصار هدأت الأحوال قليلًا وكان يظن أن الخطب انتهى عند هذا الحد.
على أن رجال الجيش لم يهدأ روعهم وعاشوا في خوف من الخديوي، خشية أن يعاقبهم على ثوراتهم، وكانوا يرون كل يوم من الشبهات ما زاد اضطرابهم، خصوصًا أن ناظر الحربية الجديد (محمود سامي باشا) عزل ونصب مكانه «داود باشا ابن أخي الخديوي».
وفي مساء ١٣ شوال/٨ سبتمبر ذهب إلى بيت عرابي رجل غير معروف، فلم يسمح له بالدخول فراب عرابي أمره وذهب في الحال؛ ليقص ذلك على زملائه من الضباط، وإذا بهم قد حدث لهم هذا الأمر بعينه فأيقنوا أن هناك مكيدة مدبرة لاغتيالهم.
مظاهرة عابدين
وازداد اعتقادهم يقينًا عندما أصبحوا فرأوا أن الأوامر صدرت «للآلاي الثالث» من المشاة بالسفر إلى الإسكندرية. فهاجوا وماجوا وسار عرابي بقسم من الجيش يبلغ ٢٥٠٠ جندي معهم ١٨ مدفعًا إلى ميدان عابدين، واصطفوا أمام قصر الخديوي في ١٥ شوال/٩ سبتمبر يريدون مطالب جديدة — فهال الخديوي الأمر، وطلب (السير أوكلند كلفن) المراقب الإنجليزي «وكان هذا قد نصب مكان السير بارنج، الذي نقل إلى منصب آخر في الهند، ودعي بعد ذلك باللورد كرومر»؛ ليستشيره فيما يجب عمله فحضر وسار مع الخديوي إلى قصر عابدين ونصح له بالظهور بالثبات، وأن لا ينسى أنه مليك البلاد وأن له هيبة تصغر أمامها كل شجاعة لعرابي ورجاله.
فنزل الخديوي إلى الميدان فتقدم إليه عرابي ليعرض مطالبه وكان ممتطيًا جواده وبيده حسامه، فناداه الخديوي أن «ترجل واغمد سيفك»، ففعل ذلك بالامتثال الواجب للملوك. ثم سأله الخديوي عما يقصد من عمله هذا «فقال: يا مولاي للأمة ثلاثة مطالب قد أتى الجيش إلى هنا للحصول عليها بالنيابة عن الأمة ولن ينصرف حتى يحظى بها.»
- (١)
عزل جميع النظار وتشكيل نظارة جديدة.
- (٢)
تشكيل مجلس نيابي للأمة.
- (٣)
زيادة عدد الجيش إلى ١٨٠٠٠ ألف.
وبعد المداولة رضي الخديوي بعزل النظار مع إرجاء الفصل في المطلبين الآخرين إلى أن يأخذ رأي الباب العالي.
فقبل عرابي ذلك وانصرف الجيش داعيًا للخديوي بطول البقاء، وطلب عرابي من الخديوي أن يصفح عنه فكان له ذلك.
غير أن عرابي داخل نفسه الغرور فبالغ في ادعاء ما ليس من حقه، فأصدر في ٩ سبتمبر منشورًا لقناصل الدول يطمئنهم فيه على رعايا دولهم، ويخبرهم أنه المؤاخذ على حفظ النظام، وهو حق غريب استباحه لنفسه، وكان الأجدر تركه لأمير البلاد أو لأحد وزرائه. فشكلت النظارة الجديدة برئاسة شريف باشا بعد أن أخذ تعهدًا من رؤساء الحزب العسكري بالامتثال لأوامره، فتهدئة للأفكار أرسل عرابي مع «ألايه» إلى رأس الوادي، وعبد العال مع ألايه إلى دمياط، فامتثلا، وأثناء غيابهما عن القاهرة حضر وفد من قبل الباب العالي للنظر فيما سمعته الدولة من المشاكل الجارية في مصر، فوجد ظاهر الأمور هادئًا فأعلم الدولة بذلك. وبعد سفر الوفد أصدر الخديوي أمرًا في ٢٦ محرم سنة ١٢٩٩ﻫ/١٨ ديسمبر سنة ١٨٨١م بتنصيب محمد سلطان باشا رئيسًا لمجلس شورى النواب.
فاجتمع الأعضاء وشكلت منهم لجنة لمراجعة قانون المجلس. فأقرت اللجنة أكثر المواد إلا ما تعلق منها بميزانية الحكومة. إذ رأت اللجنة أن للمجلس الحق في مراجعتها مع أن شريف باشا قد تذرع بالقانون إلى عدم جواز ذلك للمجلس؛ عملًا برغبة المراقبين والدول الأوربية خوفًا من تطرق الاضطراب ثانية إلى الشؤون المالية.
وكانت عرى الاتفاق بين الأعيان ورجال الجيش قد وثقت، فعين الخديوي عرابي وكيلًا لنظارة الحربية سنة ١٢٩٩ﻫ/يناير سنة ١٨٨٢، وأنعم عليه برتبة باشا إرضاء لذلك الحزب، فتمسكت اللجنة برأيها ولم ير شريف باشا وسيلة لإجابة طلبها لعلمه أن الدول لا تسمح بذلك.
فأرسلتا مذكرتين إلى شريف باشا عن يد معتمديهما في مساعدة الخديوي، ومساعدة حكومته للتغلب على المصاعب المتنوعة، التي تزيد الارتباك والقلق في القطر المصري، فراب الأمر أعضاء مجلس الشورى وتمسكوا برأيهم في أمر الميزانية. ولما رأوا أن شريف باشا يعارضهم طلبوا إلى الخديوي إقالته فاستقال، ثم شكل الخديوي وزارة جديدة في ٢٦ ربيع الأول سنة ١٢٩٥ﻫ/فبراير سنة ١٨٨٢ برئاسة «محمود باشا سامي البارودي»، طبقًا لرغبة أعضاء المجلس، وجعل أيضًا عرابي باشا ناظرًا للحربية فيها. على أن إذعان الخديوي لرغبة الأعيان بهذه الصفة كان يقصد به حلًّا عاجلًا للمشكلة، ريثما يتم الاتفاق على من يوكل إليه قمع هؤلاء الثوار بالقوة، وبمجرد تشكيل الوزارة الجديدة أخذ نفوذ الحزب العسكري في الازدياد يومًا بعد يوم؛ لأن رئيسها من المنتمين للحزب العسكري وتعيين عرابي ناظرًا للحربية وهو أكبر عامل في الثورة.
وفي يوم ٢٠ فبراير كتب السير إدوارد ملت المعتمد البريطاني بمصر إلى حكومته، يخبرها بأن المراقبة الثنائية أصبحت اسمية فقط، ثم زادت الوزارة الجديدة عدد الجيش ورفعت رواتب رجاله بلا اكتراث بما يصيب الميزانية. فجر كل ذلك إلى اشتداد الخلاف بين الخديوي ونظاره، وتفاقم الخطب حتى كان يظن أن العرابيين يرمون إلى عزل الخديوي، وتنصيب محمود باشا سامي مكانه، كل هذه الأعمال حركت همة الدول الأوربية من جديد.
المرحوم محمود باشا سامي البارودي «رئيس مجلس النظار»
ورأت الحكومة الإنجليزية أن يطلب إلى الباب العالي أن يصدر أمرًا إلى مصر يعضد به الخديوي، ويستدعي زعماء الثورة إلى الأستانة للإجابة عن عملهم. فوافقت على ذلك الحكومة الفرنساوية بعد تردد وفي ٨ رجب/٢٦ مايو قدم معتمدا إنجلترا وفرنسا مذكرة إلى رئيس مجلس النظار طلبا فيها استقالته من الوزارة، وإبعاد عرابي باشا عن القطر المصري مؤقتًا مع حفظ راتبه وألقابه. وأن يقيم عبد العال باشا وعلي فهمي باشا في الأرياف. ولهما أيضًا رواتبهما وأوسمتهما. فاستقالت الوزارة ولكن لم يسافر أحد ممن ذكروا في المذكرة.
أما الباب العالي فإنه لما بلغه رجاء إنجلترا وفرنسا أراد أن يظهر بمظهر صاحب السيادة في البلاد، وقال: إنه سيرسل سفيرًا من قبله لفحص المسألة، وأنه لا داعي لبقاء أساطيلها بالإسكندرية، فلم توافق الدولتان على ذلك ورأت أن مجرد بقائها بالمياه المصرية يكفي لإرهاب الثائرين وإلقاء الرعب في قلوبهم، ودعت إنجلترا وفرنسا الدول الأوربية إلى مؤتمر الأستانة؛ للنظر في المسألة المصرية، ودعي الباب العالي، فلم يرض بإرسال مندوب من قبله اعتقادًا أن حل المسألة المصرية من شأنه هو لا من شأن مؤتمر يعقده غيره من الدول. ثم أسرع إلى إرسال المشير مصطفى درويش باشا مبعوثًا من قبله إلى مصر؛ لتفقد أحوال العسكرية. ومن الغريب أن الباشا المذكور قال في تقريره إلى الحضرة السلطانية: أن العساكر محافظة على الطاعة، وطلب لضباط الجيش نحو ٢٠٠ وسام منها الوسام المجيدي من الطبقة الأولى لعرابي نفسه.
ثم اشتد غلو الحزب العسكري وأخذ يجمع الجيوش ويعد العدة، فزاد خوف الأوربيين المقيمين بالبلاد، حتى إن سكان الإسكندرية منهم تأهبوا للدفاع عن أرواحهم عند الحاجة، وبقيت الأحوال نزداد صعوبة واضطرابًا حتى جاءت تلك الحادثة المشئومة الشهيرة بحادثة ١١ يونيو أو «واقعة الأحد».
وأصل هذه الحادثة أنه في ٢٤ رجب سنة ١٢٩٩ﻫ/١١ يونيو ١٨٨٢، تشاجر رجل مالطي مع مكاري مصري في الإسكندرية لامتناع المالطي عن إعطاء الأجر الكافي نظير ركوب حمار المكاري. وكان المالطي ثملًا بالخمر. فطعن المكاري بمدية فانتصر لكل منهما قوم من أبناء جلدته، فتذمر بعض الرعاع من الوطنيين وأرادوا أن يثأروا من الأوربيين، ولا سيما أن حوادث الحركة العرابية كانت قد أوغرت صدور بعض الفريقين من بعض، وابتدأ الأوربيون يطلقون النيران من نوافذ بيوتهم على كل مار من الوطنيين. فازداد غضب المتجمهرين، وتضاعف الخطأ، ولم يوجد من يزجر الرعاع أو يشرح لهم ضرر فعلتهم مع تمادي الأوربيين المتحصنين في بيوتهم في إطلاق النار، حتى عظم القتال بين الفريقين ونهب كثير من مخازن المدينة. ثم صدرت الأوامر للجند بتفريق المتجمهرين، فلم يأت الغروب إلا وقد هدأت الأحوال وسكن الاضطراب، وقبضت الحكومة على كثير ممن وقعت عليهم شبهة القيام بهذه الثورة.
وقد لاحظ قائد الأسطول الإنجليزي بمياه الإسكندرية أن عرابي باشا مهتم بزيادة تحصين قلاع الثغر ليضرب منها أسطوله. فطلب القائد الإنجليزي إبطال هذا التحصين فأخبره عرابي أنه ليس بالقلاع أدنى حركة تحصين جديدة، ولكن «سيمور» أبصر بعد ذلك أن الاستعداد في القلاع قائم على قدم وساق، فأعلن قناصل الدول بالإسكندرية بأنه إن لم تسلم له قلاع المدينة في ظرف ٢٤ ساعة، اضطر إلى إطلاق نيران أسطوله عليها، وكان ذاك البلاغ في فجر ١٠ يوليو فلم يجبه عرابي إلى طلبه، فضربت العمارات الإنجليزية المدينة الساعة السابعة من صباح ٢٢ شعبان/١١ يوليو سنة ١٨٨٢م، وعددها أربع عشرة سفينة بين مدرعة ومدفعية، فجاوبتها قلاع الإسكندرية بعد خمس عشرة طلقة، واستمر تبادل النيران بين الفريقين عشر ساعات انتهى بدك تلك القلاع الضعيفة دكًّا من غير أن يصيب السفن الإنجليزية أذى يذكر. وفي اليوم التالي تراجعت حامية المدينة إلى الداخل، وعند خروجها من الإسكندرية أمر أحد أمراء الآلايات المدعو سليمان داود بغير علم «عرابي» أن تحرق المدينة، فاشتعلت فيها النيران ونهبها الرعاع، وفي يوم ٢٤ و٢٥ شعبان أنزل الأسطول الإنجليزي بعض الجنود تحتل المدينة، فعاد إليها الأمن، وأخذ الأهلون يرجعون إليها بعد أيام قلائل.
ثم أخذت الجيوش الإنجليزية والهندية تفد إلى الإسكندرية لمحاربة عرابي بقيادة «جراند ولسلي»، وكان عرابي قد عسكر بجهة كفر الدوار على بعد بضعة أميال من الإسكندرية، فلما وجد الإنجليز أن موقعه هناك حصين رأوا أن يدخلوا البلاد من الشرق من جهة قنال السويس، وعلم بذلك عرابي فعزم على ردم القناة؛ كي لا تمر منها السفن الإنجليزية، ولكن المسيو ديلسبس حمله على الكف عن هدم هذا العمل الخطير، وقال: إنه يمنع بحق حياد القناة مرور أي سفن حربية منها. فخدع عرابي بأقواله، ولم يقدر ديلسبس طبعًا على إنجاز وعده، ونزلت الجنود الإنجليزية من طريق القناة، فاستعد العرابيون للقائهم بجهة «التل الكبير» وكانت أهالي القطر تمد جيش عرابي بحاجاته طوعًا أو كرهًا، حتى اجتمع له من الخيل والبغال شيء كثير. أما موقعة التل الكبير فكانت في السحر الساعة الرابعة من صباح ٢٩ شعبان سنة ١٢٩٩ﻫ/١٣ ديسمبر سنة ١٨٨٢م، وكان عدد الجيش الإنجليزي فيها ١٧٤٠٠ مقاتل، وجيش عرابي نحو ٢٧ ألف جندي، فلتدريب الجنود الإنجليزية وحسن نظامهم انهزم عرابي أمامهم شر هزيمة، ولم تدم الواقعة أكثر من عشرين دقيقة، وفر عرابي نفسه إلى القاهرة وأراد الوقوف للإنجليز في طريق القاهرة، فخذله الناس وانكسرت نفس مساعديه فسار الإنجليز إلى القاهرة فدخلوها بلا مقاومة، وتسلموا القلاع وباقي الثكنات العسكرية في ٢٢ ذي القعدة سنة ١٢٩٩ﻫ/١٥ سبتمبر سنة ١٨٨٢م، وبذلك ابتدأ احتلالهم للقطر المصري فأيدوا العرش الخديوي، وعادت الطمأنينة إلى الأهلين، وقبض على زعماء الثورة وحوكموا بعقوبات صارمة، ولكن أدركهم عفو خديوي كريم باستبدال عقوبة الإعدام بالنفي، فقابلت الأمة هذه المنة بالشكر العظيم.
هذا وقد ظل رحمه الله ١٣ عامًا بين أسرته الكريمة أميرًا محبوبًا، وبين رعاياه مليكًا مهيبًا حتى أدركته منيته ظهر يوم الخميس ٧ يناير سنة ١٨٩٢م، فبكى عليه الرفيع والوضيع، وفي اليوم الثاني احتفل بتشييع جنازته من حلوان إلى مصر، ودفن بمدفن العائلة الكريمة، تغمده الله بالرحمة والرضوان.